ترجمة الحدث - براء بدر
كتبت المهندسة والفنانة والأكاديمية الفلسطينية ديما سروجي، مقالة لها تحت عنوان "نحن نعيش النكبة مرارا وتكرارا" تتحدث فيها عن الانتفاضة وممارسات الاحتلال الإسرائيلي الوحشية في الأراضي الفلسطينية.
الحدث ترجمت المقال، وجاء فيه:
جسدي مليء بالغضب، يرتجف. هذا الغضب ليس فقط بسبب اعتداء "إسرائيل" الأخير على الفلسطينيين في الداخل المحتل، أو سلسلة الاعتداءات على الفلسطينيين في غزة وحيّ الشيخ جراح بالقدس، والمسجد الأقصى المبارك. هذا النوع من الغضب متجذر في الصدمة عبر الأجيال التي ورثها كل فلسطيني، والتي نحملها معنا في كل مكان.
في مقطع فيديو انتشر مؤخرا على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي، شوهدت أسرة فلسطينية في غزة مذعورة مع اقتراب صوت القنابل الإسرائيلية. في الفيديو يُسمع الأب وهو يأمر أطفاله بالنهوض للاحتماء بالطابق السفلي.
رغم أنني أعيش على بعد آلاف الأميال من غزة، لكن مشاهدة هذا الفيديو أعادت إليّ ذكرى لصدمة عشتها في طفولتي كفلسطينية نشأت في الضفة الغربية المحتلة خلال الانتفاضة الثانية. كنت أبلغ من العمر 10 سنوات عندما استلقيت بوضعية الجنين في حوض الاستحمام الخاص بنا في بيت جالا، مرتدية ملابس كاملة، مع وسادة تحت رأسي. واستلقى أخي الأصغر بجانبي، وهو أيضًا في وضعية الجنين، وقد طلب من أمي بطانية. أحضرتها أمي وقالت: "في أي فصل من هاري بوتر نحن اليوم؟".
عندما قرأت والدتي الكتاب لنا، أتذكر جيدا أنني كنت أفكر، "هذا لا يبدو طبيعيًا". كان هناك تنافر مكاني كبير بين حياتي التي أعيشها في ذلك الوقت وبقية العالم. كان هذا الشعور بالكسر لا يطاق بالنسبة لطفل. لقد فهمت حينها أن العالم كان غافلاً عما كان يحدث لنا. كانت فكرة أن يكون صوتك غير مسموع أشد إيلاما من معرفتك بالموت المحتمل. حينها تخيلت الأطفال في أماكن أخرى من العالم يستيقظون، ويذهبون إلى المدرسة مع غداء مرزوم، ويمشون كلابهم في المساء، ويذهبون إلى دروس الموسيقى في عطلات نهاية الأسبوع. كانت تلك الرؤية لحقهم في العيش بشكل طبيعي مؤلمة.
خلال تلك السنوات، تابعنا عن كثب الراديو والتلفزيون لتتبع هدف "إسرائيل" في ذلك اليوم، والذي كان منطقتنا. كنا ننام في أسرتنا فقط عندما تخف أصوات المدافع الرشاشة والدبابات والقنابل، لكن إذا كان صوتهم أعلى قليلاً، فقد كنا ننام على مراتب على الأرض للبقاء بعيدًا عن النوافذ، لتفادي التعرض لرصاصة قد تخترق شباكنا. أما إذا كانت الأصوات عالية جدا، كنا ننام في الحمام، حيث جعلنا حوض الاستحمام نشعر بالأمان في ذلك الوقت.
لقد كان هذا روتيننا لمدة ثلاث سنوات. لكن عندما سمعنا الطائرات المقاتلة والمروحيات الإسرائيلية عن بعد، علمنا أن الوقت قد حان للانتقال من الحمام إلى الطابق السفلي، للاختباء تحت الدرج، حيث كانت الجدران والعمارة سميكة بما يكفي لإنقاذنا إذا أسقطت الطائرات قنابل على منزلنا. كانت فرصة أن نكون التاليين في القصف دائما متاحة.
شاهدت محمد الدرة وهو يقتل على يد جنود إسرائيليين على شاشة التلفزيون بينما يبذل والده قصارى جهده لحمايته. لقد كان الصبي في طريقه لشراء دراجة للمدرسة.
عندما كنا ننام تحت الدرج في الطابق السفلي، الذي كانت رائحته مثل الصدأ والغبار من الركام وأبواب المرآب المعدنية القديمة، كانت أمي تضع ذراعيها حولنا في كل مرة تسقط فيها قنبلة في مكان قريب.
صرخت لها ذات ليلة: كيف تجرؤين على محاولة حمايتنا مثلما حاول والد محمد الدرة حمايته؟. "لا تتظاهري بأنك تستطيعين فعل أي شيء! هذه قنابل! ستموتين، تماما كما مات والد محمد".
مع مرور الوقت، تمكنا من الخروج والابتعاد. لقد حملت هذا الذنب معي في ذلك الوقت كما أفعل الآن. هناك فجوات كبيرة في طفولتي لا أتذكرها على الإطلاق. يحمي العقل نفسه من الأحداث المؤلمة، وإذا تعلمت التعايش معها، يمكن أن تستغل هذه الأحداث بطرق مثمرة، من خلال الفن والموسيقى والأفلام والثقافة.
في الأيام الهادئة، يمنحني هذا الاضطهاد المتنقل عبر الأجيال هدفًا. يمنحني القوة لخوض الحياة وأنا أعرف الصواب من الخطأ، دون أي شك. على مر السنين، لا يكسرنا، بل يثخن بشرتنا ويقوينا. على الرغم من مرور 73 عامًا من القوة الوحشية والقمع المنهجي الذي تمارسه "إسرائيل"، إلا أن صوت المقاومة يرتفع ويقوى داخل كل واحد منا.
المقاومة الفلسطينية ليست قتالاً ضد حدث فردي
أشعر أنني أقوى من والدتي التي تمردت على الجيش الإسرائيلي خلال الانتفاضة الأولى. والتي كانت أقوى من جدتي التي أجبرت على الخروج من مدينة الرملة في سن الثانية عشرة خلال نكبة 1948 تاركة وراءها عائلتها وممتلكاتها. سجنت إسرائيل إخوتها بسبب دفاعهم عن أنفسهم ومحاولتهم للاحتفاظ بمنزلهم. توفي والدها، جدي الأكبر، بعد أن ضرب رأسه بالحائط كل ليلة من الحزن الذي حمله، بعد أن فقد عائلته ومنزله ومزارعه، وفي النهاية روحه.
بينما أشاهد الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين في القدس وغزة وفي جميع أنحاء فلسطين المحتلة الآن، لا يسعني إلا التفكير في الأطفال الذين سيحملون هذه الصدمة لبقية حياتهم. هذه الأحداث ليست لحظية، فهي تبقى معك. المقاومة الفلسطينية ليست قتالاً ضد حدث فردي، إنها حالة دائمة من الوجود.
لم تنته الانتفاضة الثانية كما لم تنته الانتفاضة الأولى كما لم تنته النكبة. هذه الأحداث يعيشها كل فلسطيني. نشعر جميعًا بالنقص المستمر، لكننا نواصل الصمود على الرغم من الفصل العنصري الإسرائيلي. في مواجهة القمع والدمار المستمر، نمارس الحب - الحب لأنفسنا والحب لبعضنا البعض. قد يؤدي العنف في جميع أنحاء فلسطين اليوم إلى ميلاد صدماتنا الجماعية مجددا، ولكنه أيضًا يجعل قصتنا أقوى، ويقوي روابطنا كشعب.
*ديما سروجي مهندسة معمارية وفنانة فلسطينية تعمل في مشاريع تتعلق بالسياسة والمكان ، خاصة فيما يتعلق بفلسطين. تخرجت من كلية ييل للهندسة المعمارية وتقوم حاليًا بالتدريس في جامعة بيرزيت.