السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

الخيال العاجز| بقلم: فارس سباعنة

2021-06-03 11:10:45 AM
الخيال العاجز| بقلم: فارس سباعنة
فارس سباعنة

 

عندما تحدث تميم البرغوثي عن إمكانية التحرير في القريب المنظور، صوّر لنا حماماً كبيراً من دماء الفقراء واليائسين سيملأ شاشة الخيال باللون الأحمر ثمّ ستأتي يد التحرير الأخيرة لتمسح (الدم الوطنيّ) فتظهر فلسطين حرة مستقلة خالية من الاحتلال.

وفي تعليقات المثقفين اليمينيين -ومعظمهم شعراء و روائيين بالمناسبة- لم تكن على ألسنتهم سوى "أثمان الحرية"، وأنه لا يوجد شعب يتحرر دون دماء وتضحيات إلى آخر الأسطوانة التي سيظلون يكررونها لأنهم سيظلون على قيد الحياة، وسيبقون جالسين يقومون بدورهم الذي ميزتهم به ثقافتهم ومواهبهم الإبداعية حتى ينتهي خزان الدم الوطني لكي يرثوا مقبرة البلاد الفسيحة.

لم تكن مناقشة هؤلاء الأبطال جميعاً ممكنة خلال الحرب، لأن تهمة "العباسية" و "الأوسلوية" جاهزة كنقيض لأفكارهم الخلاقة، والإدانات بالتخاذل والجبن أوّل ما يصعد إلى رؤوسهم الحامية.

مما يشعرني بالفخر أن القصيدة العامية التي كتبتُها خلال الحرب حاولت الدخول إلى روح "المجتمع" المناضل عند الجيل الثائر، من خلال سهرة الشباب الذين عادوا من مواجهات الحواجز في النهار والمواضيع التي تصورتهم يتحدثون عنها، وكيف تلقوا خبر استشهاد صاحبهم وما أثاره في نفوسهم من (حزن بشريّ) ومن شجاعة ورغبة بالتحدي.

صارت عندي قائمة طويلة من المبدعين عديمي المخيلة الذين يتصوّرون فلسطين قطعة سماوية ليس فيها مدن وقرى ومخيمات ومطبات مزروعة على شوارعها المكسرة، ولا عائلات متنازعة على حدود الأراضي فيما بينها، وليس فيها شباب "متخاذلون" يلعبون (الببجي) والعياذ بالله، أو بنات يفكرن بالنجاح الجامعي أو الزواج والأطفال، كما أن فلسطين ليس فيها أطفال بالمناسبة.

إن هذه المخيلة الصماء البلهاء والمعزولة عن الواقع هي عنوان روح الهزيمة والانكسار الذي ننحدر له بسرعة جنونية، لأن تعويض عجز المخيلة بترديد العبارات الجوفاء عن النصر والمجد والحديث المؤكد عن شيءٍ اسمه الخلود تعبت ملحمة جلجامش منذ 7000 عام لكي تضعه في قالب من الجدلية، كل ذلك ثمنه الإحباط عندما يخرج الإسرائيلون من الملاجئ .. وتعود أسئلة الحياة ملحّة على الجميع.

من الواضح أن الخيال السياسي الفلسطيني متقدم بمراحل على الخيال الثقافي الذي لا يميّز بين الحرية والتحرير، وهنا أجد نفسي مضطراً  لشرح العبارة المجيدة لغسان كنفاني (الحرية لا مقابل لها، فهي نفسها المقابل)، وهو يعني بذلك أن الحرية طريقة للعيش وليست إنجازاً سياسياً سيأتي بعد حين، وأن الأعمار القصيرة للحياة الثورية تحمل معها قيماً ومعاني لا تعيشها المجتمعات العادية تحت بساطير الفساد والأنظمة المستقرة.

المجتمع الفقير الذي تحدث عنه تميم البرغوثي يجب أن يتمتع بميزات أخرى لم يذكرها الشاعر وأستاذ العلوم السياسية، تتغير مع هذه الميزات معاني الوقت والحاضر والماضي، و تتغير الموسيقى التي تعزفها الأعراس وحفلات الخطوبة، ويتغير إيقاع الوقوف على الحواجز وموازين الصداقة والفداء، وتتغير مخيلة المجتمع، والكلمات التي يقولها وجوه البلاد في حلّ النزاعات، والأهمّ من ذلك كلّه أن وجوه البلاد كلّها تتتغير.