الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حوار خاص بـ "الحدث" مع المفكر التونسي منير السعيداني حول الأحداث الأخيرة في تونس

2021-07-26 05:43:36 PM
حوار خاص بـ
الدكتور منير السعيداني

 

ما حدث مفصلي في تاريخ تونس لأنه كسر المراوحة ما بين استعادات الثورة التونسية وبين جرعات التحول الديمقراطي

  • ما حدث فتح أفقا آخر لإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمجتمع

  • ليست يدا رئيس الدولة مطلقتين لا في قراءة اللحظة السياسية ولا في استثمارها

  • في المستوى القانوني الرئيس معقود من لسانه وهو يعلم أن عليه أن يكون منسجما مع صورته

  • حصيلة كل هذا: انقلابُ قصرٍ ناعمٌ، يريد أن يظهر محصّنا دستوريًّا

  • خصوم ما حدث فئتان: أولى متمسكة بحرفية الدستور، لها رصيد في انتقاد "النزعات الشعبوية" لدى الرئيس ، وثانية متضرّرة من سحب امتيازاتها السلطوية

 

خاص الحدث الفلسطيني

في خضم الأحداث الأخيرة المتسارعة في تونس إثر القرارات الصادرة عن رئيس الجمهورية قيس سعيد بصرف الحكومة، وتعليق أعمال مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه، والإمساك بمقادير السلطة التنفيذية، انقسمت التحليلات والشروحات والتفسيرات ما بين مؤيد لموقف الرئيس سعيد، وبين آخر رافض له معتبراً أن ما قام به إنما هو إنقلاب على منجزات الثورة التونسية. وتظل الحالة التونسية بما أنجزته في العشرية الأخيرة حالة فريدة في العالم العربي، تريدُ الشعوب لها أن تنجح فيما تريدُ لها الأنظمة السياسية أن تفشل، ليس لتفشل تونس بل لتفشل ما تمثله تونس من فكرة ومن تجربة.

ولفهم ما حدث يوم الأحد 25-7-20121، أجرت الحدث لقاء صحفيا مع المفكر التونسي والأستاذ الجامعي في علم اجتماع الثقافة وأنثروبولوجيتها في المعهد العالي للعلوم الإنسانية التابع لـجامعة تونس المنار، الدكتور منير السعيداني.

وفيما يلي نص الحوار:

الحدث: كيف يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس اليوم وكيف يمكن توصيفه؛ هل هو"إنقلاب" أم "مسار تصحيحي"؟

السعيداني: ما حدث مفصلي.  مفصلي في تاريخ الثورة التونسية، ومفصلي في تاريخ الممارسة السياسية في تونس. طوال العشرية الماضية كنا نراوح بين استعادات عميقة وواسعة إلى هذا الحد أو ذاك لروح الثورة واندفاعاتها من جهة وجرعات ممّا يسمى "الانتقال الديمقراطي" من جهة ثانية. اندفاعات الثورة اتخذت على الأغلب شكل حركات احتجاجية ومطلبية ذات موجات متعاقبة أمّا جرعات "الانتقال الديمقراطي" فقد اتخذت على الأغلب شكل المواعيد الانتخابية التمثيلية المسطَّرةِ مساراتُها الدستورية وما بُني عليها من مؤسّسات حكم. إزاء مثل هذا المفترق يكون من الضروري تحديد الموقع الذي من زاويته يتمّ النظر والتحليل. يمكن النظر إلى ما كان خلال العشرية الماضية من أعلى، أي على أنه مسار دستوري لبناء ديمقراطية تمثيلية وإقامة توازن بين السلطات وتقنين لعمل المؤسسات وتأمين لاستمرارية هياكل الدولة... إلخ. هذا منظور علوم سياسية تركز، في معناها الدستوري، على الإجرائي والشكلي... ويمكن النظر إلى ما كان من أسفل على أنّه مخاضات متباينة ولكنها متظافرة لتنامي قدرة التعبير لدى قوى المجتمع عن مطامحها وآمالها. وبقدر ما كانت موجات الاندفاعات الثورية ذات أثر في تجذير الممارسة السياسية لدى من هم خارج المشهد الحزبي-التمثيلي  كانت المواعيد الانتخابية ذات أثر في توزيع عوائدها المادية والرمزية على أعداد متزايدة من الملتحقين بالطبقة السياسية-الإدارية الحاكمة.

ما حدث يوم 25-07-2021، مفصلي لأنّه كسر هذه المراوحة. كانت ثمّة علامات تدل على أن المراوحة بلغت مرحلة من العُقم بحيث كانت تقترب من انكسارها عند نقطة ما. من بين هذه العلامات يمكن التركيز على واحدة ذات موقع في الأعلى وأخرى ذات موقع في الأسفل. في الأعلى كان انتخاب قيس سعيد لرئاسة الجمهورية خلخلة للتوازنات المرعيّة ضمن الطبقة السياسية-الإدارية الحاكمة وترتيباتها. وحتى نتبين العمق الذي أتى منه، لا بد من التذكير أن انتخابَه مَرَّ هو ذاته بمسار تحوّل فيه من قيس سعيد الشخص-الشخصية (نزاهة، استقامة، جدية،...)، إلى قيس سعيد الفكرة (ضرورة التغيير) إلى قيس سعيد المشروع (تغيير النظام السياسي) إلى قيس سعيّد البرنامج (نتيجة الجمع: الفكرة+ المشروع= البرنامج). وفي الأسفل كان هناك تجذر الحركات الاحتجاجية والمطلبية، والتي أظهرت أنّها شبابية أكثر فأكثر، وأنّها متزايدة الانقطاع حتى عن اليسار التقليدي الحزبي وأنها متصاعدة الارتباط بالأحياء الشعبية كما بيّنته تحرّكات جانفي-يناير الماضي. بهذا المعنى يمكن أن نفهم تسمية "الجيل الخطأ" التي أطلقها قطاع شبابي احتجاجي، حانق ومنشق، على نفسه.

كان ثمة تنافذ على خلفية تراكب مظاهر الأزمة متعددة المستويات التي تمر بها تونس بما هي أزمة نظام سياسي وأزمة منوال تنموي وأزمة منظومة رعاية اجتماعية-صحية

 

وعلى الرغم من تباين المثالين من حيث الموقع فإن إمكانية التنافذ ظلت قائمة. وبالفعل كان ثمة تنافذ على خلفية تراكب مظاهر الأزمة متعددة المستويات التي تمر بها تونس بما هي أزمة نظام سياسي وأزمة منوال تنموي وأزمة منظومة رعاية اجتماعية-صحية. لقد أظهرت حملة قيس سعيّد للدور الثاني للانتخابات الرئاسية، كما أظهرته حركته الأخيرة في صرف الحكومة، وتعليق أشغال مجلس النواب ورفع الحصانة عن أعضائه، والإمساك بمقادير السلطة التنفيذية، إمكانية التنافذ بين السياقات. وهو تنافذ قابلٌ للتّصريف السّياسي لفائدة الطرف الأكثر قدرة على قراءة اللّحظة السّياسية واستثمارها. رئيس الدولة هو من قرر أن يحول هذا التنافذ إلى واقعة ملموسة بعد أن كان تنافذا يشتغل بمنطق "كلية الظاهرة الاجتماعية" وتبادل التأثير والتأثر بين مكونات حياة المجتمع ومستوياتها. وهو في قراره هذا، حسم أيضا التناقض الذي حكم موقعه هو ذاته إلى حدّ الآن بين أن يكون هناك، ضمن منظومة حكم قامت بمفعول مسار انتخابي محدد، وبين أن يكون مُنْكِرًا للمنظومة كارِهًا للمسار. وهو يريد من حسمه هذا التناقض، أن يظهر، في الآن ذاته، على أنّه حسم للمراوحة بين الاندفاعات الثورية وجرعات "الانتقال"، لفائدة الأولى. حجته في ذلك أن في تمطط الانتقال وعَرَجِه، انعدمت فعاليته في المستوى النيابي مثلا، فصار البرلمان في مهب فوضى الاشتغال والتعطيل والعنف، بحيث "توجب" كسر التوافق  السياسي الفَاسِدٍ والمُفْسدٍ.

ليست يدا رئيس الدولة مطلقتين لا في قراءة اللحظة السياسية ولا في استثمارها. سياسيا هو ملزم بمراعاة ما يتطلبه بناء جبهة سياسية حوله هو أول من يعلم أنه في أمس الحاجة إليها، وقد أعلنت أحزاب ومجموعات سياسية أنها تراها حلا للأزمة السياسية من خلال مقولات شعارات حكومة الرئيس-الجبهة الرئاسية-الكتلة الرئاسية... وهذا هو البناء الذي تتتالى مفاعيله الآن من خلال بيانات المساندة الحزبية التي بدأت تظهر. طبعا تظل مساندة الاتحاد العالم التونسي للشغل مركزية في بناء هذه الجبهة وتكتيلها وإعطائها بعض العمق الجماهيري. شكليا، وهو أستاذ القانون الدستوري، وهو من خاض معارك متتالية حول أحقيته الحصرية في تأويل الدستور في ظل غياب المحكمة الدستورية ( فصول الدستور من 118 إلى 124 عليها) التي لم تسمح المماحكات السياسية بإرسائها. في المستوى القانوني الرئيس معقود من لسانه، وهو يعلم أن عليه أن يكون منسجما مع صورته.

الرئيس يريد أن يبدو ما قام به محصَّنًا جماهيريا من حيث اقتطافه لحظة غضب شعبي عارم ومتفاقم منذ أشهر ولّد رغبة جامحة في التغيير

ما حصيلة كل هذا: انقلابُ قصرٍ ناعمٌ، يريد أن يظهر محصّنا دستوريًّا. لذلك أبدى حرصا على القول إنه ليس خارج الشرعية الدستورية، ولم يمنعه عدم تنصيص الدستور على حرفية القرارات المتخذة باسم "التدابير الاستثنائية التي تحتمها الحالة الاستثنائية" الوارد ذكرها في الفصل 80 من الدستور من اتخاذها. وقد أكد أن تأويله هذا صائب لفقرة موالية في ذات الفصل نصها هو " ويجب أن تهدف هذا التدابير إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة". والرئيس يريد أن يبدو ما قام به محصَّنًا جماهيريا من حيث اقتطافه لحظة غضب شعبي عارم ومتفاقم منذ أشهر ولّد رغبة جامحة في التغيير. كما يريد له أن يظهر محصَّنا سياسا من ناحية استهدافه طبقة سياسية حاكمة ذات مصالح متشابكة بالغة الإضرار بالعباد والبلاد، ومتزايدة التعفن في ممارساتها.

 لاقى ما حدث ترحيبا سياسيا من "جبهة الرئيس" السياسية الآخذة بالتكوّن، وترحيبا جماهيريا مناطقيا وطبقيا-فئويا واسعا

 

باجتماع هذه "الموافقات" لاقى ما حدث ترحيبا سياسيا من "جبهة الرئيس" السياسية الآخذة بالتكوّن، وترحيبا جماهيريا مناطقيا وطبقيا-فئويا واسعا. ومن بين المرحبين الفئات الاجتماعية المنتمية إلى الطبقات الوسطى المدينية ذات نمط الحياة المحدّث، الحريصة على مناضهة النهضة اجتماعيا. سياسا، خصوم ما حدث فئتان: أولى متمسكة بحرفية الدستور، لها رصيد في انتقاد "النزعات الشعبوية" لدى الرئيس ، وثانية متضرّرة من سحب امتيازاتها السلطوية.

وعلى الرغم من انقلابيته، قد ينجحُ ما حدث في المرور، إذا ما تمكّن من الحفاظ على زخم التأييد الشّعبي الواضح وسرّع من "استعادة الحالة الدستورية". ومع ذلك يظل الامتحان الأكبر لتجذر حقيقي لما حدث هو في إثبات إمكانية إكساء "الحكم الجديد" مشروعيَّة من حيث مُضِيِّهِ في تغيير حقيقي لأوضاع الناس اقتصاديا واجتماعيّا وصحّيًّا.

 

الحدث: كيف يمكن أن نفسر ما وصلت إليه تونس اليوم من منظور علاقة الدولة بالمجتمع؟

السعيداني: إذا ما واصلنا في القراءة من أسفل، ومن داخل ما يعتمل في المجتمع من أصوات احتجاجية ومطلبية مزمنة، يمكن اعتبار ما حدث نقطة فارقة في بلوغ "صوت المجتمع الدفين" مستويات عالية من الارتفاع. خلال السنوات العشر الأخيرة، طالت العلاقة بين خارطة الاحتجاج الاجتماعية وخارطة المعارضة السياسية مثلا، اهتزازات كبرى أكثرت من مَوَاطِن التّفارق. أن تظل خارطة الاحتجاج من دون تعبير سياسي مباشر، فلا تؤثر في السياسات العمومية أو في الخطط  الحكومية فهذا يعني انسداد طرق محددة لإحداث التغيير وانفتاح أخرى. وفي العادة هذا التفارق ما بين الانسداد والانفتاح يميل، في سياق الجيشان الاجتماعي مثل الذي تعيشه تونس بحدّة وعمق وتسارعٍ، إلى التجذر والتشعّب والاستعصاء على المعالجة، وعلى الأخص إذا كانت، مثلما شهدنا ذلك، معالجة فوقية ومتعالية وصمّاء بل وبوليسية-أمنية رقابيا وعقابيا.

ولكن من المهم أن نعود قليلا إلى الوراء، مثلما حاولت أن أفعل في نص لي عَنْوَنْتُهُ "واحد، عشرة، خمسة وستون". سميت بالواحد عام الجائحة، وبالعشرة عقد الثورة، وبالرقم الأخيرة عمر الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس. وبيّن لي ما خضتُ فيه أن الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس منذ نشأتها، "قامت على إنكار تامّ لضرورة معالجة مسألة العدالة الاجتماعية، مع عجزيْن بنيويين عن صناعة معنى الحياة: تحديث كسيح يتوهّم القُدرة على هندسة المجتمع بفوقية الدّولة الموغلة في المجتمع، وتنمية للتخلّف تروّج وهم التغلب عليه، وتراوح بين سرابات التوازن، والبشرية، والاستدامة"...

في ذات النص، اعتبرتُ أن همَّ تلك الدولة ما بعد الاستعمارية لم يكن توفير مستلزمات العيش الكريم وإتاحة فرص التطوير الخلاق لقدرات المجتمع على التحكم في تاريخية تغيره، بل إثبات قدرتها هي على إنتاج العالم الاجتماعي، مادِّيًّا ورمزيًّا، وهندسة المجتمع على صورة ما تُريده منه. وعلى ذلك، وعلى النمط الكولونيالي، بنت تلك الدولة علاقتها بالمجتمع على أولويّة مراقبته، من خلال وراثة استراتيجية إطلاق يد السلطة الكولونيالية في مراقبة الهويّات التاريخية الجماعية من قبائل وعروش وبُلدان وأوطان، وهذه هي التسميات التي كانت سارية لمجتمع القرب.

مجتمع القرب هو ضديد المجتمع الذي سعت الدولة الحديثة، ومنذ الدولة ما قبل الاستعمارية، في أواسط القرن التاسع عشر، إلى جعل ممارساته وأنشطته وهوياته وتاريخيته مبنية على أسس مركزية الدولة، وعلوية الملك العام، وكليانية الجهاز، وسيطرة المؤسسة وهيمنة المدينة على الريف، و'اتظام" السوق في حدود ما تسمح به أنظمة التبادل التجاري وتقسيم العمل العالمية بين "الدول".

إنّ ما حدث بتاريخ 25-07-2021 فتح أفقا آخر لإعادة تشكيل العلاقة ما بين الكِيَانَيْن. هو أفق مزدوج ما بين المزيد ممّا أسميته في نصوص سابقة لي "التمكين" والمزيد ممّا أسميته أيضا "التجريد". وثمّة هنا رهانٌ تاريخي بعيد المدى

 

منذ أكثر من قرن ونصف إذًا، تمّ بناء العلاقة ما بين الدولة والمجتمع على أساس غَلَبة الأولى على الثانية وكانت شعارات التمدين والاستنارة من "الأمم العظام" (أوروبا) والتحديث والتنمية واللحاق بركب الأمم المتقدمة... حتى شعار التحرّر الوطني الذي كان مركزيا خلال النصف الأوّل من القرن العشرين تم تجييره في اتجاه هذه الغلبة لدى بناء الدولة ما بعد الاستعمارية. وكانت لحظة 2011 لحظة فارقة في هزّ هذه الغَلَبة بنية وفلسفة وممارسة وعلاقات قوّة. إن القراءة الأكثر عمقا لما كان على امتددا العشرية الماضية هي التي تقول بأن ما كان فيها هو محاولات دؤوبة لإعادة صياغة العقد الاجتماعي، وميثاق العلاقة مجتمع-دولة. وباعتبار أن كل تلك المحاولات قد باءت، إلى حد الآن، بالعجز عن بلوغ أهدافها، يمكن القول إنّ ما حدث بتاريخ 25-07-2021 فتح أفقا آخر لإعادة تشكيل العلاقة ما بين الكِيَانَيْن. هو أفق مزدوج ما بين المزيد ممّا أسميته في نصوص سابقة لي "التمكين" والمزيد ممّا أسميته أيضا "التجريد". وثمّة هنا رهانٌ تاريخي بعيد المدى.

 

الحدث: طرحت مفهوم دولة الرعاية الاجتماعية المستقلة الديموقراطية العادلة كنموذج تحولي يبتعد عن الدولة ما بعد الاستعمارية، هل يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس اليوم ضمن هذا السياق أي سياق صيرورة إنتاج لدولة الرعاية أما هو نكوص عنه؟

السعيداني: يمكن أن يكون أنموذج دولة الرّعاية الاجتماعية المستقلة الديمقراطية العادلة أفقا ممكنا لما أسميته في إجابتي عن سؤالك السابق إعادة صياغة العقد الاجتماعي ميثاق العلاقة مجتمع-دولة. بكل التنويعات الممكنة على هذا الشعار، نكون على الضد تماما مما كانت عليه الدولة ما بعد الاستعماريّة في تونس إلى حد اليوم. وقد كنت اقترحتُ هذا الأفق منذ 2014، معتبرا أن صلوحية الدولة ما بعد الاستعمارية في تونس قد انتهت منذ نهاية 2010، وأنها قد استنفدت عمرها الافتراضي، كما هو الحال في كل الدول العربية كافة تقريبا. ولكن ها نحن نعاين أن حشرجاتها لا تزال مستمرة إلى الآن وربما تتواصل حينا آخر. وهذه المعاينة تعجّل بسؤال: هل اجتمعت شروط دولة الرعاية الاجتماعية المستقلة الديمقراطية العادلة الآن وهنا؟

عقبتان على الأقل لا تزالان تفصلاننا عن تحوّل أنموذج دولة الرعاية  إلى منوال قريب التحقق: قوة اقتصاد الريع واستشراء أثره في صوغ السياسات الاقتصادية والاجتماعية في تونس من جهة، وغموض السياسات الاقتصادية البديلة من جهة أخرى

 

أميل إلى الإجابة بأنها لم تجتمع بعدُ. اندفاعات الثورة التي بدأتُ بها رسم لوحة ما يحدث في تونس منذ عشرية جعلت ولا شك الأنموذج المقترح أوضح وأكثر مشروعية ولكن عقبتين على الأقل لا تزالان تفصلاننا عن تحوّله إلى منوال قريب التحقق: قوة اقتصاد الريع واستشراء أثره في صوغ السياسات الاقتصادية والاجتماعية في تونس من جهة، وغموض السياسات الاقتصادية البديلة من جهة أخرى. خذي مثلا ما يمكن أن نسمِّيَهُ "اقتصاد حرب مقاومة الجائحة مثلا". هو اقتصاد حرب/مقاومة ولكنه لا يرتكز على تحويل الأزمة إلى فرصة تغيير من حيث استعادة الدور الرعائي للدولة والتقدم نحو تحقيق العدالة الاجتماعية من بوابة العدالة الصحية، والأخذ من كلٍّ، حسب البعض من طاقته على الأقل، ليكون لكلٍّ حسب الأساسي من حاجته على الأقل. ما الذي تم إنجازه في هذا الباب المتصل برعائية الدولة المشار إليها في الأنموذج وعدالتها. في الحقيقة، كانت "سياسة حكومة الجائحة" كما أسميتُها على النقيض تماما من ذلك.

خذي مناعة الاقتصاد تجاه إمكانية السقوط في حالة التداين المفلس للميزانية العمومية والوقوع تحت الوصاية المالية الدولية. ما الذي تم إنجازه في هذا الباب المتصل باستقلال دولة الرعاية التي يشير إليها الأنموذج؟ ديونٌ ثم تركيم للديون من أجل خلاص فوائد الديون الأولى، ثمّ ديون على الديون من أجل تدارك ما فات من خلاص فوائد ديون سابقة. لا بل يتعزز ذلك باستعداد الحكومة لإمضاء "اتفاقيات التبادل الحر الشامل والمعمق مع أوروبا".

هل لي أن أضيف أن رّهان الديمقراطية، حتّى هو، ليس مضمونا فوزُ تونس به في مُرَاوَحَتها ما بين ديمقراطية تمثيلية كسيحة وغارقة في الفساد، ومصاعب عميقة في إرساء آليات السلطة المحلية التي ينص عليها الفصل السابع من دستور 2014، بفصليه الإثني عشر. بل إن واحدا من آفاق ما حدث بتاريخ 25-07-2021 هو انفتاح انقلاب القصر النّاعم الذي تمَّ ،على استبدال ما يعتقد أنّه حصّن به ذاته دستوريا وسياسيا وشعبيا بتوجهات غير ديمقراطية أو حتى منافية للديمقراطية. إذا كان هذا فسوف يكون إمعانا في سياسات التجريد التي أشرت إليها.

وليست الحصانة الحقيقية ضد هذا الأفق الاستبدادي إلا بالسياسات الضديدة الضامنة للممارسة السياسية الحرة المستقلة المفتوحة، حتى لو لم تتوفر إمكانياتها إلاَّ باضطرار القوى الاجتماعية ذات المصلحة إلى إعادة فرضها مجددّا بوصفها من مقومات الطريق السالكة نحو دولة الرعاية الاجتماعية المستقلة الديمقراطية العادلة.