شاعر وأكاديمي جزائريّ
لقد كشفتْ السنواتُ الأخيرة، خاصة ما ارتبط منها بالربيع العربيِّ، عن الأنساق الثقافية التي تدير الحراك الاجتماعي والسياسي في مختلف البلدان العربية، ونخصُّ منها التي لامستْها رياحُ التغيير. وفي حين تؤكّد تلك الأنساق على حضور القبيلة والطائفة في الحياة العربية وانتشارهما بشكْلٍ كبير، تؤكّد أيضا على الغيابِ التّام للدَّولة بمعناها الحقيقي، وأنَّ ما كنَّا نسميهِ دُوَلا، ربّما، لمْ يكن دوْمًا أكثر من غطاءٍ للممارسات الحقيقية، والفاعلة، وسيّدة القرار، وهي ذاتُ طبيعةٍ قبلية أو طائفية قد تختلفُ خلفيّاتُها وغاياتُها، لكنّها تشتركُ جميعا في إنتاج خطابِ العنف، وفي تحويل ذلك الخطابِ إلى أفعال أقلُّ ما توصف به أنّها إرهابية بامتياز.
يفسِّر هذا الواقع فشلَ محاولاتِ التحديث والحداثة العربييْن في بناء مجتمعاتٍ تؤمن بالدَّولة، وبالمواطنة وقيم الإنسان المعاصر. لأنَّ النسق الثقافي المتحكِّم، والمحرِّك للفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، كان دائما يصدُر عن خلفيتيْن اثنتيْن:الأولى بدويّة تحرّكها كل قيم القبيلة التي سيَّرتْ المجتمعات العربية منذُ قرون إلى اليوم. والثانية عبارة عن خلفيات دينية طائفية تتفاوتُ في درجاتِ اعتدالها أو تطرُّفها، ولكنَّها تتفق في أغلبها على العداء الظاهر أو الخفيّ لمفهوم الدّولة وللأنظمة السياسية المعاصرة لأنها في نظرها تتعارض مع الشريعة الإسلامية، ومع قيم الأمّة العربية(خاصة قيم الطائفة).
ما الذي نتجَ عن أحداث الربيع العربي إذًا؟ لقد حصلتْ تغييراتٌ شملتْ عدَّة بلدان عربية وأطاحتْ ببعض رجال السلطة القائمة. لكنَّها، وهذا هو المهمُّ، كشفتْ عن البنية العميقة للمجتمعات العربية. لنجدَ أنفسنا أمامَ جماعاتٍ إرهابية في العراق وسوريّا مثل داعش والقاعدة، وأمام أذناب هذه الجماعات في كلِّ دولة عربية حتى تلك التي لم تلمسْها رياح التغيير. وأمام ميلشياتٍ مسلّحة متناحرة كما هو الحالُ في ليبيا، أو في اليمن، والحقيقة واحدة وموجعة، وهي غيابُ الدّولة التي لم تكن من قبلُ قائمة على أساس حقيقي، وإنَّما كانتْ مجرّد قوالب فارغة تخدم استبدادية السلطات، وتضيّع حقوق المواطنين في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
إنَّ أدنى فوضى في العالم العربيّ تفتح الباب لانبعاث الخلايا النائمة وتساعدها على الخروج إلى الضوء، لتمارس كلَّ أشكالِ العنفِ التي تكاد تكون، لمن يشاهدها، أقربُ إلى خيالاتٍ سينمائية منها إلى الواقع. لكنَّها-الفوضى-تفضح كثيرا من الخطاباتِ الدوغماتية الأحادية التي ظلَّت تزرعُ أفكارها الظلامية في أذهانِ الناس على مستوييْن اثنيْن:الأوَّل ديني طائفي متطرّف(سني/شيعي خاصة) لا تخلو خطاباتُه من العنف، موغلٌ في الرجعية، لا يؤمن بالحاضر لأنّه لم يكن يوما ينتمي إليه، عالقٌ في ماضٍ بعيدٍ جعله مقياسا لكلِّ شيء، وبه حارب كل الأفكار المتنوِّرة، وكفَّر من يقول بالديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. وأصحابُ هذا الاتجاه المتطرِّف، للأسف، هم أئمة الناس ودعاتُهم في أغلبهم الأعمِّ، باستثناء نماذج قليلة جدا، وهي الأخرى لم تسلم من تكفير هؤلاء وعنفهم. أمَّا المستوى الثاني فهو سياسيٌ، تساهم في إنتاجه السلطة القائمة والمعارضة، وهو قائم على رفض الاختلاف، والادِّعاء بامتلاك الحقيقة، وعدم الإيمان بالنقد وبأفكار الآخر. وهو بهذا لا يختلف عن التطرّف الدينيِّ.
لقد أدَّتْ هذه الخطاباتُ الدوغماتية إلى بناء مجتمعاتٍ مغلقة على ذاتِها، ومتَّسمةٍ غالبا بطغيان السلوكات غير الديمقراطية بين أفرادها. ولهذا يبدو من الضروريِّ أنَّ الثوراتِ التي يجبُ أنْ تكون لم تحدث بعد، ونريد بها الثورة على هذا النسق الثقافي العربي المتخلِّف الذي جعل الشعوب العربية تقبع بعيدا خارج حركة التاريخ، عالقة في أفكار الماضي، غير قادرة على الاندراج في نظام الحياة الجديد، لأنّها لا تستطيع تقبُّل خلفياته المعرفية والحضارية بسبب تلك الخطاباتِ التي تتفق، رغم اختلافها، على رفض أنظمة التفكير المعاصرة بحجة أنها إنتاج غربي. ويترتّب عن هذا استفحال مرضيّ لفكر المؤامرة؛ سياسيا باعتبار العالم متآمرا على استقرارنا وبلداننا، ودينيا باعتباره متآمرا على ثوابت الأمَّة وخصوصياتِها.