الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

قراءة في الثقافة السياسية الفلسطينية: مواقف الأحزاب/الفصائل من الديمقراطية/ بقلم: ناجح شاهين

2021-04-22 12:33:19 PM
قراءة في الثقافة السياسية الفلسطينية: مواقف الأحزاب/الفصائل من الديمقراطية/ بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

إذا اخترنا البدء بالفكر الأكثر انتشاراً من الناحية الجماهيرية، ألا وهو الفكر الديني، أمكن لنا القول إن المواقف الأصولية للإسلام السياسي كما عبر عنها أبوالأعلى المودودي ثم صاغها في البيئة العربية سيد قطب لا تميل للاتفاق مع فكرة علي عبد الرازق في "الإسلام ونظام الحكم" التي تعد الإسلام دينا لا سياسة، وإنما تذهب إلى تبني فكرة أن الإسلام دين ودنيا. وهذا ما يجعل الديمقراطية جزءاً من إرث لا يتفق مع روح الإسلام أو نصه. ولعل الأكاديمي والداعية الذي ينظر بهذا الاتجاه لا يواجه أية صعوبة تذكر في حسم الأمر على هذا النحو مثلما يقول إياد البرغوثي (الإسلام السياسي في فلسطين: رام الله، 2000). أما رجل السياسة فقد يضطر إلى تبني آراء مختلفة تسوغ أدبياً ومنطقياً وسياسياً الانخراط في العملية السياسية (التحول الديمقراطي الفلسطيني: نابلس، 1999) بحسب مواصفات الديمقراطية المثال –التي يجسدها في الفهم المحلي الغرب- أو بحسب مواصفات الديمقراطية المتاحة في البلاد العربية وفي هذه الحالة فلسطين. وقد تقدم الإسلاميون خطوات مهمة جداً في هذا الاتجاه بدرجة أن الشيخ الراحل أحمد ياسين قد رد على سؤال حول مدى قدرة حركة المقاومة الإسلامية حماس على قبول الآخر وخصوصاً في حال فوز قوة مخالفة جذرياً للإسلاميين مثل الحزب الشيوعي، قال الشيخ إنه في حال انتخب الشعب الفلسطيني الحزب الشيوعي فإنه سوف يحترم إرادته تلك.

ويؤكد الراحل جمال منصور الذي كان من قيادات حركة المقاومة الإسلامية "حماس" أن "عموم التيار الرئيسي في الحركة الإسلامية وخصوصاً الإخوان يعلنون بوضوح قبولهم التداول السلمي للسلطة بشكل مفتوح. ويعبر قادتهم ومفكروهم عن الالتزام بخيار الشعب مهما كان، والاستعداد للانسحاب للمعارضة إذا تخلى الشعب عن انتخابهم." ولتعزيز رأيه السالف يضرب المؤلف أمثلة من واقع انتخابات الجامعات والجمعيات الأهلية والنقابات حيث ترك الإسلاميون قيادة هذه المنظمات عندما خسروا في الانتخابات. ولكن ما يغيب عن الكاتب هو أن الجامعات والجمعيات وما لف لفها ليست دولاً تمتلك أجهزة إكراه تمكنها من الارتداد على الديمقراطية. ولنا في مقابل حجته دليل ساطع من بلدان صناعية راسمألية كألمانيا التي وصل النازيون فيها إلى السلطة عبر انتخابات حرة ثم استعملوا جهاز الدولة الإكراهي لفرض الفاشية والحكم الفردي المطلق لأدولف هتلر. بل إن الدولة الإسلامية الأهم في العصر الحديث التي جاءت على أساس انتفاضة شعبية واسعة أذهلت العالم أجمع ونعني بها إيران سرعان ما ارتدت سلطتها الإسلامية على حلفائها فقمعتهم واضطهدتهم بأشكل متعددة واستفردت بالحكم. بالطبع لا يسع المرء أن يقدم العديد من الأمثلة المضادة بشكل دقيق وحاسم وذلك لأن الانتخابات ليست من المناسبات التي تتكرر كثيراً في السياق العربي والإسلامي.

سيشكك بعضنا محقاً في نية هؤلاء القادة السياسيين الفعلية باعتبار أن التجربة تشي أحياناً وتصرح في أحيان أخرى بأنهم عندما يجد جدهم يميلون إلى احتكار الحقيقة والمعرفة والصواب ناهيك عن الاستفراد بالسلطة ذاتها وإقصاء الآخرين أو نفيهم أو حتى اضطهادهم. وللأسف تعلمنا التجربة ذاتها بأن البقية الباقية من القوى الفلسطينية لا تقل عن ذلك إفراطاً في ثقتها في ذاتها أو استخفافا بالآخرين حتى لو فرض عليها مقتضى الموقف "الديبلوماسي" أو الأدبي أن تتظاهر بأنها تحترم وجهات النظر الأخرى. والصحيح أن هذه القوى في معظمها، إن لم يكن جميعها، يصغي إلى الآخرين مع ابتسامة مهذبة زائفة فحواها: "إنني أعرف أن ما تقوله خطأ بكل تأكيد، ولكنني مع ذلك أستمع إليك لأنني مؤدب، ولأنني من ناحية أخرى سوف أبين لك –على أية حال- أنك إنما تهذر بكلام فارغ لا قيمة له، وإليك فيما يلي الرأي الصائب والمؤكد." ويمكن لنا بسهولة أن نلاحظ ذلك داخل الحزب أو الفصيل الواحد بالذات. فقد تدلنا الملاحظة بالعين المجردة على أن الفصائل الفلسطينية المسلحة وغير المسلحة قد ظلت عشرات السنين متمتعة بالقيادة ذاتها، بمعنى أن رئيس الحركة أو الفصيل أو الحزب أو أمينه العام قد بقي هو هو إلا في حالات الموت. ويستثنى من ذلك قائد الجبهة الشعبية جورج حبش الذي أخلى مقعد القيادة لمصطفى الزبري المعروف ب "أبوعلي مصطفى" بعد اتفاقيات أوسلو، وفي ظروف أبعد ما تكون عن الالتزام بنتائج الانتخابات أو ما أشبه. ليس هناك شيء من قبيل أن ينتخب قائد جديد ويظل القائد السابق في داخل الحزب، ومثلما أن احترام الرأي المخالف ليس وارداً بين الأحزاب والقوى السياسية المختلفة فإنه بالطبع لم يكن وارداً في داخل الحزب الواحد. وهناك بالطبع رأي واحد يقال بصوت مرتفع، وأما إذا وجد رأي آخر يتمتع بصوت مسموع فلا بد أن حل معضلة وجوده لن يكون شكلاً من أشكال التعايش، وإنما انشقاق فريق عن الفصيل وتشكيله فصيلاً آخر. وهكذا مورست الديمقراطية في صفوف منظمة التحرير، عبر خروج الأقلية من التنظيم وليس عبر تعايشها في داخله. ومن هنا حافظت الفصائل الفلسطينية على وحدة داخلية عميقة تستند إلى وحدة الرأي والموقف والقيادة.

لا بد أننا هنا في مواجهة مشكلة في الثقافة السياسية أساساً. لذلك ليس في واردنا هنا أن ندعي أن شروط الانتاج الاقتصادي هي التي قادت مثلاً إلى خروج نايف حواتمة من الجبهة الشعبية وتأليفه الجبهة الديمقراطية. فلم يكن جورج حبش يملك مؤسسة اقتصادية، كما أن حبش وحواتمة ومن بقي مع الأول أو خرج مع الثاني هم "رفاق" مسيرة طويلة تمتد إلى بدايات حركة القوميين العرب التي تبلورت في بيروت بعد النكبة بوقت وجيز. ولذلك فإننا نميل إلى تفسير الموقف عبر اللجوء إلى عوامل التراث وعوامل الثقافة الاجتماعية والسياسية. ولا نظن أن غياب الديمقراطية هنا ناجم عن تهديد مصالح طبقية أو حتى سياسية بالمعنى الدقيق للكلمتين. ذلك أن مثالنا السابق يعقد الأمور إذا ما حاول المرء تبني تفسيراً يقول بأن أساساً طبقياً أو أساساً من التنازع السياسي الجوهري يقبع وراء خروج الجبهة الديمقراطية. واقع الحال الذي قد يتضمن بعض السخرية التاريخية هو أن الفصيلين اليساريين الأكبر في الساحة السياسية الفلسطينية قد "كافحا" معظم الوقت دون نجاح كبير من أجل أن يبينا لأعضائهما وأنصارهما قبل غيرهم أن هناك فروقاً نظرية وسياسية بينهما تسوغ بقاءهما في حالة الانفصال، خصوصاً بعد أن تبنت الجبهة الشعبية الماركسية اللينينية بقوة لا تقل عن الجبهة الديمقراطية.

وذلك يحيلنا إلى فحص موقفنا من موضوعة الانتخابات الفلسطينية "اليتيمة" 2006 والتي رفضت فيها القوة الممسكة بمقاليد الحكم أن تتخلى عملياً عن السلطة. فمن ناحية لم يكن من الوارد بطبيعة الحال، وبحسب ما تسعفنا به التجربة الفعلية أن يتخلى أي قائد عن منصبه أو حدود نفوذه. ويقف في مقدمة هؤلاء الراحل ياسر عرفات الذي ظل على رأس الهرم الفلسطيني حتى مات شيخوخة/مرضاً أو قتلاً مدبراً من هذه الجهة أو تلك، ولذلك فإننا يجب أن لا ننسى هذه النقطة بالذات. لكن ما يفسح المجال لفكرتنا عن تناقض مصلحة الفئة المسيطرة وليس مجرد رغبة الفرد/الأفراد في الاحتفاظ بمناصبهم هو أن الفوز الذي حققته حماس في العام 2006 لم يكن بحسب النظام السياسي الفلسطيني لينزع كل شيء من يد القوة التي تحكم والتي تهيمن فعلياً على مقدرات أجهزة الدولة. ولكن الذي جرى كان تهديداً فعلياً للسياسة التي ترعاها القوى الخارجية وخصوصاً الولايات المتحدة، كما أنه كان تهديداً لمن يمارس الفساد المالي المختلط بأشكال الفساد الأخرى. حسناً نستطيع القول إنه لو كان الفائز في انتخابات 2006 جهة غير حركة فتح ولكنها لا تنتمي إلى القوى الإسلامية "المتطرفة" لأمكن التعايش معها إلى حين إجراء الانتخابات التالية. ولذلك فإنه على الرغم من تسليمنا بأن هناك خصائص ثقافية موروثة تزيد من الأعباء الملقاة على عاتق الديمقراطية الفلسطينية، إلا أن الفلسطينيين قد نجحوا في الاحتفاظ بديمقراطيتهم عندما لم يكن النظام يتعرض للتهديد الجوهري من قبل قوة منافسة تشكل بديلاً للنظام ذاته وليس للحزب أو الحركة التي تنتمي مبدئياً إلى النظام مثلما هو حال فصائل منظمة التحرير الفلسطينية وأحزاب أخرى علمانية تأسست بعد أوسلو من قبيل "المبادرة الوطنية الفلسطينية". أما وقد دخلت إلى أرض الملعب قوى قادرة على تقويض الوضع القائم، فقد أصبح من الضروري أن تصادر بعض الحريات التي كانت مسموحة أساساً ومنها نقد القائد ياسر عرفات وحركته المسيطرة فتح، وهو ما كان نهجاً معروفا ًبل وسائداً في العمل الدعائي لفصائل المنظمة حتى ظن البعض أن هذه الفصائل تكتب عن عرفات وتقول عنه وتهتم به أضعاف ما تفعله تجاه من يفترض به أن يكون العدو الرئيس (بحسب معادلة التناقض الرئيس والثانوي الشائعة في أدبيات اليسار الفلسطيني في حينه) ولكنها مع ذلك لم تتعرض للمضايقة الجدية من قبل عرفات أو أجهزته، وقد استمر ذلك النهج دون تغيير كبير على وجه التقريب بعد أوسلو. أما الحركة الإسلامية فقد تعرضت للمضايقات والقمع المنظمين. ويورد إياد البرغوثي كيف أن السلطة قد شرعت من الأنظمة والقوانين ما يلزم لكي تهيمن على المساجد وعلى مؤسسة الأوقاف وتستغلها لمصلحتها بما في ذلك اشتراط حصول من يرغب في الوظيفة على موافقة أمنية (حسن سلوك) تسري لسنة واحدة، ويجب أن يتم تجديدها بعد انتهاء العام مما يعني أنها تظل سيفاً مسلطاً على رقاب الموظفين. كما أصدر غازي الجبالي مدير عام الشرطة الفلسطينية تعميماً في 16/4/1995 حظر فيه النشاطات التي تقوم بها بعض الجماعات الإسلامية في المساجد ومن ذلك إصدار مجلات الحائط والنشرات المختلفة. وتم التدخل أيضاً في عمل خطباء الجمعة ومن يلقون دروس المساجد وتم إجراء تنقلات للحد من تأثيرهم ومن قدرتهم على تكوين جمهور ثابت. وقد بلغت الأمور حد أن جمع التبرعات في المسجد قد يحتاج إلى موافقة الأوقاف. والواقع أن القوى الفلسطينية المعارضة في وجه العموم قد وقفت متفرجة حيال ملاحقة الإسلاميين، أو أنها اكتفت بمواقف وسطية تلقي باللائمة على الطرفين، أي فريق السلطة وفريق الإسلاميين وهو موقف قد يكون صادقاً من الناحية الوقائعية دون أن يكون صائباً من الناحية السياسية إذا كانت تلك القوى لا ترغب أن تسمح للقوة المهيمنة أن تستغلها في تمرير شكل ديمقراطي ذي كثافة منخفضة جداً عبر الإشارة إلى المعارضة العلمانية كلما احتاج الأمر التدليل على ديمقراطية السلطة وسعة صدرها تجاه المعارضين والنقاد.

هكذا يجد المرء نفسه أمام أدلة حاسمة على عدم وجود قوة سياسية فلسطينية "تؤمن" مخلصة بشروط اللعبة الديمقراطية الليبرالية التي تعني تداول السلطة عن طريق صندوق الاقتراع، ومثلما قلنا فإن الأحزاب كلها: دينية، وعلمانية، ويسارية، و"قومية" تتفق حول هذه النقطة وتحتفظ بقادتها "التاريخيين" الملهمين حتى آخر نفس في حياتهم. من هنا يسهل القول إن الانتخابات موضوع الجدال الحالي لا علاقة لها بالديمقراطية وممارستها وإنما بأجندات محلية و إقيمية وخارجية ليس من الصعب ممارسة "التحزير" بشأنها.