شكل الالتفاف الشعبي حول المقاومة خلال أيام العدوان على قطاع غزة استفتاء جماهيريا على أمرين مهمين، الأول: شكل وطبيعة القيادة الفلسطينية التي يطمح إليها الشعب الفلسطيني، أي "الفاعل"؛ والثاني: شكل وطبيعة الطريقة التي يمكن من خلالها استرداد الحقوق الفلسطينية، أي "الفعل". والأمران (الفعل والفاعل) متلازمان مرتبطان ببعضها البعض غير أن الأسبقية تكون للفعلِ على الفاعلِ، فالعملُ المنجز يفرزُ حتما قيادته. هكذا استمدت حركة فتح مشروعية قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وهكذا نازعتها على شروط قيادتها حركات المقاومة الفلسطينية الأخرى، وما زالت.
لكن، ومنذ برنامج النقاط العشر عام 1974، استقر الفعلُ الفلسطيني على الجمود عند نقطة الصفر، بالتخلي عن الكفاح المسلح كأداة، وبالتخلي عن المقاومة كنهج، وبالتخلي عن فلسطين التاريخية كجغرافيا مكانية لتحقق الفعل. وعلى هذا، حل محل الفعل أدوات تقودها مصطلحات: الطموح والأمل والسلام والشجعان والتعايش والمفاوضات والدولة، فدخل الفلسطيني في مرحلة "ما فوق واقعية"، أو "رومانسية واقعية"، مقنعاً نفسه بأن عودة الفلسطيني إلى فردوسه المفقود وبلاد عجائبه أدواتها داخل صندوق "الدولة". وبدأ طموح الدولة يتبلورُ قبل التحرر واستقر في الإعلان عنه في الجزائر قولاً رمزياً إلى أن تقزم إلى سلطة منزوعة السيادة تؤدي دوراً وظيفياً.
وحصل أن ظلت القيادة تفرز نفسها عند نقطة الصفر، فبُني الفعل الفلسطيني وفق شروط الحلول المرحلية السلمية وكان طريقاً نحو بناء الوعي الجمعي الفلسطيني وبناء الفلسطيني الجديد وفق فكرة أن هنالك طريقا وحيدا لا يمكن بلوغ نهايته إلا بتقديم الفلسطيني للعالم كطرفٍ في صراع، وأن هذا "الفلسطيني" على استعداد دائماً لإعادة رسم خارطة فلسطين بما يتلاءم مع الظروف والمعطيات الدولية وموازين القوى القائمة.
وقد استمرت هذه المعادلة المعكوسة ما بين الفعل وقيادة الفعل تشكل ميادين الفعل والفاعل فلسطينياً، وكانت تتخللها وقفات تدق جدران الخزان ما بين الفترة والأخرى؛ من انتفاضة الحجارة الأولى والتفجيرات الاستشهادية ما بعد أوسلو، وانتفاضة الأقصى، وعمليات الطعن والدهس المنفردة، وأربعة وقفات صمود في غزة ضد العدوان عليها. جميعها كانت تعيد الواقع الفلسطيني إلى خارج "رومانسيته الواقعية"، وكانت تستنطقُ وعي الفلسطيني في واقع موازٍ يعيشه يومياً على شكل استشهاد وأسر وتدمير واستنزاف كرامة حتى أصبح هذا الواقع الموازي مدركا كواقعٍ يقودُ ويجدُ له مساربه في داخل منظومة الواقعيين أنفسهم اللذين إن بلغ الفعل أقصاه عندهم صمتوا في حضرة المقاومة.
ما تعلمنا إياه كل وقفات الصمود في غزة والشيخ جراح والتضحيات التي قدمها الفلسطيني قبلها كما سيظل بعدها أن "الفعل المقاوم" قادر على أن يجرد "الفعل الواقعي" من مضمونه بل من جدارته على الفعل، أي بالمحصلة من سيادته الموهومة على الفعل، وسيظلُ "الفعل المقاوم" متفوقاً على الفعل الممأسس في أروقة الطموح نحو "الدولة" ما لم يتحقق شرطها التأسيسي: التحرر.
وسيظل هذا الواقع يتمدد ويكبرُ ويتراكم الوعي حوله ما دام ظرفُه الذي يقاوم ضده متوفرا: العنف الاستعماري، والقيادة الرومانسية التي لا تقود. وما جرى في غزة ليس سوى حجرٍ يُضافُ أمام حجر ليرصف من جديد طريق الوعي بـ "فعل المقاومة" نحو تحرير فلسطين.