تطالعنا المواقع الإخبارية بين فينة وأخرى عن حوادث عنف في المجتمع الفلسطيني خاصة الموجهة ضد النساء، كان آخرها إقدام زوج على ضرب زوجته حتى الموت، وكثيراً ما تخاطبني الفتيات للبحث عن سبل لمواجهة العنف الموجه ضدهن من الآباء أو الأخوة أو الزملاء أو...أو..، تشير الدراسات إلى ارتفاع نسبة العنف الأسري في فلسطين، حيث تعرضت 29% من النساء المتزوجات (18-64) للعنف من قبل الأزواج في فلسطين وفقاً للمسح الذي أجراه مركز الإحصاء الفلسطيني 2019 29.6، تعرض 18 % منهن لعنف جسدي، و57% تعرضن لعنف نفسي، فيما تعرض 18% من النساء اللواتي لم يسبق لهن الزواج إلى عنف جسدي ونفسي واقتصادي واجتماعي، وتعرضت 74% من الإناث الأطفال إلى عنف نفسي من قبل أحد أفراد الأسرة، و61% من الأطفال الإناث إلى عنف جسدي.
يشكل العنف ضد المرأة انتهاكاً لمبادئ وحقوق الإنسان التي تضمنتها الشرائع السماوية والاتفاقيات الدولية، ويكرس سياسة التمييز على أساس النوع الاجتماعي، ويؤدي لنتائج خطيرة تنعكس على جميع أفراد الأسرة خاصة المرأة، ويعوقها عن الوصول لتحقيق أهدافها على مختلف الأصعدة الاجتماعية أو المهنية أو الثقافية، كما ينعكس بشكل مباشر على الأطفال من خلال عملية التنشئة الاجتماعية.
تشير الدراسات إلى أن العنف الموجه ضد النساء كغيره من الظواهر الإنسانية هو نتاج لتفاعل العوامل الشخصية (العوامل االوراثية- العوامل البيولوجية)، والعوامل البيئية (البيئة الأسرية- البيئة الاجتماعية والاقتصادية- البيئة التربوية- البيئة الطبيعية- البيئة السياسية، البيئة الثقافية، البيئة الإعلامية)، والتي تعد جميعها بيئات للتنشئة الاجتماعية بكافة أشكالها الأولية والثانوية والموازية، هذه العوامل لاسيما البيئية منها أصبحت اليوم تشكل بانعكاساتها تحديات كبيرة للمرأة وأدوراها لاسيما في ظل فقدانها لحقها في الحماية والأمان.
تلعب عمليات التنشئة الاجتماعية لاسيما داخل مؤسسة الأسرة وفي سنوات العمر الأولى، دوراً كبيراً في إكساب الطفل للقيم والمعتقدات والمفاهيم الدينية والاجتماعية، والتي تساهم بدور أكبر فيما بعد في تشكيل الإطار الفكري والمعرفي والقيمي والأخلاقي والسلوكي له، ويدعمها بلا شك، ما يتلقاه الطفل ويكتسبه عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى، كالمدارس والجامعات ودور العبادة والأحزاب ووسائل الإعلام وشبكات التواصل وغيرها .
تتأثر التنشئة الاجتماعية في مجتمعنا بالثقافة المجتمعية التي أكدت الدراسات على أنها ثقافة تساهم في تأكيد ذكورية المجتمع، واضطهاد المرأة وتهميشها، وتنميط دورها من خلال عملية التنميط الجنسي لكلا الجنسين، هذه العملية التي تلعب الأم دوراً كبيراً فيها، كونها الأقرب إلى الطفل في سنواته الأولى، وبالتالي الأكثر تأثيراً عليه بسلوكها وفكرها ومعتقداتها وقيمها، والتي أكدت الدراسات أيضاً على أن قيم الأم التي تنشأ ضمن هذه الثقافة ومعتقداتها غالباً ما تكون مسايرة لقيم المجتمع ولعاداته وتقاليده، حيث تحرص الأم على غرسها في أبنائها ليسايروا مجتمعهم ليتكيفوا معه خوفاً من عقاب المجتمع لها ولهم.
على الرغم من أن هذه المرأة هي الضحية الأولى لهذه الثقافة الذكورية المبنية على التمييز وانعدام العدالة، إلا أنها تعد جزءاً أساسياً في ترسيخ هذه الثقافة من خلال دورها كأم في تعزيز مكانة أبنائها وأخوتها من الذكور، وكأنما تسقط ما مورس عليها من تنشئة اجتماعية مبنية على الذكورية على أطفالها، وهي تحاول أيضاً تبرير ما ترسخه من ثقافة ذكورية وتمييز بين أولادها بمحاولتها حماية أبنائها من عقاب المجتمع، إلى جانب حماية نفسها من هذا العقاب المجتمعي الذي سيطالها هي شخصياً لو مارس أبناؤها سلوكيات مخالفة لثقافة المجتمع وقيمه.
تؤكد الدراسات أيضاً على أن العنف ضد المرأة هو سلوك مقبول جداً في المجتمعات ذات الثقافة الذكورية، بل وأنه في وجهة نظر المنظرين له وسيلة لتقويم سلوكها، معتمدين على التفسير الإنتقائي للنصوص الدينية، والذي يوجه الخطاب الديني الذي يخالف في كثير من الأحيان ما ورد في النصوص الدينية، حيث يوظف هذا الخطاب الديني النصوص الدينية لتأكيد ذكورية المجتمع بما يحقق أهداف ومصالح شخصية لمنظريه خدمة لأجندات خاصة، وقد ساهم ذلك في كثير من الأحيان في انتشار الأفكار الرجعية، والتخلف الاجتماعي الذي يصور المرأة كخادمة لأسرتها هدفها الوحيد هو إشباع حاجات هذه الأسرة البيولوجية والنفسية (الزوج-الأبناء) دون أي اكتراث لإنسانية هذه المرأة وحقوقها.
كثير من النساء يفتقدن المعرفة والوعي بحقوقهن، ووفقا للمسح الذي أجراه مركز الإحصاء الفلسطيني 2019 ، أشارت النتائج إلى أن 61% من النساء اللواتي تعرضن للعنف من قبل الزوج فضلن السكوت عن العنف. ووفقاً للدراسات، تفضل المرأة السكوت وتتوجه في أغلب الأحيان للأساليب الهروبية في مواجهة ضغوطها والعنف الممارس عليها، خوفاً وحفاظاً على أسرتها خاصة أبنائها، وخوفاً من فقدان هذا الجزء البسيط من حالة الاستقرار التي تتمتع به في كنف أسرتها، والذي يمكن أن تفقده في حال مواجهتها لهذا العنف، وبالتالي نجدها تحجم عن اتخاذ أية إجراءات قانونية لمواجهة هذا العنف، خاصة في ظل قناعتها التامة بأن هذه الشكاوى لن تنصفها، لأنه وفي أغلب الأحيان يتم حل القضية وفقاً للعرف العشائري الذي يؤكد دوماً على ذكورية الرجل، ويطالبها دوماً بالتنازل من أجل حماية مصالح الأسرة.
في ظل متطلبات القرن الحادي والعشرين، وفي ظل حاجتنا الماسة للتطور والتنمية لمواكبة تطورات العصر، آن الآوان لنعي أن التغيير يبدأ بتغيير هذه القيم النمطية التي كرست التخلف والرجعية، والتي ساهمت في ضرب التنمية المجتمعية، وحالت دون تطوير الفكر الذي يسمح بالنمو والتطور للجنسين، فقد كان الهدف من إشاعة الثقافة الذكورية هو رجعية المرأة وتقييدها فكراً وسلوكاً باعتبارها المدرسة الأولى في المجتمع، لأن وعي المرأة وثقافتها ينعكس على أبنائها، وبالتالي لا يمكن ضرب مكونات المجتمع إلا بضرب قيمة المرأة وكينونتها وفكرها، وكان لهذا مخاطره على كافة شرائح المجتمع وليس فقط على المرأة.
آن الآوان للتغيير، ولن يحدث التغيير إلا من خلال القضاء على الثقافة الذكورية التي رسخت كل المفاهيم التقليدية، وهذا لن يتم إلا بتغيير ثقافة المرأة المسؤولة عن عملية التنشئة الاجتماعية، هذا يتطلب تغييراً في كل ما يقدم خلال عملية التنشئة الاجتماعية من أفكار وقيم ومعتقدات للجنسين، من خلال توفير ثقافة مجتمعية ترسخ احترام المرأة وقيمتها، وتؤكد على دورها الفاعل في عملية التنمية بما في ذلك بناء الأجيال.
التنشئة الاجتماعية عملية متعددة الأطراف خاصة في عصر العولمة والانفتاح، أجيالنا الجديدة منكشفة ومنفتحة على كافة الثقافات، لذلك على كل مؤسسات التنشئة الاجتماعية تطوير خطابها وموادها وبرامجها خاصة التربوية والإعلامية المقدمة بما يسمح ببناء عقول الجيل بجنسيه ذكوراً وإناثاً بما يتوافق مع القيم الإنسانية، وبما يرسخ لمفاهيم العدل والمساوة بين الجنسين، وبما ينمي مهارات الجنسين الشخصية كالاتصال والتواصل وتحمل المسؤولية، والقيادة واتخاذ القرار، والاستقلالية والفعالية الذاتية، والمبادرة والصلابة النفسية، في ظل ثقافة مبنية على الشراكة واحترام الآخر.
التغيير لن يتحقق إلا إذا تمكنت الدولة من: صياغة منظومة متكاملة من القوانين والأنظمة التي تحمي الحقوق، وإيجاد الآليات لتثبيتها وتفعيلها من أجل تحقيق العدالة والمساوة بما يكفل حماية المرأة، وتوفيرالبرامج التأهيلية المقدمة للمرأة بهدف إرشادها لوقايتها أو علاجها من آثار العنف لتمكينها نفسياً واجتماعياً، وطرح برامج التمكين الاقتصادي للنساء خاصة في المناطق المهمشة لتمكينها اقتصادياً، وبالتالي تمتعها بحقوقها، بما ينعكس إيجاباً على تحقيقها لذاتها واستقلاليتها الفكرية والاقتصادية وتمتعها بالصحة النفسية والتوافق النفسي، والذي سيمكنها من بناء عقول أبنائها ضمن ثقافة تضمن نموهم وتطورهم، وتقود لتنمية المجتمع وتقدمه.