قبل نحو سبع سنوات من الآن، جلست وزملاء لي لامتحان المستوى والقبول في برنامج دكتوراه العلوم الاجتماعية الأول من نوعه الذي تقدمه جامعة بيرزيت، ولا زلت أذكر سؤالاً مركزيا في سياق تحليل الواقع الفلسطيني وتأطيره نظرياً ضمن منظومة الجنوب العالمي مقارنة بجوانب التاريخ الهندي التي عالجها رائد مفكري مدرسة التابع، راناجيت غوها، في مقاربته حول الأمة وفلاحيها. كنا نحن الفوج الأول، وكنت أنا حديث عهد بالعلوم الاجتماعية وأطرها الفلسفية، فأعياني السؤال والسائل. إلا أن المنطق الهندسي البسيط الذي دفعني لاحقاً لرفض "الما" كلازمة ثابتة في وصف دراسات "ما بعد الاستعمار"، ولنقد البنيوية وما بعدها ولتفضيل إعادة البناء والتركيب على الهدم والتفكيك، بمعزل عن فوكو وداريدا، كان ذاته الذي دفعني لاستحضار جوانب الهيمنة الثقافية والتبعية، في سياق الكتابة التاريخية، وإعطائهما بعداً يتجاوز منبت النظرية الأول في إيطاليا والهند، ويصلهما بالواقع المحلي وبمختلف جوانب السردية الأصلانية الحاضرة فيما تبقى من أرشيفات ماثلة في حيوات الفلسطينيين ومتذكراتهم التي ما انفكت تجوب حدود الوطن والذاكرة.
في بيرزيت درست التاريخ والحيّز والمجتمع، فأودعتها كلي، وبدأت بإحداث ما قد يراه البعض قطيعة إبستمولوجية مع الهندسة والعلوم الطبيعية البحتة. كان المساق الأول الذي درسته مهتما بدراسة السجالات النظرية والنقاشات النقدية الرئيسية التي تحيط بفكر الجنوب العالمي والمنطقة العربية. كذلك كانت القراءة الأولى التي وجدت نفسي مضطراً لقراءتها ومعالجتها بشكل نقدي هي "كهف أفلاطون" أو "أسطورة الكهف"، وهي المثال الحي الذي ضربه أفلاطون في الباب السابع من كتابه "الجمهورية" -حيث ناقش الفلسفة القابعة خلف الارتقاء بالنفس والفكر من خلال مقاربته المتصلة بفهم وإدراك المُثل الجوهرية الكامنة وراء المظاهر الخارجية والمعارف الحسية. فما كان مني سوى أن قمت بنتف البقية الباقية من شعر أعفاني منذ سنوات خلت من عناء تسريحه والاهتمام به، ولكنني تعلمت نقد الأنساق والبنى الكلية التي تستثني حضور الأفراد وتقصيهم من مشهدية الرواية وسط هيمنة السرد النخبوي والسلطوي.
بدأت بتحسس أصول الذاكرة الجمعية وأرشيف الروايات المختلفة في دائرتي الضيقة، وأخذت بمقاربة العديد من عناصر اللامساواة المكانية والوقوف على ركائز المشاهد النخبوية المحيطة، لكن قناعتي كانت راسخة أن هذه المسائل لا يمكن إخضاعها لمنطق الجغرافيا، وأنها عابرة للحدود الوطنية تماماً كما الهواء الذي نتنفس. مشاركتي الأولى خارج فلسطين كانت في جامعة الأخوين بالمغرب، في مؤتمر حول اللامساواة والتهميش في السياقات المحلية والعالمية. وتوالت المساهمات وتعددت حتى لامست مياه الأطلسي وشواطئ الهندي، وتابعت رحلتي في جامعة بيرزيت، وناقشت أطروحة الدكتوراه في بدايات جائحة كورونا، لأكون بذلك أول خريج يحصل على الدرجة من هذه الجامعة، وأسدل الستار على مسير طويل قضيته بين جنباتها وفي ربوع مكاتبها ومكتباتها؛ طالباً وباحثاً ومحاضراً.
ليس سهلا أن تودع بيرزيت، فأصعب النهايات وأوجعها تلك التي يُخيّل إلى المرء أنها بدايات تتراءى في صورة فرح، وأجملها تلك التي تمضي بك من ضيق البداية إلى سعة الطريق، وفي المتحف الفلسطيني تحقق الحلم وكان الطريق على سعته. التحقت بالمتحف الفلسطيني محرراً للأرشيفات والمشاريع الرقمية، ثم مديراً لمشروع الأرشيف الرقمي، حيث لامست الأرشيف، شغفي الأول، من جديد. كنت أفكر، في بدايات التحاقي ببرنامج الدكتوراه، أن اكتب أطروحتي حول الأرشيفات الفلسطينية، وبدأت البحث حولها فعلا، قبل أن ينتهي بي المطاف لمناقشة السياسات الحضرية والكتابة حولها -وكم من منزل في الأرض يألفه الفتى، "وحنينه أبدا لأول منزل". ذُهلت حين علمت، في يومي الثاني في المتحف، أن هناك اهتماماً بمجموعة الفنانة فاطمة المحب -كيف لا وهي أول مجموعة أرشيفية أتعرف إليها عن قرب خارج نطاق العائلة، وكم سرني أن تمكنّا من عرض بعض ما احتوت عليه في معرض "طُبع في القدس".
ومما لا شك فيه، أن المسائل المتعلقة بدراسة الأرشيف وإدارة مصادره وثيقة الصلة بالكتابة التاريخية، فهذه الأخيرة تكاد تكون مستحيلة في ظل غياب الأرشيف الذي يعطي للرواية أبعاداً أصلانية وإقليمية وعالمية، في حين أنها ستكون في حال غيابه أو انعدامه مجزوءة ومبتورة. وشهادات الأرشيف هي الدليل الراسخ والبرهان الدامغ اللذان يساهمان في الحفاظ على الذاكرة الجمعية للأمم، وفي الوقوف على أبرز محطات مسيرها وحيثيات تطورها. وتكتسي الأرشيفات أهمية بالغة في كشف الوقائع التاريخية للأجيال القادمة، بما يتيح لها استشراف المستقبل، ووضع الاستراتيجيات الملائمة للاستفادة من الأوعية الأرشيفية المختلفة وتوظيفها في التوطئة لنهج حياة مشرق ومستدام يرتكز إلى ميكانيزمات حفظ الذاكرة والتصورات الجمعية والمجتمعية المحيطة بها.
ورغم وجود العديد من الجهود المحلية لكشف أسرار الوثائق الأرشيفية الفلسطينية وسبر أغوارها، كمؤسسة الدراسات الفلسطينية والمتحف الفلسطيني وخزائن، إلا أن الأرشيف ما زال يعاني من غياب الأطر التشريعية الناظمة والضابطة للعمل الأرشيفي. وعلى غرار العديد من الأرشيفات الوطنية المستلبة، فقد تعرض الأرشيف الفلسطيني للكثير من الضياع والسرقة، حيث ركزت العصابات الصهيونية على طمس وتدمير مكونات إرث الفلسطينيين الثقافي والحضاري، وقامت بنهب الكثير من محتويات المكتبات الشخصية والوثائق الخاصة وإيداع بعضها في "المكتبة الوطنية الإسرائيلية". ومما لا شك فيه أن واقع عدم احترام ثقافة الشعوب المستعمَرَة من قبل المستعمِرين واستبعاد ذاكرتها الأصلانية من سياق الكتابة التاريخية، قد سبب شرخاً أخلاقيا بين سلطة الهيمنة والإنتاج المعرفي، وساهم في دفع القوى الاستعمارية المختلفة إلى الاستحواذ على أرشيفات البلدان المستعمَرَة ونهبها في إطار المحو الممنهج لكل تفاصيل الذاكرة وترسيخ السيطرة الاستعمارية وطمس الهوية والرواية التاريخية للسكان الأصلانيين.
وفي ظل الارتباطات العديدة والمتشعبة لعلاقة الأرشيف المعقدة بالتاريخ وآليات الهيمنة الاستعمارية، إضافة إلى شح المصادر الأرشيفية الفلسطينية وتشرذمها وتعذر استخدامها بشكل فاعل في عملية المقاومة الثقافية والسياسية والحفاظ على هوية السردية الأصلانية، فقد تزايد الالتفات، منذ منعطف القرن الحالي، إلى الأرشيف الفلسطيني من قبل المؤسسات والباحثين والمثقفين والناس العاديين عموماً ونشطت مبادرات للبحث عن هذا الأرشيف ولملمة شتاته، وذلك في محاولة لحفظ التاريخ وحماية الذاكرة الجمعية وإنقاذ ما تبقى منها ونقلها إلى الأجيال القادمة بشكل علمي ومنهجي بعيد عن التلاعب والتزوير، كما برزت الأرشفة الإلكترونية كواحدة من استراتيجيات الحفظ طويل الأمد الذي يساهم في الحيلولة دون ضياع وتلف وثائق الأرشيفات الورقية التقليدية. وفي هذا الإطار، أعلن المتحف الفلسطيني عن إطلاق مشروع الأرشيف الرقمي، الذي جاء كمبادرة استراتيجية تتقاطع وتتكامل مع رؤية المتحف وبرامجه المختلفة، حيث هدفت المبادرة إلى تكوين أرشيف رقمي مفتوح ومتاح لجمهور الباحثين باللغتين العربية والإنجليزية.
وفي سياق الرفض القاطع لكل المحاولات المتعلقة بتزييف وإعادة تشكيل مشهدية الرواية -من خلال إقصاء وتغيير وطمس الهوية الفلسطينية، يُضيء مشروع الأرشيف الرقمي للمتحف الفلسطيني على جوانب عديدة من تاريخ الفلسطينيين الاجتماعي وإرثهم العائلي، منذ عام 1800 وحتى وقتنا الحاضر. وقد أسس المشروع، من حيث نوعه وحجمه، لأول منصة أرشيف رقمية طويلة الأمد في فلسطين، واكتسب أهمية فريدة واستثنائية نظرا لمواجهته المستمرة لواقع التهديد والضياع المتواصل الذي يشهده التراث الفلسطيني جرّاء الممارسات الاستعمارية المختلفة. كذلك يتوسع المشروع ليوثق ما شهدته فلسطين من أحداث وانقطاعات تاريخية ونقاط مفصلية هامة كأحداث نكبة 1948 ونكسة 1967، ولاحقاً الانتفاضات الفلسطينية المختلفة، وما رافق ذلك من تحولات اجتماعية-اقتصادية أو انعطافات في الموقف النضالي والحراك السياسي والبحث الأكاديمي، وليشارك في تكريس حضور العمل الأرشيفي كفعل مجتمعي مستدام يتيح المساهمة في كتابة برهان الوجود الأصلاني ودرء كل مبررات المحو والغياب فيما يكتبه الآخرون.
*د. سليم أبو ظاهر: مدير مشروع أرشيف المتحف الفلسطيني الرقمي