الحدث العربي والدولي
كل أسبوع يتوجه مامادو دياجوراجا إلى الشطر الإسلامي من جبانة بالقرب من باريس لزيارة قبر والده أحد المسلمين الكثيرين في فرنسا الذين راحوا ضحية لمرض كوفيد-19.
رفع دياجوراجا بصره عن قبر والده وتطلع إلى صف القبور المحفورة حديثا بجواره وقال "كان أبي أول واحد في هذا الصف. وخلال سنة امتلأ الصف كله. شيء لا يصدقه عقل".
وفي حين تشير التقديرات إلى أن فرنسا بها أكبر عدد من السكان المسلمين في الاتحاد الأوروبي فهي لا تعرف مدى تأثر تلك الطائفة بالجائحة إذ أن القانون الفرنسي يحظر جمع بيانات بناء على العرق أو الدين.
غير أن الأدلة التي أحصتها رويترز، ومنها بيانات إحصائية تفصح بشكل غير مباشر عن تداعيات المرض، وشهادات من قيادات الطائفة تشير كلها إلى أن معدل وفيات كوفيد-19 بين المسلمين الفرنسيين أعلى كثيرا منه في سكان البلاد عموما. وتبين إحدى الدراسات المبنية على بيانات رسمية أن معدل الوفيات الإضافية في 2020 بين سكان فرنسا المولودين في دول شمال أفريقيا المسلمة كان مثلي معدل الوفيات بين المولودين في فرنسا.
وتقول قيادات الطائفة وباحثون إن السبب في ذلك هو أن المسلمين عادة ما يكون وضعهم الاجتماعي والاقتصادي أقل من المتوسط. فالأرجح أن يعمل المسلمون في وظائف مثل سائقي حافلات أو محصلين تدفعهم لمخالطة جمهور الناس عن قرب ويعيشون أيضا في بيوت مكتظة بسكانها الذين ينتمون لأجيال متباينة.
قال محمد حنيش رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية في منطقة سين سان دوني القريبة من باريس والتي يعيش فيها عدد كبير من المهاجرين "كانوا ... أول من دفع ثمنا غاليا".
وقد تم توثيق التفاوت في أثر كوفيد-19 على الأقليات العرقية في دول أخرى من بينها الولايات المتحدة جاءت الأسباب مشابهة. غير أن الجائحة تُبرز في فرنسا التفاوتات التي تسهم في تغذية التوترات بين مسلميها وجيرانهم والتي يتوقع أن تصبح ساحة رئيسية للتنافس في انتخابات الرئاسة العام المقبل.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن خصم الرئيس إيمانويل ماكرون الرئيسي سيكون السياسية اليمينية مارين لو بان التي تتركز دعايتها الانتخابية على قضايا الإسلام والإرهاب والهجرة والجريمة.
وردا على طلب للتعليق على أثر كوفيد-19 على مسلمي فرنسا قال مسؤول حكومي "ليست لدينا بيانات ترتبط بديانات الناس".
استقبال الكعبة
في حين أن البيانات الرسمية في فرنسا لا تذكر شيئا عن أثر كوفيد-19 على المسلمين فإن المقابر هي إحدى الساحات التي يبدو فيها هذا الأثر جليا.
وعادة ما يُدفن من تؤدى على أرواحهم الشعائر الدينية الإسلامية في أقسام خاصة من الجبانات حيث يتم حفر القبور بحيث يُسجى جثمان المتوفي مستقبلا للكعبة في مكة المكرمة.
وتقع الجبانة التي دُفن فيها والد دياجوراجا في فالنتون في منطقة فال دو مارن خارج باريس. وتبين أرقاما جمعتها رويترز من الجبانات الأربعة عشر في فال دو مارن أن عام 2020 شهد دفن 1411 مسلما ارتفاعا من 626 في العام السابق قبل أن تحل الجائحة.
ويمثل ذلك زيادة نسبتها 125 في المئة بالمقارنة مع زيادة نسبتها 34 في المئة لعمليات الدفن لكل الطوائف في تلك المنطقة.
وقد منعت القيود الحدودية التي فرضت بفعل الجائحة عائلات كثيرة من إعادة أقارب المتوفين إلى بلادهم الأصلية لدفنهم. ولا توجد بيانات رسمية غير أن متعهدي دفن الموتى قالوا إن حوالي ثلاثة أرباع المتوفين من مسلمي فرنسا كانوا يُدفنون في الخارج قبل الجائحة.
وقال متعهدو الدفن وأئمة المساجد وجماعات أهلية تشارك في دفن الموتى المسلمين إنه لم تكن توجد قطع أراض كافية لتلبية الطلب في بداية الجائحة الأمر الذي دفع عائلات كثيرة للبحث المستميت عن مقابر لدفن بعض أفرادها.
وفي صباح 17 مايو أيار الماضي وصل صمد أكرش إلى مشرحة في باريس لتسلم جثمان الصومالي عبد الله كابي أبوكار الذي توفي في مارس آذار 2020 جراء الإصابة بكوفيد-19 إذ لم يتسن التوصل إلى أقارب له يمكنهم تسلم الجثة. قام أكرش رئيس جمعية طهارة الخيرية التي تتولى دفن المسلمين من غير القادرين بغسل الجثمان واستخدم في تطهيره المسك واللافندر وبتلات الورد والحناء.
وفي حضور 38 متطوعا من الجمعية تم دفن الصومالي وفقا للشريعة الإسلامية في جبانة كورنيف على مشارف باريس. وقال أكرش إن الجمعية تولت دفن 764 متوفيا في 2020 ارتفاعا من 382 في 2019، نصفهم توفوا جراء كوفيد-19.
وأضاف "الطائفة الإسلامية تأثرت تأثرا هائلا في هذه الفترة". كذلك يستخدم خبراء الإحصاء بيانات عن السكان المولودين في الخارج لتكوين صورة عن أثر كوفيد على الأقليات العرقية. وهذا يبين أن الوفيات الزائدة عن المعتاد بين السكان الفرنسيين المولودين خارج فرنسا زادت 17 في المئة في 2020 مقابل ثمانية في المئة للمولودين في فرنسا.
وتبين إحصاءات رسمية أن سين سان دوني المنطقة الفرنسية ذات أعلى معدل للسكان غير المولودين في فرنسا شهدت زيادة نسبتها 21.8 في المئة في الوفيات الزائدة عن المعدل من 2019 و2020 أي أكثر من مثلي الزيادة التي شهدتها فرنسا كلها. وزادت الوفيات الزائدة عن المعدل بين السكان الفرنسيين المولودين في شمال أفريقيا ذي الأغلبية المسلمة 2.6 مرة وبين المولودين في دول أفريقيا جنوبي الصحراء 4.5 مرة عنها بين المولودين في فرنسا.
"لماذا نحن؟"
في سين سان دوني يتضح ارتفاع الوفيات بشكل بارز لأن معدل الوفيات فيها في الأوقات العادية أقل منه في فرنسا كلها لأن أعمار سكانها أصغر من متوسط أعمار السكان. غير أن أداء المنطقة أسوأ من المتوسط العام من حيث المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية.
وتبلغ نسبة البيوت التي تكتظ بالسكان بما يفوق طاقتها 20 في المئة بالمقارنة مع 4.9 في المئة على مستوى البلاد. ويبلغ متوسط الأجر في الساعة 13.93 يورو أي بما يقل 1.5 يورو تقريبا عن الرقم العام في فرنسا.
وقال حنيش رئيس اتحاد الجمعيات الإسلامية في المنطقة إنه شعر لأول مرة بأثر كوفيد-19 على الطائفة المسلمة عندما بدأ يتلقى مكالمات كثيرة من عائلات تطلب مساعدة في دفن موتاها.
وأضاف عن معدل الوفاة بسبب كوفيد "ليس لأنهم مسلمون بل لأنهم ينتمون لأدنى الطبقات الاجتماعية".
ومن الممكن لأصحاب الوظائف المكتبية حماية أنفسهم بالعمل من البيت. غير أن حنيش قال "إذا كان الفرد جامع قمامة أو عاملة نظافة أو محصل فلا يمكنه العمل من البيت. فهؤلاء مضطرون للخروج واستخدام المواصلات العامة". وأضاف "ثمة شعور بالمرارة وبالظلم. هذا الشعور موجود ’لماذا أنا’ و"لماذا نحن؟’".