كل من امتلك الحدّ الأدنى من الخبرة في الشأن الفلسطيني، ومتابع لما أحدثه الانقسام تدريجيًا من إثر على مدى الأربعة عشر عامًا الماضية، كان يساوره الشك بمدى جديّة التوجه نحو الانتخابات، بما تمثله من استعادة للحق الطبيعي والدستوري للمواطن في انتخاب قيادته، ومحاسبة المسؤولين عن كوارثه الحياتية والوطنية، وذلك بفعل ما سبق وآلت إليه الأمور من تقويضٍ لمكانة ودور المؤسسات الوطنية الجامعة، التنفيذية منها والرقابية، وما نجم عن ذلك من غياب للمساءلة، وهيمنة السلطة التنفيذية على السلطة القضائية، وعدم الاكتراث بمكانة وحقوق المواطن.
لقد انجرف الواقع بفعل هذه القضايا وغيرها، لدرجةٍ أوصلت النظام السياسي المتفكك إلى نشوء ما يمكن تسميته بدكتاتورية السلطات على ضفتيّ الانقسام، لا سيما في ظل تآكل بنية مكونات الحركة الوطنية وتفريغ دورها على الصعيدين الاجتماعي والوطني واصطفافها الانقسامي، بالإضافة إلى سعي السلطات المنقسمة لتقويض أي محاولة لنشوء حراكات اجتماعية تهدف إلى بلورة أجندة اجتماعية وطنية لاستنهاض الأمل عند المواطنين، والدفاع عن حقوقهم المدنية.
لقد أجمع المراقبون أن قرار التوجه لإجراء الانتخابات، والذي أفضى إلى إصدار مراسيم جدولت مواعيد متتالية لتنفيذها، كانت في الواقع تلبية لحاجة خاصة عند الأطراف المهيمنة على المشهد، وليس لمراجعة شكل الحكم ونواقصه، أو لاستعادة دور الناس في المشاركة، بقدر ما كانت استجابة لمحاولة ترميم الشرعيات المتآكلة كحاجة للتواصل مع النظامين الإقليمي والدولي وليس كحاجة شعبية. فحركة حماس التي فشلت في حُكم غزة، كانت تسعى لخروجٍ آمن من مأزقها، وبما يوفر لها إزاحة أعباء الحكم عن كاهلها ويضمن لها الشرعية في النظام السياسي الفلسطيني تمهيدا لتقَبُلِها على الصعيدين الإقليمي والدولي، كما أن السلطة التي كانت تستعد للانخراط مجددًا في مفاوضات تحت وَهْمْ جاهزية الإدارة الأمريكية لرعايتها، وبما توفره لها الانتخابات من قدرة على البقاء كشريك في هذه المفاوضات، كاستحقاق يريده المانحون ورعاة المفاوضات. هاتان الحاجتان لكلا سلطتيّ الانقسام وفرتا أرضية الصفقة لما سُميَ بالقائمة المشتركة بين فتح وحماس لتكريس الوضع القائم وشرعيته عبر صندوق الاقتراع، وليس تغيير هذا الواقع الذي فرضه الانقسام وسياسات التفرد والإقصاء والهيمنة.
منذ أن فشلت صفقة "الرجوب-العاروري" بدأت تتردد في أروقة صنع القرار مسألة الرغبة في طيّ صفحة الانتخابات، وكان واضحًا أن الانتخابات لن تحدث، على الأقل في موعدها المعلن، وجاءت انقسامات فتح وتشكيل أكثر من قائمة لتطيح نهائيًا بمسألة إجراء الانتخابات، وكل ما تم منذ تلك اللحظة حتى إعلان إلغاء الانتخابات، لأجَلٍ غير مسمّى، كان يستهدف بلورة وتظهير التبرير "المقنع" للناس، ولم يكن أهم من القدس لتكون هي المبرّر على مذبح الديمقراطية، سيّما أن إسرائيل لم تكن في وارد الإسهام في تغيير هذا الواقع الذي كان لها اليد الطولى في ترسيخه، ولا الاستعداد لتقديم أي تنازل منحها إياه ترامب في القدس كعاصمة موحدة لدولة الاحتلال؛ فكانت النتيجة أن خسرنا الانتخابات كما "خسرنا" القدس، وكدنا أن نخسر الموقف الأوروبي فوقهما.
بهذا، ولأجلٍ غير مسمى، "خلصت حدوتة الانتخابات" ولكن السامر لم ينفضّ بعد، ويجب ألا يسمح الناس بذلك. فتداعيات طيّ صفحة الانتخابات لن تطوي الآمال التي نمت في بيدر الناس المتعطشة للديمقراطية، ليس لترف الحاجة لضرورة انتخاب قيادات جديدة أو متجددة، أو لاستعادة جزء من حقوقها المسلوبة في المشاركة السياسية على أهمية كل ذلك، بل للخلاص من المآسي التي خلّفها الانقسام على حياة الناس اليومية، والتي ترافقت مع أبشع أنواع الاعتداءات الاحتلالية في محاولة محمومة من حكومة الاحتلال لتصفية الحقوق الوطنية، ومعها الحدّ الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة.
تأجيل الانتخابات، أو في الواقع إلغاء الانتخابات، لم يقدّم أيّ جواب لاحتياجات الناس وكيف سيتم التعاطي معها، ولا للمسألة الوطنية وطريقة مواجهة المخاطر المحدّقة بها؛ حيث أن طريقة التأجيل، بقصدٍ أو بدونه، رهنت الإرادة الفلسطينية ومضمون القرار الوطني بيد إسرائيل، وبناءً عليه وفي حدوده سيتحدد المستقبل المترابط في حالتنا بين مهمات البناء الديمقراطي والتحرر الوطني.
الثابت هو أن قرار التأجيل هذا لم يكن ليُغامَر باتّخاذه لولا تفكك الحركة الوطنية وهامشية دورها في الدفاع عن حقوق الناس، ومدى ثقة الشعب بها، وبقدرتها على تحريك الشارع في المسألتين الوطنية والديمقراطية.
هذا كله من جانب، ولكن من جانب آخر، فإن ما أحدثته الدعوة للانتخابات والتي حملت، بالنسبة للناس، فرصة للمشاركة في تغيير واقعهم، عبّرت عنه نسبة الإقبال على تسجيل الناخبين التي فاقت ال93%، وفي قطاع غزة حيث التهميش والفقر والبطالة والحصار زاد على ذلك بصورة ملموسة. كما أن الإقبال الواسع على تشكيل قوائم عكَس هذه الحقيقة، والتي تضمنت ضعف الثقة بمكونات الحركة الوطنية في تمثيل الناس والدفاع عن همومها.
هاتان الحقيقتان الماثلتان للعيان وتُعبران عن إرادة الأغلبية التي كانت صامتة، والتي وجدت في احتمالية العودة للمسار الديمقراطي قبل إجهاضه، حالة تُمهد لحراك جدي يطرح مهمات واجبة لاستثمار هذا الفضاء السياسي الذي نشأ على مدى المئة يوم الماضية. وهو يُملي على الجميع الذي يسعى فعلياً للتغيير، ضرورة البناء عليه بعمل استراتيجي هادئ ومنظم لبلورة حركات سياسية تنهض بواقع الناس واحتياجاتها الوطنية والديمقراطية، ولا تسقط عليهم من السماء، حيث هنالك مؤشراتٍ واضحة على أن الأطراف التي سيطرت على مشهد الانقسام، وهيمنت على الواقع الفلسطيني، لم تستخلص الدرس بصورة كافية، وكلاهما لا يرغب بمغادرة مشهد الهيمنة والتحكم بمصائر الناس، سوى ببعض لمسات المكياج التي تعتقد أنها يمكن أن تُجمّل قبحه. ويبدو أنهما سييلجآن لكل السبل لاستعادة هيمنتهما حتى لو تطلب الأمر مزيدًا من مصادرة الحريات في الضفة، واستخدام وجع الحاجة لمتطلبات الحد الأدنى للحياة من أجل الذهاب بواقع الانقسام نحو الانفصال في غزة. ذلك في حال تراخي القوى الاجتماعية التي ما زالت تتململ وتجلس القرفصاء.
أمام هذه الاحتمالات، ليس أمام الناس سوى النهوض الكامل والبناء على ما أُنجز، ومواصلة الجهد بما يتطلبه من مراجعات وبناء تحالفات سياسية اجتماعية وفكرية متوسطة وبعيدة المدى؛ من أجل الإسهام في بناء حركة وطنية جديدة تمكن من تجديد هياكلها ودورها وقواها المحركة التي لها مصلحة حقيقية في التغيير، وربما إحداث تحوّلات في المجتمع قد تفرض أجندة التغيير داخل الأطراف التقليدية المهيمنة على المشهد ذاتها. وفي كل الأحوال، من غير المتوقع أن يعود الناس إلى قُمْقُم احتكار السياسة من قبل الأطراف المهيمنة، والتي للأسف بدأت تستخدم الموقف من مكانة القدس ومن العملية الديمقراطية وقودًا جديدًا للانقسام، وليس عناوين ومَهماتٍ واجبة لوحدة الشعب ورافعة لاستنهاض مكانة القضية الوطنية برمتها.
الحراك الشعبي يجب أن يَنصَّب هنا، وهنا فقط! فالمهمة الأساسية تَكمن في وقف التفرد والإقصاء والهيمنة الانقسامية، وتوحيد الجهود لفرض الالتزام بالقانون الأساسي بكل حذافيره، وإلغاء كل ما يتعارض معه. الأمر الذي يعني عدم السماح بتبديد انجازات الحالة الشعبية أو تراخي نهوضها خارج هذه الأولوية السامية، والتي ربما تتطلب تَقدُّم القيادات الشابة بجرأة لتولي قيادة العمل السياسي والميداني أو على الأقل المشاركة المباشرة في قيادته لإنجاز المهمة التاريخية المتمثلة في صون حقوق المواطن المدنية والحقوق الوطنية معاً. والتي لا تنتظر مُمَاحكات القيادات الفصائلية المسكونة بالفئوية والفشل وبذرة الانقسام. وبما يُمكّنها من التصدّي الفعال للأولويات الرئيسية، وفي مقدمتها استعادة المسار الديمقراطي، بأقصى سرعة ممكنة من خلال حكومة وحدة وطنية مخولة بصلاحيات كاملة، وفقًا للقانون الأساسي، وبما تُمكنها من معالجة كافة الملفات الناجمة عن حالة الانقسام، ومحاصرة النزعات الانفصالية التي نجمت عنه و تغذيها حالة الانقضاض على المسار الديمقراطي، وما يستدعيه ذلك من إلغاء لكل الإجراءات والقوانين بقرارات التي نشأت كطحالب في مياه الانقسام العكرة، بالاضافة للتحضير الجدّي لإجراء الانتخابات التشريعية الرئاسية بأسرع وقتٍ ممكن، دون التخلي عن استعادة مكانة ودور وإعادة بناء ووحدة منظمة التحرير الفلسطينية من خلال مجلس وطني توحيدي ينبثق عنه لجنة تنفيذية تعيد الاعتبار للمنظمة كجبهة وطنية ائتلافية عريضة تعبر عن مصالح الفلسطينيين وتطلعاتهم الوطنية في الوطن والشتات على أساس التمسك الحازم بحق العودة الحق في تقرير المصير وما يتطلبه ذلك من استراتيجية عمل ركيزتها تعزيز قدرة الناس على الصمود والبقاء، ومقاومة مخططات محاولة تصفية هذه الحقوق.