لا يزال وقف إطلاق النار والذي تم التوصل إليه إثر العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة هشا ومعرضا للانهيار في أية لحظة، ذلك أن طرفي الحرب لم يحققا أهدافهما من العملية العسكرية التي أشعلها بنيامين نتنياهو كمخرج من مأزقه السياسي الداخلي وفشله في أربع جولات انتخابية في تشكيل حكومة برئاسته واستعداده لجولة خامسة من الانتخابات ليظل على رأس السلطة التنفيذية محصنا من الملاحقة القضائية في تهم الفساد الموجهة إليه التي قد تقوده إلى السجن وتنهي حياته السياسية وهو الذي يطمح أن يكون ملكا متوجا على إسرائيل ويتفوق على تيودور هرتزل ودافيد بن غوريون.
اختار نتنياهو شهر رمضان ليطلق أيدي المستوطنين للعبث في المسجد الأقصى والقدس القديمة وتهجير حي الشيخ جراح وحي البستان وبطن الهوى في سلوان والثوري وجبل المكبر وشعفاط لفرض السيادة الإسرائيلية والطابع اليهودي على المدينة المقدسية غير مدرك للأبعاد الروحية ورمزية القدس والمسجد الأقصى وأنها درة التاج وبوصلة النضال عند الفلسطينيين والعرب والمسلمين خاصة في شهر رمضان المبارك.
وفعلا تحرك الشعب الفلسطيني على امتداد الضفة الغربية والقدس والداخل الفلسطيني والشتات واشتبك مع قوات الاحتلال في أكثر من مئتي نقطة احتكاك، رغم آلة القمع الإسرائيلية وإغلاق أبواب البلدة القديمة واقتحامات الأقصى وكانت ليلة الثامن والعشرين من رمضان ذروة المواجهة مع قوات الاحتلال وشرطته ومستعربيه وكان دخول المقاومة الفلسطينية للمعركة بصواريخها هو المفاجأة في مشهد المواجهة لتتطور الأمور إلى حرب بالصواريخ والطائرات والمدفعية لم تشهد الجولات السابقة من الحروب على قطاع غزة مثيلا لها سواء في الدمار الذي لحق بقطاع غزة ووحشية الاحتلال الذي استهدف البشر والحجر وقتل الأطفال والنساء تحت أنقاض منازلهم، وكذلك في إطلاق آلاف الصواريخ من قطاع غزة باتجاه عمق الكيان الصهيوني ولم ينقطع وابل الصواريخ حتى آخر ساعة من المواجهة التي أطلقت عليها المقاومة معركة سيف القدس.
تفاجأ العالم من هول الصدمة وانفجار الأوضاع في المنطقة، بعد أن ظن ساسة العالم أن القضية الفلسطينية باتت في طي النسيان وأن الزمن هو زمن التطبيع والمطبعين وزمن بنيامين نتنياهو، وتحركت الدول الغربية والولايات المتحدة لتدين عدوان الفلسطينيين على إسرائيل وتعطي دولة الاحتلال صك براءة من جرائمها تحت ذريعة "حق الدفاع عن النفس" ضد صواريخ حماس "الإرهابية"، ولكن صمود المقاومة واستمرارها في رشق دولة الاحتلال بوابل من الصواريخ فرض معادلة جديدة تدعو إلى وقف إطلاق للنار متزامن جرد بنيامين نتنياهو وقادة جيشه من ادعاء النصر وفرض شروطهم على المقاومة الفلسطينية والعودة إلى صيغة تهدئة مقابل تهدئة.
لقد اشترطت المقاومة لوقف القتال أن توقف إسرائيل اقتحام مستوطنيها للمسجد الأقصى ووقف عمليات إخلاء حي الشيخ جراح من أهله الفلسطينيين وأحياء القدس الأخرى وأكدت أن التهدئة مشروطة بالتزام إسرائيل بذلك، وأطلقت شعارها "وإن عدتم عدنا وإن زدتم زدنا" لكن إسرائيل لم تعلن التزامها بأي من هذه الشروط بل خرج نتنياهو ليقول إن القدس الموجودة هي عاصمة دولة إسرائيل ولها الحق في البناء فيها كيف تشاء ومن هذين الموقفين المتضادين انطلقت جهود عربية ودولية للتهدئة ووقف إطلاق النار وأبرز هذه الجهود هي الجهود الحثيثة التي بذلتها مصر و قطر للضغط على حماس وبدعم أمريكي لهذه الجهود بعد أن كانت حالة من القطيعة بين الإدارة الأمريكية الجديدة والرئيس بايدن مع مصر والرئيس عبدالفتاح السيسي، لقد أدركت إدارة بايدن قوة التاثير على الأحداث في المنطقة وخاصة في القضية الفلسطينية وقطاع غزة على الأخص نظرا لارتباط مصر بحدود جغرافية مع القطاع ولخبرتها في معالجة الأزمات التي تتكرر بين القطاع والكيان الصهيوني منذ أن تسلمت حماس السلطة في القطاع وتتركز الجهود اليوم على تثبيت التهدئة وعدم تجدد الاشتباكات أولا وهو أمر مرهون بوقف إسرائيل اعتداءاتها على المسجد الأقصى والقدس وعدم تهجير أهالي الشيخ جراح والأحياء الأخرى. وثانيا إدخال المساعدات الإنسانية من أدوية ووقود وأغذية بشكل عاجل وهو أمر استجابت إسرائيل لبعضه. وثالثا إعادة إعمار قطاع غزة وما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية من بيوت وأبراج ومصانع وطرق وشبكات المياه والكهرباء وهنا تبرز مشكلة تمويل إعادة الإعمار والجهة أو الجهات التي ستتولى العملية وربط إسرائيل مسألة الاعمار بإطلاق الأسرى والمفقودين وجثث القتلى من الجنود الإسرائيليين لدى حماس وكانت مفاوضات برعاية مصرية وأطراف دولية أخرى قبل الحرب قد جرت لإتمام صفقة تبادل بين إسرائيل وحماس بددت نتائجها الحرب التي انطلقت، غير أن الجهود للوصول إلى صفقة تبادل لن تتوقف أو تظل شرطا من شروط إعادة الإعمار كما أن اشتراطات الإدارة الأمريكية لتمويل إعادة الإعمار بأن لا تستفيد منه حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة بشكل مطلق وتشترط مرورها من خلال السلطة الوطنية يمكن التغلب عليها ولن يقع الفلسطينيون في الفخ الأمريكي وتعميق الانشقاق في صفوفهم طالما يجمعون على سرعة إعادة إعمار القطاع وعودة الحياة الطبيعية إلى أهل القطاع الذين تتكرر نكباتهم كل بضع سنوات.
لقد أدرك المجتمع الدولي وهشاشة الوضع في الشرق الأوسط ومركزية القضية الفلسطينية في استقرار المنطقة وساهمت وسائل التواصل الاجتماعي في كشف أبعاد الصراع في المنطقة وأن إسرائيل واحة الديمقراطية المزعومة هي دولة احتلال تمارس أبشع أنواع القهر والتمييز العنصري والاستيطان الإحلالي بحق الشعب الفلسطيني الذي يتوق إلى الحرية والانعتاق من الاحتلال وبناء مستقبله والعيش بكرامة ومساواة في وطنه المحتل وأن نضاله مشروع تكفله القوانين والشرعية الدولية.
لقد تسربت هذه المفاهيم إلى وجدان أغلب شعوب العالم فانطلقت مظاهرات بمئات الآلاف وعشراتها في عواصم ومدن الدول الغربية وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وإسبانيا، وحاولت حكومات ألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول الغربية منع المتظاهرين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني خاصة ألمانيا التي اتخذت موقفا مخزيا من العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وبررت العدوان بحق الدفاع عن النفس متجاهلة القتلى من الأطفال والنساء تحت أنقاض منازلهم التي دمرتها طائرات المحتل الصهيوني ومتجاهلة سقوط الأبراج وتدمير المصانع والطرقات الذي يذكرنا بمشاهد الحرب العالمية الثانية عندما كانت طائرات ألمانيا النازية تدك لندن ومدن بريطانيا الأخرى. وكان الخزي بمستشارة ألمانيا والنمسا ورئيس فرنسا وبريطانيا الذين اكتووا بنار الحرب مرات بدمار مدنهم و عواصمهم أن يكونوا أول المسارعين لاستنكار الإجرام الإسرائيلي واستهداف المدنيين وفرض عقوبات على الدولة التي تحظى برعايتهم وأموالهم لقتل الشعب الفلسطيني وتدمير ممتلكاته ومقدراته وأن تسارع في المساهمة بإعادة الإعمار والدعوة لفتح آفاق حل سياسي ينهي دوامة العنف المتكررة ضد الشعب الفلسطيني وتدعو علنا بلا مواربة إلى إلزام إسرائيل بإنهاء احتلالها للأرض الفلسطينية بما فيها القدس الشرقية وإتاحة المجال أمام الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره بإقامة دولته المستقلة على أرض وطنه وحقه في العودة إلى دياره من أرض الشتات، أما الولايات المتحدة برئاسة جو بايدن فلا تزال تنأى بنفسها عن الانخراط في المشكلة الفلسطينية – الإسرائيلية وبررت لإسرائيل عدوانها وإجرامها بصمتها في الأيام الأولى للعدوان والتصريح بحق إسرائيل في الدفاع عن النفس وإدانة المقاومة الفلسطينية وحركة حماس ولم تتحرك إدارة بايدن للتعامل مع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلا التحول في الرأي العام الأمريكي وخاصة في الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه المناصر للقضية الفلسطينية والمندد بتزويد إسرائيل بالسلاح فائق الدقة لقتل الشعب الفلسطيني وتوالت العرائض والضغوط والمظاهرات على الإدارة الأمريكية دفعتها أولا إلى الاتصال بالرئيس محمود عباس والطلب إليه السعي لوقف إطلاق النار وهو الذي استنكف عن الاتصال بالرئيس أبو مازن حتى اندلاع شرارة الحرب وثانيا أوفد وزير خارجيته ليتصل بالأطراف ذات الصلة بالأحداث بالرئيس أبو مازن والملك عبدالله الثاني والرئيس عبد الفتاح السيسي وبنيامين نتنياهو في السعي لوقف إطلاق النار ثم تثبيت التهدئة وإعادة الإعمار وظل الموقف الأمريكي مترددا بالالتزام بإطلاق عملية سياسية تقود إلى حل الدولتين وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لقد فرضت الحرب على إدارة بايدن أن ينخرط في نزاع المنطقة وهي الإدارة التي وضعت في سلم أولوياتها حل المشاكل الاقتصادية للولايات المتحدة وأزمة كورونا والتصدي للتمدد الصيني واحتواء روسيا والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران وتفعيل حلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة ولكنها ( إدارة بايدن ) تتهبب من الانغماس في جل صراع ممتد منذ أكثر من ثلاثة وسبعين عاما ولم يجد له حلا وتجربة باراك أوباما واندفاعه بحماس لحل الصراع وفق حل الدولتين اصطدام بجدار الرفض الإسرائيلي والتحدي الذي قادة بنيامين نتنياهو لأوباما ونائبه آنذاك الرئيس الحالي جو بايدن .
وفي ظني أن إدارة بايدن لن تنخرط في حل الصراع ما دام بنيامين نتنياهو رئيسا لوزراء إسرائيل وتكتفي بتأكيد موقفها من حل الدولتين ووضع القدس والمستوطنات وظروف معيشة الشعب الفلسطيني ودعم السلطة الوطنية وفتح القنصلية وإعادة إعمار قطاع غزة والحفاظ على تهدئة أو هدنة طويلة الأمد بين حماس والكيان الإسرائيلي وتخفيف الحصار عن القطاع وترك شؤون القطاع لمصر وقطر للحفاظ على التهدئة، لكن ربما يفرض التحول في وعي الشعب الأمريكي وخاصة أنصار الحزب الديمقراطي من الشباب الذين كان لهم أثر كبير في حملة بايدن الانتخابية، نحو مزيد من التحرك الامريكي باتجاه تسوية عادلة ودائمة في الشرق الأوسط.
لقد فرضت حرب الاحد عشر يوما من شهر أيار وما سبقها من هبة القدس والأقصى وحي الشيخ جراح وباب العمود وأحياء القدس الأخرى، القضية الفلسطينية مجددا على الرأي العام العربي والإقليمي والدولي وأعادت القضية الفلسطينية إلى مكانها الطبيعي كقضية مركزية في ذاكرة الأمة العربية وأنها قضية العرب الأولى وقضية المسلمين في كافة أقطارهم وقضية الحرية والأحرار في العالم بأسره وأن من حق شعب فلسطين الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي مقاومة المحتل للتخلص من الاحتلال وتقرير المصير في وطنه كغيره من شعوب الأرض، ومن واجب الدول العربية التي طبعت مع الاحتلال والتي يراودها مثل هذا الفعل الشنيع أن تخضع لإرادة شعوبها في دعم القضية الفلسطينية بكل أشكال الدعم ووقف التطبيع المجاني الذي أسقطته هبة الأقصى و معركة سيف القدس وصمود أهل الشيخ جراح والمرابطون في المسجد الأقصى والمواجهات مع المحتل في مئات المدن والقرى والمخيمات ونقاط الاحتكاك على امتداد الوطن الفلسطيني من رأس الناقورة إلى رفح ومن الخليل إلى جنين وإسناد شعبنا في الشتات لانتفاضته ومقاومته المحتل الإسرائيلي.
لقد أثبتت معركة الأحد عشر يوما وحدة المقاومة ووحدة الشعب الفلسطيني وأنه شعب عصي على الكسر والانهزام وقادر على الوقوف بثبات أمام المؤامرات التي تستهدف قضيته وحقوقه المشروعة، وقد خرج قبل بضعة أشهر من أربع سنوات عجاف حاول خلالها سيء الذكر الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب فرض "صفقة القرن" لتصفية القضية الفلسطينية واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وهو اليوم يدفن صفقة القرن ويؤكد عروبة القدس وفلسطينيتها وفي حال أفضل على الصعيد العربي والدولي.
ويتخوف الشعب الفلسطيني بعد تثبيت وقف إطلاق النار ومباشرة إعادة الإعمار أن تعود الفرقة إلى الصف الفلسطيني وتتبدد مظاهر الوحدة نتيجة لاختلاف الرؤى والمصالح والبرامج السياسية للمنظمات والأحزاب والفضائل ويتكرس الانقسام هذه المرة إلى الأبد تحت مسمى الهدنة طويلة الأمد.
ولكن من يرصد الموقف الفلسطيني الذي عبر عنه الرئيس أبو مازن ودعوته لتشكيل حكومة وفاق وطني تلتزم بالشرعية الدولية يجد في هذه الدعوة لحركة حماس وكفصائل العمل الوطني الأخرى مدخلا لوحدة وطنية تعالج آثار العدوان الصهيوني الأخير على غزة والأقصى والقدس وتقف في وجه التوسع الاستيطاني وحصار غزة بدعم عربي ودولي وصولا إلى الأهداف التي يطمح الشعب الفلسطيني فيها من حرية واستقلال وإنهاء للاحتلال وقد أعرب يحيى السنوار رئيس حركة حماس في غزة في تصريح لافت وجريء للجزيرة أن حركة حماس توافق على إقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة عاصمتها القدس الشرقية وحق العودة وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية وفك الحصار عن قطاع غزة وإعادة إعمار القطاع تحت إشراف السلطة الوطنية مقابل هدنة قصيرة أو طويلة الأمد.
إن هذا الموقف ينسجم مع الشرعية الدولية التي دعا إليها الرئيس أبو مازن وتحظى بإجماع دولي وهو ما يعزز الاعتقاد بأن التوافق الوطني ممكن حول أهداف مرحلية ممكنة التحقيق شرطها الرئيسي إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي احتلت في الرابع من حزيران 1967 وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشريف وحق العودة للاجئين الفلسطينيين وبغير تحقيق هذا الهدف سوف تستمر دوامة العنف في الشرق الأوسط وتتوسع في جولات قادمة إلى حرب إقليمية لن تهزم فيها المقاومة وسيرفع علم فلسطين فوق الأقصى وأسوار القدس وكنيسة القيامة .