أصدر الأسير هيثم جابر عدة كتب؛ ديواناً شعرياً بعنوان "زفرات في الحب والحرب" في جزءين، وروايتين هما "الشهيدة" و"الأسير 1578"، ومجموعة قصصية بعنوان "العرس الأبيض"، وقد قدمها القاص الفلسطيني غريب عسقلاني، ويعدّ لإصدار ثالث من "زفرات في الحبّ والحرب". وهيثم من ذوي الأحكام العالية، فهو محكوم بالسجن 28 عاماً، أمضى منها تقريبا عشرين عاما، ويتهمه الاحتلال بالانتماء لحركة "الجهاد الإسلامي" وجناحها العسكري "سرايا القدس"، والقيام بعمليات مقاومة، فهو من أسرى انتفاضة الأقصى. هذا الجيل من الأسرى –إن صحت التسمية- ضمّ كتّاباً كثيرين غير هيثم، من أمثال كميل أبو حنيش وحسام شاهين، وباسم خندقجي، ومعتز الهيموني، وآخرين كثر، تجاوز عددهم ثلاثين أسيراً، ما زالوا خلف القضبان، حتى ليخيّل إليّ أنهم شكّلوا ظاهرة في حركة الأدب الفلسطيني عامة وفي أدب المعتقلات والسجون على وجه الخصوص.
لعلّ هذه المعلومات المتعلقة بالأسير وانتمائه الفصائلي، بالإضافة إلى كونه ما زال عزباً، وقد تجاوز الخمسة والأربعين عاماً، هذه المعلومات مفيدة بوصفها مفتاحاً لفهم أدب هيثم، وخاصة شعره الذي وزعه بين ثيمتين كبريين هما الحبّ والحرب، وحسب ما يقول بعض النقاد "لكي تتذوّقه فنّاناً عليك أن تعرفه إنساناً". لقد جاء أدب هيثم ومنه شعره تجسيدا وتعبيرا عن حياته في الأسر والعمل السياسي والانتماء الفصائلي. لقد كوّنت تلك العناصر الدينية والسياسية والمذهبية فكره فانعكس بلا شكّ على أدبه. فحاله في الكتابة كحال الكثير من الكتّاب الأسرى الذين يتموضعون في الكتابة حول تجاربهم الشخصية، ليكون كل ما أنتجوه معبّراً عن نضالاتهم وخبراتهم الشخصية.
تذكّر تجربة الشاعر هيثم جابر الشعرية أولاً بمشروع الشاعر الأمريكي (والت ويتمانWalt Whitman) (31 مايو 1819 - 26 مارس 1892) الذي لم يخلّف وراءه إلا ديواناً شعريّاً واحداً وسمه بــ "أوراق العشب"، وظل الشاعر يضيف إليه قصائد جديدة في كل مرة يعيد فيها طباعة الكتاب، ربما قارب عدد صفحات الديوان الألف صفحة، بأربعمائة قصيدة، وترجمها للعربية عدة مترجمين، كان من بينها ترجمة الشاعر الراحل رفعت سلام وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب في مصر عام 2016. وها هو هيثم يلتزم بالعنوان "زفرات في الحب والحرب" في الجزءين المنجزين والجزء الثالث المنتظر. إنها تجربة جيدة بالمجمل، وتشير إلى دوران الشعر كله حوله ثيمة محددة، وقابلة للملاحظة ورصد تطورها فنيّاً وموضوعيّاً.
يجد الدارس لشعر هيثم في ديوان "زفرات في الحب والحرب" بجزءيه، خير معبر عن معاناته على المستوى الشخصي، وعلى المستوى الوطني، وعلى المستوى القومي، وعلى المستوى الإنساني، وحتى المذهبي والديني والسياسي. ولذلك فهو كاتب أيديولوجي مباشر، صاحب موقف معلن، ويتمتع بالحرية التامة في التعبير عنه، هذه المواقف يتخذها ويدافع عنها داخل القصيدة وخارجها، ليس له وجهان، فهو واضح تماماً، ولذلك ربما جاء هذا الموقف حادا قوياً، عاريا صريحاً جداً، قد يؤدي إلى إصابة الشعر بالعطب أحياناً. ولكن من قال إن للشعر مقياساً واحدا ووحيداً لأقول مثل هذا القول؟
في شعر هيثم جابر "كوكتيل" معجون بلغة الشاعر وأحاسيسه التي يجدها القارئ في شعره السياسي المتعلق بالقضية الفلسطينية، بوصفها قضية مركزية، كما يراها فصيله السياسي، وما يتناسل من هذه القضية من موضوعات فرعية، كالأسر والشهادة والمعاناة اليومية من الاحتلال وهدم البيوت، كما تجد أن هذا الشعر معبأ بالمواقف السياسية الصريحة من الأنظمة العربية أو بعض الحكام العرب، كما تجد فيه تمجيد المدن العربية والإشادة بها وأمجادها التاريخية، كما يكتب ذلك عن دمشق وبغداد، وكما انتقد بعض الحكام مصرّحاً بأسمائهم؛ ليصل الحديث عنهم إلى الهجاء العلني المباشر معلناً موقفه من التطبيع وصفقة القرن، وقضايا الساعة والمستجدات أوّلا بأول. إن شعر هيثم يرجع القارئ إلى حقبة كان الشعر فيها حمّال سيوف، وخوّاض معارك، ومثير نواقع في أرض القتال.
ويعيد -كذلك- شعر هيثم جابر فيما كتبه من هجاء الأنظمة أو الحكام إلى الأذهان مفهوم "الهجاء السياسي" الذي كتبه العديد من الشعراء العرب قديما وحديثا، كما فعل مثلا شعراء الرسول الكريم في هجائهم لقريش وانتقادهم لزعمائها والنيل من هيبتهم، وما كتبه الخوارج بعد ذلك ضد الأمويين، وما كتبه الشيعة أيضا، وما كتبه بعض الشعراء المعاصرين كنزار قباني الذي تفنن في شتم الأنظمة العربي والمنظومة كاملة وصولا إلى هجاء الأمة كاملةطارحا سؤاله الموجع في قصيدة "متى يعلنون وفاة العرب؟"، أو كما كتب أحمد مطر في لافتاته. فهيثم جابر لا يرى في المسألة حقاً فرديا، أو مشكلة شخصية ليهجو هذا الحاكم أو ذاك، وإنما هو هجاء للسياسة ولمواقف هؤلاء الحكام، مع أنهم أحيانا لم يسلموا من النيل الذاتي وهو يهجوهم من ناحية سياسية موقفية. وكأنه لا فاصل بين شخص الحاكم ومواقفه السياسية. إنها إحدى الإشكاليات المربكة فعلا؛ فهل ينفصل الإنسان- مهما كان موقعه- عن أفكاره واختياراته الفكرية ومواقفه السياسية؟
بالمقابل تجد الشاعر يعلي من شأن حزب الله، ويرى أن من مظاهر عظمة الخالق -سبحانه وتعالى- أنه خلق في هذه الأمة حزب الله، وصنع لها "نصر الله"، وربما مدح أيضا من طرف خفي- وهو يمدح دمشق- النظامَ السوري، لكنه لم يكن واضحا تماما هنا؛ لأن في المسألة التباساً أخلاقياً وسياسياً كبيراً سينال الشاعر، فكيف سيمدح نظاما له من الجرائم ما له؟ وكيف يعيد تبرير هذه الحرب على الشعب السوري، ليرى في دمشق "الحسم الأخير وصمام الأمان وشمس عروبتنا"؟
إن ما اتخذه الشاعر من موقف تجاه النظام السوري وتجاه حزب الله ليتوافق تماما مع كونه ابن فصيل سياسي ذي توجه أنظماتي سوري إيراني مع أن "الجهاد الإسلامي" ليس تنظيما شيعياً، إنما هو تنظيم مدعوم من النظامين الإيراني والسوري، ولذلك لم يستطع هيثم جابر إلا أن يكون مخلصا لأيدلوجيته السياسية المتماهية مع آراء الفصيل الذي ينتمي إليه.
ومن غير المستبعد أن تكون هذه الأيديولوجيا السياسية هي الدافع وراء الشاعر ليمجد الحسين بن علي- رضي الله عنه- وابن فاطمة الزهراء- رضي الله عنها- بقصيدة "مرثية الحسين"، وأسبغ عليه الكثير من صفات القديسين والأنبياء، ويعيد أيضا إنتاج المقولات الشيعية في القصيدة، فـ "كل يوم عاشوراء وكل شبر كربلاء"، وصولا إلى قوله الذي يقتبسه في النص متبنيا ما فيه، ولو كان تبنيا شعريا ووجدانيا "فنحن ورب البيت أولى بالنبي". فلا تشير "نحن" إلا على مجموعة خاصة من الناس تتبنى الحسين وتتخذ منه أيقونة مقدسة، وتأخذه إلى تخوم "الأسطورة" الدينية التي يعمل الشيعة على تدجيج تاريخ الحسين بن عليّ بها، ويدجّجون التاريخ المعاصر بهالة هذه الأسطورة.
هذه ليست كل القضايا السياسية التي تحدث عنها هيثم جابر في شعره، بل إنه تحدث عن موضوعات كثيرة -كما أسلفت- من القاموس السياسي الفلسطيني، وقد شفّت مشاعره جدا وتألقت وتأنقت أيضا في قصيدة رائقة بعنوان "بلادي"، متحدثا بلغة جمالية عليا عن هذه البلاد مستعيرا من قاموس الغزل كثيرا من المفردات:
اللهَ لو أبصرت سحر بلادي ما من جمال فاق حسن الوادي
حسناء يَلبسها الربيع فيكتسي بجمالها، وبصوت طير شادِ
تجري المياه بها، تسبّح ربّها كالدمّ يجري في ربوع بلادي.
وتجري القصيدة كلها المكونة من (19) بيتاً على هذا النسق من السلاسة والعذوبة، ليختمها بهذين البيتين:
عبق المساجد والكنائس شاهدٌ وكأنها في النور بعض عبادِ
عهدا ستبتسم الحقول إلى المدى لن ترتدي يوماً ثياب حدادِ
وأشير قبل أن أتحدث عن "الغزليات"، وهو الجانب الآخر في شعر هيثم إلى أن الشاعر في بعض نصوصه وظف الأسلوب الساخر في التعبير، فلم يكن مباشرا -كما أشرت سابقا في قصائد الهجاء السياسي- وإنما وجدته يعبر بطريقة ساخرة ولاذعة عن القضايا السياسية، كما في قصيدة "صاحب السيادة"، إذ ينتقد فيها الأوضاع العربية، ولم يترك شيئا لم يشر إليه، فنحن كما يقول الشاعر هيثم جابر:
لا يجرؤ عدو أن يمسنا
أبدا لم نتعرض للإبادة
لا في صبرة، ولا شاتيلا
لا في غزة، لا في الأقصى
لا في بحر البقر
ولا حتى في العامرية
كل ما في الأمر تنظيم للنسل
لأن عددنا كبير جدا... خطير جداً
في زيادة
ببساطة شديدة نعيش في سعادة
عاش صاحب السعادة
عاش صاحب السيادة
هذا النوع من الشعر ببساطته وسهولته وتأثيره، يختزن مرجلا كبيرا من الغضب والدعوة إلى الثورة بطريقة غير مباشرة، فالسخرية وسيلة من وسائل الثورة، وليست- كما قد يظن البعض- وسيلة تنفيس وينتهي أثرها، فثمة نصوص ساخرة أنتجها معين بسيسو وأحمد مطر وتوفيق زيّاد كان لها تأثيرها في وعي الجماهير، وقد اعتمد الشعر الفلسطيني المقاوم على السخرية، فشكل ظاهرة فيه، وكنتُ قد بحثتها باستفاضة ومنهجية في دراسة خاصة بعنوان "السخرية في الشعر الفلسطيني المقاوم". عدا فن الكاريكاتير الساخر الذي يلتقي مع القصيدة الساخرة في الهدف. ولشدة تأثير فن السخرية في الجماهير تعرض ناجي العلي إلى الاغتيال وضاق به الأصدقاء والأعداء والمقربون ذرعاً، لأنه يمارس بناء نص/ صورة مزعجة جدا بطريقة قوية لا تمحى بسهولة من وعي القارئ، وما زالت تُستعاد إلى الآن في كل مناسبة سياسية تدعو إلى السخرية والتهكم.
أما غزليات الشاعر "الثورية" فإنها قصائد لا تخلو من طرافة وجِدّة نوعا ما، وظلت لغته فيها سهلة ووجدانية وواضحة، ويبدو عليها التأثر بالمعجم اللغوي والتصويري والتركيبي المستند بشكل واضح إلى شعر نزار قباني، ليس فقط على صعيد الموضوع، بل وأيضا طريقة تناوله وألفاظه، ونظرته إلى المرأة، والأنا المركزية فيه، بحيث يظهر الشاعر أنه مركز أو معبد أو كعبة وما على المرأة إلا أن تطوف حوله وتقدّم له القرابين.
هذا الجانب في غزليات الشاعر ليس طريفاً أو جديدا بل إنه أصبح تقليديا كلاسيكيا بعد أكثر من خمسين عاما من تداول هذا الشعر من القراء والشعراء والعشاق على حد سواء. إنما الطريف ما تخلل تلك القصائد أحيانا من ألفاظ الحرب العنيفة في التعبير عن المعنى، وفي بناء الصورة، وفي ذلك الانفجار الأيروسي في النصوص. وتثير تلك المفارقة التي وجد عليها الشعر في التعبير عن شخصية الشاعر الأيديولوجي المنتمي لفصيل سياسي رديكالي عقدي عدة تساؤلات؛ فهل للحرمان من المرأة أثر في مثل هذه الصورة وفي مثل هذه القصائد؟ فالشاعر وقد تخطى حاجز الخمسة وأربعين عاما لم يتزوج بعد، بمعنى أن يشتاق ويتوق إلى النساء. فهل كان الشعر متنفساً غريزيا ليأتي بهذا العنفوان؟ أم جاء هذا النوع من الشعر نوعا من التحرر من أيديولوجيا الفصيل العقدية؟
تبدو اللغة في أحيانٍ كثيرة كاشفة في ظلالها النفسية عن هذا البعد الوجداني، وهذا الاحتياج الإنساني للمرأة، وهذا التمرد في الكتابة إلى حد الرغبة في الثورة عبر الغزل عن شيء ما يزعج الشاعر أو يريد الخلاص منه، أو لعله الشوق الجارف لامرأة ما. ولكن كيف يشتاق إلى النساء–عموماً- ويشتهيهن بهذه الصورة من لم يجرب معاشرتهنّ؟ ثمة غرابة في هذه المسألة أيضاً. على المرء ليفهم هذا الجانب من شعر هيثم أن يعرفه إنساناً. فربما كان له "صاحبة" قبل الاعتقال.
على أي حال، لقد كانت قصائد هيثم الغزلية عامرة بالجسد وبتفاصيله، وكانت المرأة واضحة بكل معمارها الفني الذي رسمه هيثم من صدر ونهد وخد وفم وريق وشعر، وغير ذلك مما فصّله ووقف عنده في قصيدة "فسيفساء جسد"، فقد تتبع المرأة عضوا عضوا وأسبغ على كل عضو من تلك الأعضاء الصورة المتخيلة التي يتصورها فيها. ومن طريف التصوير في هذه القصيدة تشبيهه النهد بالقنبلة:
لا فرق بين قنبلة ونهدْ
كلاهما يكمل بعضهما البعضْ
ويعيد هذه الصورة في آخر سطرين من القصيدة ذاتها ليرى أنه:
لا فرق بين انتفاضةِ نهد
وانفجار رمانة ناسفةْ
بل إنه يرى كذلك تقاطعا بين الفخذ والبندقية ، فكل منهما يمثل قضيّة. إنه هنا يحيل القارئ إلى نزار قباني الذي كان يرى أن المرأة هي قضيته، وأن التحرر العام للإنسان العربي يكون من خلال المرأة وثورتها وثوريّتها.
إن لهذه الصور التي تعتمد على أدوات الحرب، كالقنبلة والبندقية قد تشير إلى مأزق نفسي مشاعريّ لدى الشاعر، فهو يكتب المعنى عبر الصورة، ولا يبحث عن طرافة الصور أو غرابتها، بمعنى أن الصورة لم تأتِ مكملة للمعمار الجمالي للنص أو تزيينية في الغالب، بل كانت حاملة للمعنى، فكيف؟ ولماذا تصور الفخذ بندقية والنهد قنبلة؟ ثمة ما يحيل القارئ إلى معنى نفسيّ يحاول أن يتفلّت من "بطن الشاعر"، لعله يفرغ في تلك الصور كبتاً ما أو انتقاما دفينا تجاه نفسه أو تجاه المرأة ذاتها، عدا ما يشير إلى تشييء المرأة وأعضائها وعَسْكَرَتها ما يجعله لا يرى في المرأة غير أداة عابرة لمرحلة وظرفية طارئة.
لقد كان هيثم جابر يمزج بين الثورة والحبيبة بطريقة مختلفة مربكة، طريقة تدعو إلى الاستفسار، فهو، وإن أشار إلى امرأة من لحم ودم، وأورد في ثلاث قصائد ثلاثة أسماء: "نسب" و"زينة" و"بيان"، إلا أنه لم يقف عند حد التغزل بهنّ دون أن يحمّل النص أو النصوص الأخرى أبعاداً سياسية أو فكرية أو حتى عسكرية كما وجد في تشبيه النهد بالقنبلة، كما أسلفتُ أنفاً.
ومهما يكن من أمر، فطريقة هيثم جابر هذه في التغزل الممزوج بواقعيته السياسية واللغوية والفكرية جعلت أفكاره الغزلية واضحة وهدفه من الغزل واضح، هذا الهدف الذي أعلنه منذ البداية؛ في إهداء الديوان في جزئه الثاني: "إلى الذين يمارسون العشق والثورة معاً، مرة يبكون على صدر الحبيبة، ومرة أخرى على صدر الوطن"، وسبق أن بينه في إهداء الجزء الأول: "إلى العاشق الثائر فكلاهما مرآة للآخر". ولذلك فإنه يعي تماماً أن الحبّ والحرب ذوا زفرات حارقة تتحد في تسلطها على الإنسان فتزيد من همومه وأعبائه ومعاناته، لاسيما إن كان أسيراً ذا مشاعر شفافة نقية كالشاعر هيثم جابر، ويتمتع بقدر عالٍ من الثقافة والانفتاح في القراءة على موضوعات متعددة، خارج نطاق الأيديولوجيا السياسية والفصائلية التي تحكمه في كثير مما كتب.