الحدث- سوار عبد ربه
يحفل تاريخ النضال الفلسطيني بمراحله المختلفة بوسائل وأساليب متعددة في مقارعة المحتل، فاستخدم لذلك الحجر والمقلاع والمولوتوف والسلاح، كما وظف الشعر والفن وكافة وسائل التعبير خدمة للنضال في وجه المحتل، وكان من بين وسائل النضال المستخدمة، الفن الجداري، الذي تنوع بين الرسم المنظم والشعارات المخطوطة، ولعل حركة الفن التشكيلي الفلسطيني هي الأكثر وضوحا في التعبير عن روح المجتمع وتطوراته، إذ استخدم الفن كسلاح لكشف جرائم الاحتلال، ولتأريخ وتوثيق النضال الفلسطيني على مدار تاريخه الطويل.
وفي الهبة الأخيرة، ومع تصاعد الأحداث لمسنا عودة ملحوظة لهذا النوع من الفن على جدران المدن والقرى على امتداد فلسطين كاملة، من بحرها إلى نهرها، لا سيما في أحياء القدس كالشيخ جراح وأحياء بلدة سلوان، ثم انتقلت إلى الضفة الغربية وغزة والداخل المحتل عام48، وكانت مضامينها تحمل رسومات مستوحاة من الأحداث الآنية.
ففي الشيخ جراح برزت الرسومات الجدارية كنوع من التعبير عن هوية المكان، وشارك في تنفيذها العديد من الشبان والشابات الفلسطينيين، إذ خطوا شعارات تحمل رسائل صمود وتحد مثل "لن نرحل" وأهلا بكم في حي الشيخ جراح الصامد"، "هنا باقون" بالإضافة إلى جدارية تحمل عددا لمجموع العائلات المهددة بالتهجير القسري في أحياء القدس المحتلة، ورسمة للجندي الذي ظهر في مقطع مصور وهو يعتلي سلما لينزل علم فلسطين والبلالين الملونة بألوان العلم الفلسطيني عن حبل الكهرباء في الحي، وغيرها.
هذه الجداريات التي تعبر عن هوية المدينة، لم ترق للمحتل، فعمل على إزالتها ومحوها مرارا وتكرارا، لكن أهالي الحي أعادوا رسمها في كل مرة كان الاحتلال يزيلها، وبحسب نشطاء شاركوا في رسم وكتابة الجداريات: "نحن نوصل رسالة للاحتلال مفادها: "مهما أزلتم ومحوتم سنعيد الرسم، ونحن المقدسيين سنظل متواجدين في أرضنا والجداريات ستظل موجودة، بوجودنا".
وللوقوف على مدى تأثير الفن الجداري في تعزيز وتوثيق الهوية والرواية الوطنية الفلسطينية ومدى فعاليتها كأسلوب نضالي في الزمن الحالي وفي البدايات، توجهت الحدث إلى عدد من ذوي الاختصاص، إذ
تقول الباحثة الفلسطينية سمر عزريل في لقاء مع "صحيفة الحدث": "الجداريات هي واحدة من أهم أشكال التعبير الفلسطيني عن التاريخ الفلسطيني وفي المكان الفلسطيني، لأنها استخدمت كحيز للحديث عن فلسطين في الأماكن التي تعبر عن المأساة، وبدأت في المخيمات والحارات والشوارع والمناطق التي يعيش فيها الفلسطيني تحت الاحتلال".
وتضيف: "الجداريات مهمة، ويكفي أنها تزعج المستوطنين، والجنود لندرك مدى أهميتها، فما حدث في الشيخ جراح من محي وإزالة لها خير دليل، مشيرة إلى أنه عندما يقف أمامها المستوطن المغتصب للأرض في الشيخ جراح أو العسكري المحتل، تكون بمثابة سلاح موجه له، تحكي له أنني كذاكرة وجغرافيا وأرض موجود، أقاومك وأواجهك حتى في الرسمة التي تراها مؤذية وتزيلها عن الحائط".
وفي التاسع عشر من حزيران لهذا العام دعا نشطاء لأن يكون هذا اليوم، يوما عالميا موحدا لرسم خارطة فلسطين على جدران مدن وقرى فلسطين التاريخية، ضمن فعالية حملت اسم 27027 كلم مربع، وهي مساحة فلسطين كاملة من البحر إلى النهر.
وجاءت الفعالية ردا على إزالة الاحتلال المتكرر لجداريات حي الشيخ جراح، حيث جمعت الجدارية الموحدة بين الكوفية وخارطة فلسطين.
وشهدت الحملة مشاركة واسعة في القدس والضفة وغزة والداخل المحتل، ففي الناصرة دعا حراكيون للمشاركة برسم جداريات وطنية على جدران المدينة، تعرضت أيضا للتشويه والتخريب عدة مرات متتالية.
وجاء في بيان صادر عن جمعية "سنبدأ" النصراوية حول اعتداء المستوطنين على الجداريات: "قامت خفافيش الليل، الليلة الماضية بتخريب جدارية النكبة بالإضافة لكل الجداريات الوطنية المنتشرة في المدينة، هذه الجدارية التي تنغص حياتهم والتي تم إعادة رسمها للمرة الـ 11 قبل حوالي أسبوعين بعد أن قامت الشرطة وبمشاركة ودعم بلدية الناصرة بمحو كل الجداريات الوطنية في المدينة".
وفي هذا الجانب قال عضو الحراك النصراوي منهل حايك في لقاء مع "صحيفة الحدث"، إنهم يخوضون معركة (الجداريات) كما أسماها، على هوية ووعي هذا البلد، وليس بالصدفة أن تستدعي شرطة الاحتلال الشباب للتحقيق على خلفية المشاركة في رسم الجداريات.
وأشار الحايك إلى أن رسالة هذه الجداريات هي أن هوية الناصرة وشعبها جزء لا يتجزأ من هوية الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده.
ويعتقد عضو الحراك النصراوي أن جدران الناصرة يجب أن تروي حكاية هذا البلد وهذا الشعب وتاريخه، مؤكدا على أنهم سيستمرون، مهما محوا وخربوا.
وعلى مدار سنوات طويلة عمل الحراكيون في الناصرة على برامج لرسم الجداريات تحت موضوع معين، وفقا للأحداث التي تجري، فعند استشهاد المثقف المشتبك باسل الأعرج وكذلك الطفل محمد أبو خضير، رسموا جداريات في بداية الهبة الشعبية التي كانت، وعندما نقلت السفارة الأمريكية إلى القدس تم رسم جدارية تخص هذا الحدث مع كتابة القدس عاصمة فلسطين وفي مناسبات عدة وفقا للحايك.
وحول أهمية الجداريات يقول عضو الحراك، إنها ترسم وعي وثقافة وهوية البلد "وهذا الذي عملنا عليه في الناصرة مضيفا أن رسم الجداريات على الأسوار العامة يعطي المارة في الشارع هوية البلد، وهوية الناصرة".
وبحسب الباحثة الفلسطينية سمر عزريل تعد الجداريات فنا ينطق عن الذاكرة، ويعطي انطباعا مرئيا عن الهوية والخطاب الذي يتبناه المجتمع أو الشارع وهي شيء حقيقي يعبر عن صوت الناس.
وتقول عزريل في لقاء مع "صحيفة الحدث": "من يذهب باتجاه التوثيق بالشكل المرئي وتحويل التاريخ أو الرمز لصورة مرسومة على الحائط هم العامة، ليس الأكاديميون أو المثقفون البرجوازيون، بل هم الجمهور العام في هذا الحيز الذي يمتلكونه في الشارع، أو الحائط العام".
وتردف الباحثة الفلسطينية: "الجداريات الموجودة على حائط في الضفة الغربية المحتلة أو على جدار في غزة التي كانت محتلة، دائما ما تشير وتذكر بوجود الاحتلال لذا لا بد من أن نرسم ونحكي ونحاول أن نعبر عن ذاكرتنا وهويتنا التي سعى الاحتلال على مدار سنوات طويلة لطمسها ومحوها".
في هذا الجانب أوضحت الفنانة الفلسطينية أسمى غانم والتي شاركت في مشروع لرسم الجداريات في لقاء مع "صحيفة الحدث": "فلسطين كلها إلهام، والتحديات التي يعيشها الشخص الواقع تحت الاحتلال، تعطي للفنان دفعة للأمام، وتجعله أكثر انتباها فنيا على الأحداث التي تدور من حوله، لإنتاج فن مختلف". مضيفة أن الفن الفلسطيني فن مهم ومحتواه قوي جدا، ناتج عن بيئة حقيقية يعيشها الفنان بشكل مباشر".
وبحسب الغانم: "دول الخارج تضع ميزانيات ضخمة من أجل هذه الأعمال، لأن العرض الفني في الشارع مهم بالنسبة لهم، بأهمية المعارض الفنية والمتاحف التي تعرض لوحات، لأنها تثبت وتكشف عن الهوية الفنية لكل مدينة".
وفقا لدراسة أعدها الفنان البصري منذر جوابرة لمؤسسة عبد المحسن القطان؛ تعد فلسطين أولى المناطق العربية التي استخدمت فيها الجدران للتعبير عن قضايا سياسية وغيرها، وكذلك تكريس الشعارات المكتوبة والمرسومة، وتسليط الضوء على الأحداث والمتغيرات والمناسبات الوطنية.
ويضيف جوابرة في دراسته: "بلغت فعالية الجدران أقصى درجات الاهتمام والتعبير عن الآراء المجتمعية، التي يعتبر الجمهور العام هو المستهدف منها، لتخلق فعالية وحراكاً مختلطاً ما بين العمل التفاعلي والفعل المجتمعي، وذلك عبر تسجيل المناطق والأوقات والتواريخ التي ينطلق منها التجمع للمقاومة مثلاً، وسبب المناسبة، وهي بذلك تكون قد عملت على وضع منهجية مختلفة في التعبئة، والمعلومة، والسبب، ومن ثم تجمع الجماهير للانطلاق نحو المسيرات أو المظاهرات أو الخطاب".
وبالعودة إلى فترة الثمانينات، تبنت الجداريات خطابا سياسيا بالرسم أو الشعارات، وكانت موجهة في كل مرحلة، وتخاطب حدثا ما.
ففي لبنان، على سبيل الحصر، تناولت الجداريات موضوعات العصابات الصهيونية والمجازر التي حدثت في لبنان والاحتلال والأحزاب المتواطئة مع الصهيونية، لإبادة المخيمات كحزب الكتائب اللبناني والقوات اللبنانية، بالإضافة إلى الحروب التي جرت فيما بعد، وفقا للباحثة الفلسطينية سمر عزريل.
ولاحقا، توضح عزريل أن الجداريات تناولت شعارات تتعلق بالانتفاضة والمواجهة بين الفلسطينيين والصهاينة، ففي حينها رسم الناس عن الحجر والمقلاع، وفي الانتفاضة الثانية طوروا عليها فتناولت المقاومة المسلحة والأفكار التي تحكي عن القوات المسلحة التابعة للفصائل الفلسطينية المقاومة، ووثقت الشهداء والجرحى والأسرى، كذلك الشعارات التي تكتب في ذكرى النكبة والمجازر وذكرى استشهاد بعض القادة.
وأشارت الباحثة الفلسطينية إلى أن هذه المدرسة من الفن، تتطور وتواكب الأحداث التي تجري، كما أنها تعبر عنها وتساهم في تشكيل الهوية الضخمة للفلسطيني، مؤكدة أنها توثق المواجهة والمقاومة والمعارضة كما الضحايا، وكل شيء يسهم بشكل أو بآخر بتشكيل الوعي الفلسطيني.
وبينت عزريل أن الجداريات لا تزال تحظى في ذات القيمة فأنت عندما تمر من جانب جدارية ترى المشهد البصري الرائع بكل تفاصيله ستظل عالقة في ذاكرتك، مشيرة إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي عززت من قيمتها لأن الناس تكتب مضامينها وتنشرها.
في سياق متصل تفاعل الفلسطينيون مع جداريتين حديثتين رسمتا على جدار النهب والضم بمدينة بيت لحم بريشة الفنان تقي الدين سباتين، ووفقا لسباتين حملت الجدارية الأولى معنى استوحاه من الأحداث الأخيرة التي يمكن تلخيصها بالعنوان التالي: "إذا لم أسرق بيتك، ستهدمه أنت بيدك، وإن لم تهدمه، سيأتي شخص آخر ويهدمه لك".
ففي القدس هناك 7850 فلسطينيا معرضا للتهجير القسري من منزله، في وحدات حي الشيخ جراح وسلوان، ناهيك عن اخطارات الهدم التي تسلمتها عائلات سلوان، والتي طالبت بعض العائلات بالهدم الذاتي لمنازلهم، وإلا ستقوم بلدية الاحتلال بذلك وسيتكبدون هم تكاليف الهدم الباهظة.
وأوضح سباتين في لقاء إعلامي أنه من خلال الجدارية الثانية حاول أن يبين الوجه الحقيقي للاحتلال الصهيوني وكذلك الهوية الفلسطينية، من خلال الطفل الذي يحمل السمكة، في وجه جندي يرتدي قناعا يدلل على جماعة إرهابية عنصرية استخدمت سياسية الإعدام بدون محاكمة، وهي رسالة وجهها للعالم.
وفي العدوان الأخير على غزة، انتشر مقطع مصور لطفلين فرحين بإيجاد سمكتهم حية تحت أنقاض منزلهم الذي دمرته صواريخ الاحتلال، وحول هذا قال سبايتين إن المفارقة هنا بين اهتمام الاحتلال في هدم البنى التحتية والطفل الفلسطيني في إنقاذ سمكته، وهو ما يبين مدى قوة وثبات الفلسطيني وتشبثه في مكوناته.