الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غزة تُسقط عقيدة الضاحية| بقلم: ناجح شاهين

2021-05-12 02:08:59 PM
غزة تُسقط عقيدة الضاحية| بقلم: ناجح شاهين
ناجح شاهين

"إن صرخات المستوطنين ذات الصوت المرتفع والنبرة المذعورة تسجل حالة من توازن الرعب ستجعل قادة إسرائيل يتراجعون عن تطبيق عقيدة الضاحية على النحو الذي تيسر لهم في 2014 "

كان خبراء إسرائيل العسكريين قد ابتكروا ما يعرف بعقيدة الضاحية، نسبة إلى ضاحية بيروت الجنوبية حيث مارست إسرائيل التدمير النسقي المريع سنة 2006. وتنص هذه العقيدة على ضرورة إيقاع أقسى أنواع الألم والمعاناة بالحاضنة الجماهيرية "للإرهاب" بغرض تشكيل ضغط على المنظمة "الإرهابية" حتى تستسلم. 

تم تطبيق هذه العقيدة بوحشية تامة في غزة 2008، وفي العدوان الأكبر من نوعه سنة 2014 لم تدخر إسرائيل أية إمكانيات لتعيش غزة كابوس الدم والدموع على امتداد أسابيع مرت على غزة كأنها عقود. 

كان اهتمام إسرائيل الأكبر في عملية الرصاص المصبوب سنة 2008، هو استعادة "الردع الإسرائيلي" لأن أعداء إسرائيل أصبحوا أقل خوفاً مما يجب أن يكونوا.  

وقد مثَل طرد الجيش الإسرائيلي المحتل من لبنان في العام 2000 بقوة المقاومة اللبنانية المبدعة تحدياً جدياً لقدرة الردع الإسرائيلية. كانت هزيمة مذلة لإسرائيل، وانتصاراً للمقاومة تم الاحتفاء به في أرجاء العالم العربي، وذلك جعل حرباً وشيكة أمراً لا مفر منه، لذلك بدأت إسرائيل الاستعداد الفوري للجولة التالية.

في العام 2006 عندما قتل حزب الله عدداً من الجنود الإسرائيليين وأسر اثنين، ثم طالب بتبادل هؤلاء مع المعتقلين اللبنانيين في السجون الإسرائيلية، ردت إسرائيل بكل قوتها بتشجيع من كونداليزار رايس التي كانت حالمة ببناء الشرق الأوسط الجديد قبل دخول دولة الإمارات في ذلك المشروع بزمن طويل. استخدمت إسرائيل مفخرتها سلاح الجو، وتقدمت من أجل اجتياح بري، ولكنها تلقت هزيمة مهينة للمرة الثانية في صيف العام 2006. 

بعد حرب 2006 ظلت إسرائيل تتحين الفرص لمواجهة المقاومة اللبنانية من جديد، ولكنها لم تكن واثقة من أنها ستخرج منتصرة في أية مواجهة جدية. ولذلك فقد اصطبغ السلوك تجاه لبنان بالحذر والضربات المتوازنة من قبل الطرفين. لكن كان لا بد من استعادة صورة الجيش الإسرائيلي المرعب الذي لا يقهر.  وقد وقع الاختيار على غزة الصغيرة، بدفاعاتها المتواضعة على الرغم من روحها المتحدية، وشجاعة سكانها ومقاوميها، لكي تكون الساحة التي تمارس فيها إسرائيل استعراضها لقدراتها الرادعة. 

إذا كانت غزة هي الساحة التي ستعيد لإسرائيل قدرتها الردعية، فإن تجربة 2006 هي التي تحدد الاتجاه. في تلك الحرب سوت إسرائيل بالأرض الجزء الجنوبي من بيروت المسمى بالضاحية حيث يقطن جمهور حزب الله المكون من الشيعة الفقراء. وبعد الحرب طور الخبراء العسكريون الإسرائيليون ما يعرف ب "عقيدة الضاحية" عندما كانوا يفكرون في خططهم المستقبلية المحتملة: 

1."سوف نستخدم قوة غير متناسبة ضد كل قرية تخرج منها الطلقات ضد إسرائيل، وسوف نتسبب في دمار كبير. هذا ليس اقتراحاً إنه خطة تم إقرارها بالفعل." (قائد منطقة الشمال غادي ايسنكوت)

2."الحرب التالية... سوف تقود إلى محو القوة العسكرية اللبنانية، وتدمير البنية التحتية في لبنان، وإلحاق المعاناة الكبيرة بالسكان. سيكون هناك تدمير جدي لجمهورية لبنان، وهدم للمنازل والبنية التحتية، ومعاناة تلحق بمئات الآلاف من الناس. ذلك هو القصاص الذي يمكن أن يؤثر في سلوك حزب الله أكثر من أي شيء آخر." (رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي غيورا آيلاند)

3."عندما تندلع المواجهات، ستحتاج إسرائيل إلى أن تتحرك بسرعة، وبشكل حاسم، وباستعمال القوة غير المتناسبة... ومثل هذا الرد يهدف إلى إيقاع الدمار الواسع والشامل إلى الحد الذي سيتطلب عملية طويلة ومكلفة من أجل إعادة البناء. (العقيد احتياط جبرييل سيبوني) 

4. بالنسبة للفلسطينيين كان مئير شتريت واضحا بما يكفي:"عندما يطلق الفلسطينيون صاروخاً آخر، على جيش الدفاع الإسرائيلي أن يختار حياً في غزة ويسويه بالأرض." 

يمكن استخلاص الخطة التنفيذية للرصاص المصبوب من تصريحات القادة الإسرائيليين في الوقت الذي كان فيه العدوان قيد الإعداد:"ما علينا فعله هو التصرف على نحو نسقي، بهدف معاقبة التنظيمات التي تطلق الصواريخ والمورتر دون استثناء، وفي الوقت نفسه معاقبة المدنيين الذين يسمحون لها بإطلاق النار والاختفاء." (اللواء احتياط عميران ليفي)؛ "بعد هذه العملية لن يظل هناك عمارة واحدة لحماس دون تدمير" (مساعد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي دان هارل)؛ "أي شيء يتصل بحماس هو هدف مشروع." (الناطق باسم جيش الدفاع الإسرائيلي الرائد أفيتال لبيوفيتز). 

وقد أوضح ذلك كله بلغة نارية نازية مساعد رئيس الوزراء إيلي يشاي: "يجب ن يكون ممكناً أن ندمر غزة، حتى يفهموا أنه لا يجوز العبث معنا... إنها فرصة عظيمة لهدم الآلاف من منازل الإرهابيين، حتى يفكروا مرتين قبل أن يطلقوا الصواريخ... آمل أن العملية سوف تنتهي ...بالتدمير النهائي لحماس والإرهاب ... يجب أن يتم  اجتثاثهم نهائياً، لذلك لا بد من هدم آلاف المنازل، والأنفاق والمصانع." ولم تكن إسرائيل تحاول أبداً أن تخفي حقيقة أنها ترد بشكل غير متناسب. بالعكس كانت تريد أن توصل رسالة لأهل غزة أنها "مجنونة رسمي" وأنها قادرة على ارتكاب الفظائع كلها. كان الإرهاب و"تكفير" المدنيين بالمقاومة هو الهدف الذي يتلألأ في سماء السياسة الإسرائيلية. 

عندما استهدفت إسرائيل المدنيين اللبنانيين خلال حرب 2006، فإن ذلك لم يكن سببه غياب أية خيارات أخرى، ولا بسبب أن حزب الله قد استفزها لتفعل ذلك. يعود السبب في الحقيقة إلى أن إرهاب المدنيين اللبنانيين بدا أرخص طريقة "للتعليم". وقد بدا ذلك التعليم أرخص بما لا يقاس في حالة غزة التي تخلى عنها الجميع بمن في ذلك جزء من القيادة الفلسطينية المنقسمة في سياق انقسام غزة عن الضفة. 

من نافلة القول إن فظائع 2008 و 2012 وأخيرا 2014 التي كانت نموذجا فريدا من نوعه يذكر بقيام هتلر بتسوية وارسو بالأرض من أجل قمع انتفاضتها، قد صممت لكي تردع الفلسطينيين نهائيا عن التفكير بأي شيء باستثناء أن تتركهم إسرائيل دون قصف. لن يجرؤ أحد في غزة على رفع رأسه إلى الأبد، وسوف تفعل إسرائيل ما يحلو لها في الضفة تهويدا واستيطانا وضما للأراضي وصولا إلى تطهيرها نهائيا من السكان. وقد سادت فترة من الهدوء والحذر الواضح منذ العام 2014 بما شجع القادة الإسرائيليين على تهنئة أنفسهم على إنجازهم الردعي العظيم. بل إنهم بدأوا يهمسون إن المقاومة اللبنانية ذاتها قد تعلمت بما يكفي لكي "تختصر" الشر وتبتعد عما يستثير الغضب الإسرائيلي المجنون. 

ولكن انتفاضة القدس تدحرجت بقوة من الشيخ جراح إلى باب العمود إلى الأقصى إلى تضامن سكان فلسطين الداخل ...الخ، ثم قررت المقاومة أن تظهر ما لديها من مهارات تم تطويرها خلال السنوات السبع الأخيرة. وهكذا اتضح أن عقيدة الضاحية قد تجاوزها الزمن. 

أولاً إن غزة لم "تتعظ" ولم "تتعلم الدرس"، إنها تلميذ كسول جداً في تلقي دروس الإرهاب والتخويف الصهيونية.

ثانيا ها هي غزة تجرع مدن الكيان من الكأس ذاتها. 

إذا كنتم تريدون إرهاب أطفال غزة ومدنييها العزل، فها نحن نحيل حياة مستوطنيكم إلى كابوس. 

من ناحية أخرى من الواضح أن قدرة المقاومة على إلحاق الأذى بالعدو قد ارتفعت بوضوح بما يلجم -أو هذا ما نأمل- الشعارات المتحذلقة من قبيل "الصواريخ العبثية" وما شابه ذلك.

ونتوهم في هذا السياق أننا لا نستند إلى التفكير الرغبوي الحالم، بل إن صرخات المستوطنين ذات الصوت المرتفع والنبرة المذعورة تسجل حالة من توازن الرعب التي ستجعل قادة إسرائيل يتراجعون عن حماسهم لتطبيق عقيدة الضاحية على النحو الذي تيسر لهم سنة 2014. إن المواطن الفلسطيني إنسان من لحم ودم ومشاعر وأعصاب، وهو يتألم ويخاف ويعاني ويرغب في الحياة وفي تجنب الألم، ولكن المستوطن الصهيوني المدلل أقل قدرة منه بكثير على تحمل ضريبة الدم والدمار الثقيلة. 

في اليومين الماضيين كان التدمير الإسرائيلي المنظم والمقصود لبرج هنادي وغيره منسجماً مع عقيدة "الضاحية" ولكن المقاومة الفلسطينية تقارع قوة العدو وتلحق به الخسائر الفعلية بما يسمح بالقول إن إسرائيل سترتدع هذه المرة وتعاني وتطوي صفحة الماضي لتفتح صفحة جديدة من صفحات الصراع تعترف فيها بتوازن قوة الردع، وتشرع ربما في البحث عن مخرج سياسي "معقول". وربما أن المزيد من تصاعد القوة الفلسطينية سيسمح لطلبات فلسطينية "خيالية" من قبيل حق العودة أن تعود إلى مصاف الشروط الواقعية لأي تفكير في التسويات.