منذ أن عملت منظمة التحرير الفلسطينية على تبني برنامجها المرحلي في السبعينات، والذي تسبب في تحولها من مشروع تحرري إلى مشروع ساعٍ إلى الاستقلال على حد تعبير إدوارد سعيد، حدث ارتجاج عميق في الذات الفلسطينية وفي تعريفها لنفسها، تعمق هذا الارتجاج مع توقيعها على اتفاقات أوسلو، وازداد بسبب الانشطار الداخلي على شكل كيانين منفصلين في الضفة الغربية وقطاع غزة بعد الانقسام في 2007، في وقت لم تختلف فيه المنظومة الصهيونية عن هدفها منذ بدايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم في ضمان بقاء الفلسطيني محاطاً بمناخ استعماري تتغير ظروفه ولا تتغير شروطه. وفي كل مراحل الصراع الفلسطيني مع الاستعمار، ظل سؤال الهوية سؤالاً في طور السيولة، تتصاعد حدته مع تصاعد أزمات الفلسطيني مع ذاته ومع موضوعه.
في حادثة اغتيال نزار بنات، عاد سؤال الهوية للاهتزار من جديد طارحاً نفسه: من هو الفلسطيني؟ هل هو الذي أمر باغتيال نزار بنات ونفذ عملية الاغتيال، أم هو الذي نزل إلى الشارع رافضاً منظومة فاعل الاغتيال وفعله؟ ويزداد هذا السؤال ارتجافاً عندما يكون تصادمياً، وعلى شكل ما حدث من مواجهات بين المحتجين على الاغتيال وبين المدافعين عن قيم المنظومة التي ارتكبت الفعل. واللافت في أمر هذه الصدامات هي أنها تعكسُ علاقات القوة على مستوى مغاير لما نفهمه من وجود طرفين أحدهما أقوى من الآخر، إنها علاقة قوة تأخذ صيغةَ اختفاء الأطراف، فهنالك طرفٌ واحد قوي متغلغل إلى درجة التماهي مع كل البنى الاجتماعية، إلى حد أنه لا يمكن أن يرى أو أن يسمع غير صوته، وأي صوت داخلي آخر قد يسمعه ما هو إلا صدى صوته، كالذي يحاور نفسه ويُجادلها، ومن ثم يتوقف عن التفكير ومحاورة الذات، ويمضي إلى بقية شؤونه، على شكل ذات معذبة لا تصل إلى أي مكان.
في واحدة من مسيرات الاحتجاج على اغتيال نزار بنات، يمكن للمراقب عن قرب أن يلمس تجليات الذات المعذبة، التي تظل تحاول تشكيل نفسها في محاولة لإيجاد ما فقدته، فهي تارةٌ في زي رجل الأمن (السلطة)، وتارة في زي مدني (المواطن)، وتارةً ثالثة في ظل العلم الفتحاوي الأصفر (الحزب)، فهي كل ذلك، ولا شيء منها. لأنها تعيش مأساة ضياع تفاصيل مكوناتها بما يؤشر على أزمة وجودية فتحملُ لدرء معايبها صيغاً تضخيمية للرمز القائد، وللوطن المقلص في جزر، وخطابا اجترارياً عن الثورة الرصاصة والنضال المفتقد والمفقود.
في مسيرة احتجاجية ثانية، يخرُجُ غازُ الفلفل من الجيب يملأ الهواء سيطرة، ويختفي رجلُ الأمن ويعود المدني في مواجهة المدني، في فضاء عمومي لم يتشرب بعد كامل حالته المدينية إلا في مخيال المتصادِمَين اللذين يعرفان ولا يفهمان لماذا يقفان في وجه بعضهما البعض، لربما لأنهما من نفس الفئة العمرية، وبنفس الحماسة والطاقة والمقدرة على المواجهة. يختلِطُ الفلسطيني بالفلسطيني الذي يواجهه فلا يعود المراقب قادراً على تمييز الضاربِ من المضروب ومن الذي يُدافعُ عن نزار ومن الذي يغتالهُ للمرة الثانية، سريالية الذوبان والاختلاط بين الأجساد تعيدُ إنتاج الفلسطيني بذاته المعذبة ووعيه المزدوج وسؤاله المختمر دون إجابة: من أنا، وأي فلسطيني أريد أن أكون؟