كما أسقطت المقاومة اللبنانية في تموز 2006 مشروع ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، الذي بشرت به وزير خارجية أمريكا آنذاك كونداليزا رايس، ذلك المشروع الذي هدف إلى جعل إسرائيل تتربع على عرش المنطقة، وأن ترتبط بها ومعها العديد من دول النظام الرسمي العربي المنهار والمتعفن بأحلاف أمنية كوكيل حصري لأمريكا في المنطقة، تمنع دخول أي قوى إقليمية ايران أو دولية روسيا والصين إلى منطقة النفوذ والمصالح الأمريكية، وتبقي أمريكا متحكمة في المنطقة بغازها ونفطها وخطوطها البحرية والبرية والجوية وجغرافيتها الاستراتيجية، هذا المشروع سقط وكانت له الكثير من النتائج والتداعيات، والتي لن نتطرق لذكرها في هذه المقالة، ولكن جرى استخدامها للمقارنة بما حصل في هبة البوابات الإلكترونية في تموز /2017، حيث نجح المقدسيون ومعهم أبناء شعبنا الفلسطيني في الداخل - 48 - في منع ولادة وإفشال مشروع نزع المسؤولية الإدارية للأوقاف الإسلامية عن المسجد الأقصى، وتفريغ الوصاية الأردنية عليه من مضمونها وبما يمهد لشطبها وإلغائها بشكل كلي، وكذلك الأهم منعت التقدم نحو فرض مشروع التقسيم المكاني على المسجد الأقصى، والتحكم في كل شاردة وواردة فيه بما في ذلك أعداد المصلين الذين سيسمح لهم بالدخول ومعرفة تفاصيل حياتهم.
نعم سقط مشروع البوابات الإلكترونية على بوابات المسجد الأقصى، لأن إرادة المقدسيين وأبناء شعبنا في الداخل- 48، كانت صلبة وقوية، وكذلك الحلقة المقدسية كانت موحدة ومتماسكة بكل مكوناتها وطنية سياسية، دينية، مؤسساتية، شعبية وجماهيرية، والمعركة جرت إدارتها بشكل موحد وعبر اشتباك شعبي جماهيري متواصل مع الاحتلال على مدار الساعة، من خلال الصلوات الجماعية وبأعداد كبيرة بعشرات بل ومئات الآلاف في الشوارع والساحات العامة، حيث نجح المقدسيون بتحويل سجاجيد صلواتهم إلى سجاجيد مقاومة، ولم يقبلوا بأي شكل من أشكال المساومة بقاء هذه البوابات على مداخل المسجد الأقصى، أو بقاء بعض بواباته مغلقة، أو الدخول إلى المسجد الأقصى قبل نزع تلك البوابات.
ولذلك شكل انتصار البوابات الإلكترونية وما سبقه من هبات شعبية وجماهيرية خاضها المقدسيون من هبة الفتى الشهيد محمد أبو خضير مروراً بهبة ما عرف بـ "السكاكين" أو الشهيد مهند الحلبي، تشرين أول /2015 ومن بعدها هبة باب الرحمة تشرين ثاني 2018 وشباط 2019 ، ومن ثم الهبات الثلاث المتداخلة والمتزامنة في نيسان وأيار الماضيين، حيث يسعى الاحتلال إلى عبرنة المكان لأشهر بوابة لمدينة القدس، بوابة باب العامود التي حول اسمها على اسم مجندتين مستوطنتين قتلتا في عمليتين نفذهما مقاومون فلسطينيون في عامي 2016 و 2017 في شارع السلطان سليمان وباب العامود، لكي يصبح اسم ساحة باب العامود، ساحة هدار فهداس وهداس ملكا.
هذه الهبات الثلاث التي اختلفت عن الهبات السابقة، بحيث لم تكن محلية كما في السابق، تنتهي مع انتهاء المفجر أو المسبب، فهذه الهبات فتحت آفاقاً نحو الشمولية، لتمتد إلى كل مساحة فلسطين التاريخية، وذهبت الأمور إلى أبعد من ذلك، حيث جرى إسناد هذه الهبات بالنار من خلال قطاع غزة، فقد تدخلت المقاومة لصالح الهبات المقدسية، معلنة لأول مرة بأن عدم احترام مكانة الأقصى والقيام بعملية طرد وتهجير سكان حي الشيخ الجراح، تعني بأن المقاومة ستقوم بالتدخل عسكرياً وقصف عمق دولة الاحتلال، ولكي تؤكد على وحدة المصير والمسار ما بين القدس والقطاع، وفرض معادلات وقواعد اشتباك جديدة، بفعل ما تحقق من نصر وإنجاز في معركة "سيف القدس".
في الذكرى الرابعة لهبة البوابات الإلكترونية، والتي شكلت وما بعدها من هبات شعبية "بروفات" نحو تحقيق المزيد من الإنجازات والانتصارات، والتي من الواضح بأن المحتل يسعى لتفريغها من مضمونها، وبما يمنع من تنامي حالة المقاومة الشعبية الميدانية وارتفاع وتصاعد وتيرتها في الهبات القادمة، وكذلك اغتيال الحالة المعنوية الواثبة للمقدسيين والتي تعاظمت بفعل معركة "سيف القدس" التي هشمت دولة الاحتلال سياسياً وعسكرياً.
ومن هنا وبعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة بقيادة بينت، والتي هي امتداد للحكومة الإسرائيلية السابقة سياساً، بحيث لم تتغير سوى الوجوه والشخوص والتكتلات، ولكن في الجانب السياسي، هذه الحكومة أكثر تطرفاً وعنصرية من سابقتها، فهي ستواصل التمسك بالاستيطان في القدس والضفة، وتعمل على تكثيفه وزيادته بشكل كبير، وكذلك سنشهد المزيد من العنصرية والتطرف، ومن هنا فإنه من المتوقع في ظل الحالة الفلسطينية التي تشهد احترابا داخليا، وسلطة ممعنة في التنكر وإدارة الظهر للجماهير، وممارسة القمع والتنكيل والسحل بحق أبناء شعبها، وكذلك في ظل حالة الهرولة التطبيعية للعديد من دول النظام الرسمي العربي مع دولة الإحتلال، فإن هذه الحكومة ستدعم وستسهل وسيشارك أعضاء منها وزراء وأعضاء كنيست في عمليات الاقتحام التي تنفذها الجماعات التلمودية والتوراتية بحق المسجد الأقصى، من أجل أن يتم الوصول إلى " تطويع" الحلقتين المقدسية وفلسطيني الداخل- 48 – للقبول بفرض الوقائع الجديدة في المسجد الأقصى من تقسيم مكاني، فمن صوت إلى جانب عدم إسقاط قانون " المواطنة "، بند لم الشمل، فليس بالغريب أو المستعبد عنه أن يصوت لصالح التقسيم المكاني للمسجد الأقصى.
الجماعات التلمودية والتوراتية "طلاب من أجل الهيكل" و"نساء من أجل الهيكل" و"حاخامات من أجل الهيكل" دأبت على القيام بعمليات اقتحام واسعة وكبيرة للأقصى في أربع مناسبات تلمودية توراتية كبرى "خراب الهيكل" و ذكرى " توحيد القدس" و" عيد الفصح" والأعياد الممتدة من رأس السنة العبرية مروراً بيوم " الغفران" وانتهاء بعيد " العرش".
أعتقد بأن بينت القادم من جبهة الاستيطان والمستوطنين، والذي كان رئيساً للمجلس الإقليمي للمستوطنات، في ظل الأزمة السياسية التي تعيشها دولة الكيان، وحالة عدم الاستقرار التي تعيشها حكومته، والمتكىء وجودها على دعم القائمة العربية الموحدة، والتي واجهت في أول معاركها خسارة كبيرة، حيث لم تستطع تمرير تمديد قانون "المواطنة"، بند لم الشمل، حيث أن العضو السابع لحزب "يمينا" بقيادة بينت، عميحاي شيكلي صوت ضد هذا القرار وضد إرادة حزبه، وهذا مؤشر على أنه يمكن للمعارضة اليمينية التي يقودها نتنياهو أن تسقط هذه الحكومة الهشة، ولذلك سيدعم بينت تلك الاقتحامات الكبيرة والواسعة، وسيشارك فيها وزراء وأعضاء كنيست من تحالفه، لكي يكسب ثقة المستوطنين، ويضمن تصويتهم لصالح حكومته في أية قرارات أو مشاريع أو قوانين جديدة .
ولكن لا أعتقد بأن أي مشروع يستهدف المسجد الأقصى بالتقسيم، سيكتب له النجاح، وخاصة أن قضية الأقصى يتوحد حولها كل ألوان الطيف السياسي والديني والشعبي والجماهيري الفلسطيني، فالأقصى كما هي القيامة، له رمزيته الدينية والروحانية والتاريخية والحضارية والإنسانية، ليس فقط عند أبناء شعبنا في القدس وفي الضفة وقطاع غزة والداخل الفلسطيني- 48 -، بل هذا يمس بمشاعر وكرامة وقدسية المكان لأكثر من مليار ونصف مسلم، وبالتالي لن يتوان أهلنا وشعبنا الفلسطيني عن خوض غمار الاشتباك الشعبي والجماهيري حول المس بمكانة وهوية المسجد الأقصى، وربما تندفع المجابهة إلى أبعد من مجابهة فلسطينية شاملة مع المحتل، نحو مواجهة إقليمية واسعة.