عندما تمّ تأسيس الاتحاد العام للمعلّمين، عام 1969، عَدّ نفسَه جزءًا من الطّبقة العاملة، فأصدر بيانًا يؤكد فيه على قدسيّة التّعليم، وصون كرامة المعلّم، فأخذ قرارات لإنشاء الصناديق المالية، بحيث تحفظ كرامة المعلّم وتحميه، حتّى لا يصبح، فيما بعد، سائق تاكسي بعد الظّهر- مع احترامي لكلّ المهن- أو عاملًا يركض خلف قوت عياله! وهذا –حتمًا- على حساب جودة التّعليم.
وكانت رؤية الاتحاد ورسالته صناعة واقع مُرْضٍ ومُشرِّفٍ للمعلِّم. ولكن، يبدو أنّ لغة البلاغة أعظم من فعل عنترة في الميدان؛ فلا قيمة حقيقيّة لشريحة من أعظم شرائح المجتمع، وأكثرها نُبلًا، وأطهرها رسالة،
كيف لا، والمعلّم ليس له سُلّم رواتب حقيقي، ينصفه ويحميه من الإهانة والتّحقير!
أين اتّحاد المعلّمين، بل أين الحكومات المتعاقبة، من قوانين مجحفة بحقّ المعلّم! وكيف تقبلون، ولماذا تسكتون عن مدارس، تمنع الرّواتب عن المعلمين فترة الصيف! هل تدرون بذلك أم أنّ القرارات تصدر تحت المكيّفات ومن وراء أبواب مغلقة، ولا تعرفون ماذا يجري في قاع المدينة!
إنّ اتّحادًا يعجز عن حمل هموم قاعدته، ولا يستطيع التّعبير عمّا كتَبَ من رؤية ورسالة، اتّحاد عاجز، ومنفصل عن قاعدته.
وإنّ قطاعًا، يَعدُّ عشرات الآلاف لا يُؤخذ رأيُه في بناء المناهج، وصياغة الأنظمة التعليمية، قطاع مشلول.
وإنّ قطاعًا تكون رواتبه في أدنى سُلّم الرّواتب، زياداته تكون بربطة فجل، وضمّة بقدونس قطاع يستحقّ الرّثاء.
لو كنتُ وزيرًا للتّعليم، أو رئيسًا لاتّحاد المعلّمين لما قبلتُ أن يُهان المعلّم، ولأقدمت على وضع سُلّم رواتب، فيه حفظ للكرامة، ولأجبرت أصحاب القرار على تنفيذه، ولوضعت شروطًا قاسية حتّى ينال المرء لقب"معلّم".
ما يجعلني حائرًا المبالغة في مديح المعلم من المسؤولين، ولكن دون أن نؤمّن له ثمنَ صندلٍ من البلاستيك، أو رغيف شاورما على شُرفة مطعم ذي إطلالة ناعسة! فيروح يقطع الشّوارع، من مكان إلى آخر ومن " تاكسي" إلى آخر، ومن حِسبة إلى أخرى، من أجل العمل بعد الظّهر، لعلّه يقدر على تعريف مفردة اللّحم أو السّمك لأولاده واقعيًّا، ذات يوم!
إنّ كتابتي بهذه اللغة مبعثها المرارة، والدّراية بواقع الكثيرين من المعلمين، وأنا إذ أكتب فإنّ قلمي يسيل دمعًا، على رسول، فاقَتُهُ أوشكت على تضييع رسالته، في بلاد، وُلد على ثراها خليل السّكاكيني، ونخلة زريق، والكثير من أولئك الذين تركوا لنا أسس بناء نهضة علميّة نفاخر بها الأمم!
لم يُبذل الجهد الحقيقي، في ارتقاء التّعليم، أو خلق معلّمٍ ناجح، وبيئة تربويّة مستقرّة؛ ولم يكن هناك جدّية، عبر الحكومات المتعاقبة، في إيلاء المعلم أهمية، كونه يحمل رسالة سامية، وأنه أهم من الوزير أو السفير! وإلّا ما الضّيْرُ في أن نأخذَ من أموال السّفراء، والوكلاء، والوزراء، وأصحاب النّياشين، والمدراء العامّين، ونمنع عنهم نثريّاتهم، وسيّاراتهم، وبنزينهم، وجوّالاتهم، وأجرة بيوتهم الفارهة، وأن نمنع الأمناء العامّين لفصائل ليس لها أتباع من الغَرْفِ من خزينة الحزانى والمفقورين، كي نغدق على المعلّم، بعد أن نوفّيَه أجره! بصراحة لا أعلم!
التّعليم ملاذنا الأخير، وعلى الجميع أن يذهب بقناعاته إلى إعادة صياغة رؤية حقيقيّة للواقع التّعليمي، ابتداء من المعلم، ومرورًا ببناء منهاج، يلبّي طموحاتنا، ووضع سُلّم رواتب يتربّع على عرشه الأمناء على أولادنا، وأن يكون التّعليم متنًا في الميزانيّات لا على الهوامش والحواشي؛ فالقلم أهمّ من جيش منظّم، يخدمنا في هذا الوطن المسروق.
وعلى هذا القطاع يقع جهد التّغيير، وبناء فلسفة، بعيدًا عن المناكفات الفصائلية، لأن فلسطين أهم من رايات خُضر أو صُفر، أو حمر،... إلخ، ولأنّ فلسطين بحاجة إلى ناشئة يحملون اسمها بشكل أفضل.
وهنا، على اتّحاد المعلمين العمل على تحقيق رؤيته، وألا تبقى مجرّد كلام، أقرب إلى الشّعارات منها إلى الواقع! وأن يفرض نفسَه على أجندة أيّ حكومة أو مسؤول، وهو يمثّل أنبل شريحة، تحمل أعظم رسالة.
وعلى هذا القطاع أن يتحرّك، وألا يكون حَمَلًا راجفًا، سِمته الجبن والتّردّد، وأن يرمي خلفه كلّ الحسابات الفئويّة والفصائليّة القاصرة، وأن يندفع من أجل مستقبل أولادنا، وأن يعمل على تحقيق تطلّعاته، الكفيلة بتحقيق كرامته، حتّى لا ينطبق عليه المثل" كمُجير أُمِّ عامرٍ".