حين خصَّها الله من غير بقاع الأرض بالمعراج المقدس وفُتحت فوقها أبواب السماء لترعاها عيون الملائكة، كان لأهلها شرف الرباط على هذه الأرض وحمل الأمانة الربانية في حماية القدس ومقدساتها..
تلك الأمانة الربانية التي زَرعت في قلوب المقدسيين السكينة والصبر والعطاء، والقدرة على حماية هذه الأرض المقدسة التي أجمعت عليها الرسالات السماوية وجعلت منها مهد الديانات ومحط أنظار البشرية جمعاء..
هي القدس العربية الإسلامية بمقدساتها ومساجدها وكنائسها وأسوارها وحاراتها وقبور الصحابة والأولياء..
هذه القدس التي تُرِكت منها قطعة في قلوب كل المقدسيين الأموات منهم والأحياء..
القدس اليوم هي الجرح المزمن في خاصرة الجسد العربي الإسلامي المسيحي، تنزف منذ عقود مع كل مؤتمر قمة وكل اجتماع للجامعة العربية ومع كل اتفاق تطبيع وسلام..
ومع كل حرب أهلية أشعلتها نيران الفتنة الطائفية وأحرقت فيها الأرض والإنسان..
على أي قدس تتباكون اليوم..!!
على تلك الصابرة الجميلة المُغَيبة التي تنام على مصادرة أراضيها وتصحو على هدم بيوتها، لتشقى في الصباح بين دوائر الضرائب والتأمين الوطني ومكاتب الداخلية لتثبيت هويتها، هذه القدس التي أصبح سكانها ضيوفاً عليها مُقيمون وليس مواطنين بحسب الشريعة التلمودية..
على أي قدس تتباكون اليوم..!!
على تلك الجميلة التي سُرِبَت أراضيها وعقاراتها إلى دعاة الهيكل المزعوم على أيدي خفافيش الليل التي تختال كالطاووس بيننا تحت عيون الشمس الصباحية..
على أي قدس تتباكون اليوم..!!
على تلك العاصمة الأبدية المنسية منذ عقود خلف الحواجز والأسلاك الشائكة، تنزف وتجتر من دمها المقدس وتختلس النظر إلى السيارات والحراسات في عاصمة الوهم التي تسير بمواكب تحميها دورية حرس الحدود على طرق المستوطنات الالتفافية، هي ذات الدورية التي تحمي الجرافات الإسرائيلية وهي تهدم بيوت المقدسيين في شعفاط ووادي الجوز وسلوان وجبل المكبر والعيسوية..
على أي قدس تتباكون اليوم..!!
على القدس المحتلة التي تعيش اليوم تحت نظام دولة احتلال عنصري يمارس التنكيل وطمسٍ للهوية، وشاهدة عيان فيه كيف تكون ممارسة الديموقراطية في هذا النظام العنصري حين تتبدل الأحزاب والقيادات مع كل جولة انتخابات برلمانية..
نظام احتلال عنصري فهمت منه معنى المساءلة والشفافية حين أرسلوا رؤسائهم ووزرائهم إلى السجون بتهم الفساد وخيانة الأمانة الدستورية..
وفيه هذا النظام العنصري تعلمت معنى الخدمات المقدمة للمواطنين من تأمينات اجتماعية وخدمات صحية، وكيف تكون شبكة الأمان والتعويضات والرعاية للمواطنين في زمن الجائحات الصحية..
أي نموذج أرسلتم إلى القدس والمقدسيين يا دُعاة الوحدة الوطنية..؟؟
القدس ليست "كومبارس" في مسرح السياسية يحركها المخرج عند عرض المسرحية وتنسونها بعد إسدال الستارة في المسارح الأوسلوية..
القدس لا تعنيها قوائمكم، ولا يَعنيها مفهومكم للسيادة على بضعة من صناديق الاقتراع التي تُنقل حسب التعليمات الإسرائيلية لِتُسَلم على حاجز قلنديا للجنة الانتخابات المركزية، ولا تعنيها ديموقراطية القرارات والمراسيم الارتجالية، ولا صراعاتكم وانقساماتكم الفصائلية..
فماذا قدمتم لها يا حماة المشروع الوطني ودعاة الوحدة الوطنية...؟؟
ولماذا لا تعترفون لها أنها العذراء فينا التي نُحِرَت تحت ظلام الليل على رصيف أوسلو وصفقات الاتفاقيات المرحلية..؟؟