لخصت صورة التقطها مراسل صحيفة الحدث في قطاع غزة، خلال العدوان الأخير، السردية الفلسطينية المبنية مفصليا على اللجوء والتهجير. في الصورة الموجودةِ في نهاية المقال، يظهرُ شابٌ يحمل حقيبته ويسيرُ أمام الدمار راحلاً عن بيتهِ ومكانهِ إلى حيث لا نعلمُ تحديداً أين، ولكنه بكل تأكيد باقٍ في قطاع غزة المحاصر من الخارج من عدو يغلق كل إمكانات الحياة، ومن أشقاء عرب لا تحركهم مشاهد الدمار والقتل، ومن قادةٍ صامتين.
يحملُ الفلسطيني حقيبته دائماً، منذ ما قبل النكبة وخلالها وبعدها، في القدس ويافا وغزة وبيروت وعمان ودمشق وتونس وفي مدن العالم التي يمكن أن يصلها ويعود منها. الحقيبةُ المُرحَّلةُ مع الفلسطيني، هي جزء مهمٌ من حكايته ومن مخياله، فعنها سمعنا شاهدات كثيرةٍ، آخرها كان من العدوان على القطاع، فأول ما تفكر فيه عائلة تم تهديدها بقصف منزلها هي إحضار الحقيبة وتأمين الوثائق الثبوتية فيها، بما فيها الوثائق التي تثبت وجود المكان وساكنيه، أسماءهم وتواريخ ميلادهم، شهاداتهم العلمية، تعاقداتهم الشخصية، ولربما شهادات صحية وبعض الأغراض الحميمة الأخرى. حاولت إحدى العائلات بعد أن تركت الحقيبة خلفها كي تنجو بنفسها العودة ثانية لإحضارها لكن القصف كان أسرع. قال أحدهم: "لقد خسرنا كل شيء حتى الحقيبة". فهنالك تلازم ما بين الحقيبة والفلسطيني، ففي كثير من الأحيان تكون مصدر سلوان، لأن الناجي بها كأنما تمكن من تخفيف معنى الخسارة بإنقاذه دليلاً يثبتُ أنه كان وظل موجوداً.
خلال الأحداث الأخيرة، عادت للظهور اللوحة الأيقونية لسليمان منصور جمل المحامل، التي يحملُ فيها الفلسطيني العجوز ما يشبه الحقيبة التي فيها فلسطين على ظهره، وإثر انتهاء العدوان عادت وظهرت مرة أخرى في مؤتمر صحفي ليحيى السنوار يتحدث فيها عن نتائج معركة "سيف القدس"، ولكن بعد إعادة تصميمها بإدخال الفدائي الفلسطيني الشاب الذي ينظرُ بعين ثاقبة نحو وجهة يعرفها ويحملُ سلاحه في يد وعلم فلسطين في اليد الأخرى. وفي الحِملِ والمحمول علاقةٌ تتشابكُ معهما وبينهما الهوية التي تظلُ تسيلُ كنهرٍ طارد للشوائب، ولا يحتوي تدفقه ضفتان تحددان معناه، لا في غزة وحدها ولا في رام الله وحدها.
في لحظات التدفق تلك، تظهرُ إشاراتٌ على أن الهوية تستعصي على القولبة، وتستعصي على عمليات الحشر داخل قناوات التفاوض، وتكونُ كالجني الذي ينمو داخل قمقم الأحداث ليخرج على هيئة أطول من التاريخ المقزم في قرارات التقسيم أو في حدود النكسة، وتظلُّ أقدامهُ تحنُ إلى مسقط رأسه في النكبة.
لم يعد الفلسطيني يخشى على هويته الضياع، هي أول ما يفكرُ فيه في لحظات اجتماع الحياة والموت. ويفكرُ كيف يخرجُ بحقيبتهِ سالماً من القصفِ والأعداءِ وقادة التاريخ المزيف.