لم يعد العاقل يحتمل كل تلك الاستطالات على الأرواح، والتجاهل الغبي لكلِّ القيم الإنسانية، فالروح التي كرّمها الله وصانها، صارت مبتذلةً رخيصةً، والأيدي القاتلة صارت مباركة، والألسن التي كانت تدعو للخير والصلاح، أصبحت أبواقًا ناعقةً بالخراب، فراحت تبرر للقاتل فعلته، وتمسح دم الجريمة من على كفّيه المباركتين، وتبرهن للرأي العام، بأن الضرب لا يعني شيئًا، والموت موعد محتوم، ولا مناص منه، فالأب كفيلٌ بتربية ابنته، وإن لم يربِّها والدها، فمن سيقوم بذلك؟
هذه الاختبارات الصعبة لإنسانيتنا وضمائرنا المبللة بماء الإثم، ورؤوسنا المكللة بالغار والعار، والشرف والشنار، باتت تلاحقنا كل يوم، فمعدلات الجريمة التي تتدثر بأثواب الشرف بازدياد واضح، والإحصائيات لا تكذب، فالتعامل مع لغة الأرقام، يضعنا أمام مشاهد خوارزمية معقدة، إذ إن الخمس سنوات الأخيرة شهدت ما يربو عن ١٢٩ حالة قتل لفتيات بِتُهَمٍ مختلفة، من أبرزها ( الشرف) بينما أُحيلت بعض القضايا إلى ( أسباب مجهولة) في حين أن ما نسبته ٢٪ من بين تلك الحالات قيل إنها كانت عمليات انتحار لأسباب نفسية. ومع أنَّ القانون الفلسطيني عُدِّلَ وفُصِّلَ، إلا أنَّ سلطة القتل هي التي ما زالت تحكم وترسُم، وهي التي ترصد وتنفِّذ، ثمَّ تخرج على العلن مُبررةً ومسوِّغةً القتل بما يقتلُ أولي الألباب، الذين فقدوا ألبابَهم، وأوصدوا أبوابَهم، وراحوا يعدّون الأرواح النافقة، وكأنهاجِيَفٌ لا أسف عليها.
ومع كل عملية قتل، تضجُّ الأرضُ ساعةً من نهار، ثم يمَّحي الصخبُ والغضبُ، ويتلاشى اللومُ والعتبُ، ويعودُ الوالدُ إلى بيته فاقدًا أُبوّتَه، وائدًا مروءته، ويعود الناس بالشاةِ والبعير، ويهدأ الضجيج والنفير، ويرضى الحليم من الغنيمة بالإياب، أما العشيرةُ فإنها تتداعى بِلَيل، لتُعلنَ للملأ أنها ما زالت ثابتة على الثوابت، وأنَّ جمرات العرب فيها ما زالت مشتعلة، وإن خمدت واحدة، فإنها توقد أُخرى، فالتقاريرُ الشرعيةُ تُجهَّزُ على مقاساتها، لتتزنَّرَ بها وهي تبرر الجريمة، وتتغنى بمبادئها الذميمة، وينتهي كل شيء بهدوء، لتعود "حليمة لعادتها القديمة"، " وَيَا دار ما دخلك شر".
إنَّ البيانات الرسمية التي تشير إلى النِّسب الدقيقة للمقتولات على خلفية ( جرائم الشرف) على الرغم من أنها قد لا تكون صادقة ١٠٠٪ نظرًا لمحاولاتٍ كثيرةٍ إخفاء الجريمة، وتذويبها بماء العُرف والعادة، والعيب والحرام، والعائلة والتقاليد، وتهرُّبًا من القانون الغائب، إلّا أنها تُشكِّلُ صدمةً حقيقية، خاصةً عندما تتعرف إلى قصة كل فتاةِ على حِدةٍ، فالفتاة التي قُتلتْ في السنة الماضية في شمال قطاع غزة بسبب محادثة فيسبوك مع أحد أقربائها، أُجبرتْ على الموت عدة مرات، ولمّا لم تنجح تلك المحاولات في سلب روحها، كان والدها صاحب الهمة، فأخذ بيدها إلى المجهول، وخلَّصها من عذاب الضمير، ودفنها تحت الرمل، إلى أن اكتُشف أمرها صدفة، وكل صدفة خير من ألف ميعاد. فهل تتكرر الصُّدَفُ التي باتت تقنيةً حديثة في سرديات أدب الجريمة؟
قبل أيامٍ قليلة خرج علينا بيانٌ رسميٍّ لإحدى العائلات، يبرر عملية قتلِ والدٍ لابنته، والأمرُ لم يتطرَّق لأيةِ إشارةٍ لقضايا الشرف، لكنه تطرَّق إلى محاولات تأديبية مارسها الوالد حقًّا طبيعيًّا لا جدال فيه، وهو تفويضٌ ربانيٌّ لا اعتراض عليه، فلفظت الفتاةُ أنفاسَها بين يديه، وهذا يُعدُّ من باب قضاء الله وقدره، ومن يجرُؤ عَلى الاعتراض، أو يملك ردَّ القضاء؟
وبهذه البلاغةِ الثاقبة، ثُقِبَتْ آذانُنا، وبُتِرَت أحاسيسنا، وبلغنا من الشرف العظيم مبلغًا لم يبلغه شيوخُ قبائلِ العرب الأوائل، ولا أهل الفقه الأفاضل، واحتمينا بضعفِنا وفقرنا وجهلنا، فكنّا سادةً سَوْداوِيّين، وسنصبحُ أكثر سوادًا من خوافي الأغربةِ السود، في وقتٍ لا يسود فيه القانون، ولا يجد المجرمُ من يُجرِّمُ فعائله، وستبقى المرأةُ في مثل هذه الحالات وبالًا على مَنْ أنجبَها، إلى حين أن يرث الله الأرض ومن عليها، ويسأل القاتل لم قتلت، وعند الله تجتمع الخصوم.
لا بدَّ من وقفةٍ جادةٍ أمام تصرفاتنا، ولا بد من جلسات محاسبةٍ ذاتية، فلننظرْ أوَّلًا إلى أسباب انحراف السلوك، فإن افترضنا بأنَّ الفتاةَ القتيلةَ كانت قد ارتكبت بالفعل جُرمًا مشهودًا كما يدَّعي قاضي العائلة، فهل فكَّرنا أولًا بأسباب هذا الجرم؟ هل سأل أحدهم نفسَه لماذا قامت ابنته بمثل ذلك التصرف؟ هل كان الحُبُّ الأبويُّ هو أوَّل ما زرعه الوالد في قلب وليدته؟ أم كان الوالد يمارس غوايته ليل نهار، وهو يغمضُ عينيه خوفًا من أن يراه المجتمع، ثم فتحهما بعد أن فات الأوان، ليرى ما لا يحب أن يراه؟ القضيةُ معقدةٌ، والتربيةُ أصبحت لغةً شاذةً، وعلم النفس لا بدَّ أن يقول قولته في الأمر، فهناك اعتلالٌ في الأخلاق، يجب أن يُشَخَّصَ تشخيصًا عمليًّا لا نظريًّا، لنعرف إلى أين نحن ذاهبون.