فجأة ودون سابق إنذار، وبينما كانت حكومة الاستيطان تتوهم استسلام حي الشيخ جراح الذي كان يبدو وكأنه وحيداً في مواجهة سلب البيوت واقتلاع أهلها، باستثناء حفنة من مواطني المدينة كانوا يحتجون بلا حيلة على استمرار تهويد المدينة ومحاولة دولة الاستيطان تغيير طابعها الديمغرافي. كل شيء كان يبدو وكأن الفلسطينيين بلا حيلة في مواجهة سياسات الضم وعزل المدينة والاستمرار في فرض الوقائع الاستعمارية العنصرية على معالمها وأحيائها الفلسطينية في سياق هجوم استيطاني استراتيجي لمحاولة حسم الصراع بتصفية مفاصل القضية الفلسطينية وقلبها مدينة القدس المحتلة.
وبينما كان الجدل ينفجر في الساحة السياسية الفلسطينية، ومعه التوتر المجتمعي يصلان حد الاستقطاب إزاء مكانة المدينة المنسية والتي تعاني الإهمال الرسمي الفلسطيني والعربي، وتتسلل لأزقتها وبيوتها بعض الصفقات المشبوهة دون أن يُحرك ساكناً، وأيضاً بينما هم منشغلون يفتشون عن مبرر لاستخدام حال المدينة ومكانتها في معركة داخلية كادت أن تنزلق لتتحول لوقود إضافي في صراع الانقسام العبثي، بين من يريد أن يعلق على كاهل المدينة مختبئاً بين أزقتها ليعلن تأجيل الانتخابات ومصادرة حق الناس في المشاركة السياسية المصادرة منها في دهاليز الانقسام، أو المزاودة على أهل المدينة انتصاراً ليس للمدينة بقدر ماهو لحسابات الفئوية الانقسامية دون التدقيق بمدى جدية اعتبار قضايا المقدسيين في أولويات اهتماماتهم.
نعم، يبدو فجأة؛ ولكنه ليس مفاجئاً لمن اختبر دور المصرارة وشارع صلاح الدين وأزقة البلدة القديمة ومؤسساتها في الانتفاضة الأولى، وكذلك من أختبر كل المقدسيين والمرابطين في أكنافها في معركتي النفق والبوابات باعتبارهما معارك مستقبل المدينة والوجود الوطني والتي تكثفت بمحاولة فرض السيادة الإسرائيلية على الأقصى وبواباته والمدينة بأكملها.
يخرج المقدسيون تلقائياً دون استئذان أو استجابة لتعليمات أو نداء لغير ضميرهم وحسهم الوطني الذي كما كل شعب فلسطين لم يضيع البوصلة، ليعلنوا أن القدس توحدكم وتأبى أن تكون مادة إضافية لا لانبطاحكم أو لمزاوداتكم الانقسامييّن، فالمدينة المقدسة درة التاج وعنوان القضية غير قابلة للقسمة أو الانقسام، فكل حجر في أزقتها وكل حرف على كنائسها ومساجدها وكل طفل يولد في بيوتها ينطق بالفلسطينية المتمسكة بعروبتها مهما بدا و كأن الأشقاء يتخلون عنها كما الأخوة يتركونها تائهين في صراعاتهم.
القدس شرارة الوحدة والنهوض الوطني والديمقراطي؛ هكذا علمتنا الانتفاضة الكبرى أنه فقط في معمعان النضال واتساع رقعة رفض ومقاومة مخططات الاحتلال يزدهر مضمون الديمقراطية بما هي اتساع المشاركة في الدفاع عن المصير الوطني وحقوق الناس الصغيرة منها والكبيرة؛ حقوقها في المواطنة كما حقوقها الوطنية.
كثرت الاستطلاعات التي حاولت تهميش جدول الأعمال والاهتمام الوطنيين في ادعاء أن لقمة العيش فقط هي الحياة والأولوية العليا بالنسبة للفلسطينيين، وليس الوطن والكرامة والعمل، كان ذلك في استدارة تستكمل الخضوع لمعركة كي الوعي، دون أن يدركوا قدرة وخبرة الفلسطيني على الربط بين الوطني والديمقراطي في إطلاق شرارة القدس وكرامة غزة وأنين الأغوار بل والجليل والنقب.
هذه رسالة القدس؛ حين يفرض الشعب إرادته، فهو لا يلتفت لأجندة القيود التي تُصادر الحريات أو تسعى للهيمنة على القضاء أو تُبيِّت لاستئصال الشاطئ الأخير من بقايا الوطن، بل إن رسالتها هي لتصويب كل ذلك حيث بدون هذا التصويب ستتعثر الرسالة. فالقدس لن يهمها كثيراً كيف تستعاد الوحدة سواء عبر الصندوق أم في ميدان المواجهة، بقدر الأهمية بأن تستعيد بوصلتها في مواجهة الاحتلال، فلا ديمقراطية حقيقية دون أن تكون محفزاً لاستنهاض طاقات الناس في النضال الوطني، وليس لحرف تلك البوصلة، فالديمقراطية بما هي وحدة وشراكة ومساءلة في حالتنا الفلسطينية تزدهر من قلب الميدان وفي قلوب وعقول الشبان والشابات الذين يحرسون الوطن في حبات العيون.