الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

جان بول سارتر ومشكلة أن تكون تقدميًا باستثناء فيما يتعلق بفلسطين

2021-07-29 10:06:52 AM
جان بول سارتر ومشكلة أن تكون تقدميًا باستثناء فيما يتعلق بفلسطين
الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر

ترجمة الحدث- عبد الله أبو حسان

اشتهر الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر Jean-Paul Sartre  بمواقفه المناهضة للاستعمار، لكنه تفاجأ عندما تعلق الأمر بالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين. لماذا كافح من أجل أن يكون متناغماً في مواقفه، وماذا يخبرنا ذلك عن المثقفين "التقدميين الذين يستثنون فلسطين" اليوم من مواقفهم التقدمية؟ هذه التساؤلات تطرحها الكاتبة رقية زروق في مقال نشرته في مجلة Current Affairs تحت عنوان: Jean-Paul Sartre and the Problem of Being “Progressive Except for Palestine”

وفيما يلي ترجمة المقال:

في عام 1979، التقى إدوارد سعيد، الذي كان شاباً نوعا ما حينها، بالفيلسوف الأسطوري جان بول سارتر Jean-Paul Sartre، وأصيب بخيبة أمل كبيرة. تم تصميم كل شيء في لقائهما كي يكون مثيرًا للإعجاب: جرى اللقاء في ندوة استضافتها المجلة الفرنسية، Le Temps Modernes، وفي المنزل "شديد البياض والتواضع" للفيلسوف ميشيل فوكو نفسه. عندما تلقى سعيد الدعوة (من سارتر ومن سيمون دي بوفوار الموازية له في الشهرة أيضا) لم يصدقها: في مقال في London Review of Books، والذي نُشر بعد 21 عامًا، قال سعيد: "في البداية اعتقدت أن البرقية كانت نوعا من أنواع المزاح. ربما كانت دعوة من كوزيما Cosima وريتشارد فاجنر Richard Wagner  للحضور إلى بيروت، أو من ت. س. إليوت T.S. Eliot وفيرجينيا وولف  Virginia Woolf  لقضاء فترة بعد الظهر في مكاتب داي . Dial كان سعيد، في هذه المرحلة من حياته المهنية، أستاذًا للأدب المقارن في جامعة كولومبيا، وكان قد نشر للتو كتابه الشهير الاستشراق، وهو حجر الزاوية في دراسات ما بعد الاستعمار. وهكذا في الندوة، شعر إدوارد سعيد في البداية بالوفرة الغامرة لهذه الصحبة ("أتذكر بلا داع وبغباء تقديم فوكو لـ [سارتر]")، انتظر إدوارد سعيد سارتر ليقول شيئًا عميقًا وذا مغزى عن هذا الموضوع (الذي وُصِف بلطف على أنه "سلام" في الشرق الأوسط ") والذي كان سبباً في قدوم عدد كبير من الناس إلى الفعالية. ولكن عندما طالب سعيد أخيرًا أن يتحدث سارتر الصامت، كان كل ما فعله الفيلسوف الراديكالي المسن هو "مدح شجاعة [الرئيس المصري] أنور السادات" - الذي شارك في العام السابق في توقيع اتفاقيات كامب ديفيد سيئة السمعة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن - "وبأكثر  العبارات التي يمكن تخيلها ابتذالاً". وكانت الحقائق البديهة التي تدرب سارتر على قولها إخبارية كنصوص وكالة رويترز للأنباء.

كان سارتر، بالنسبة لجيل سعيد، "أحد الأبطال المثقفين العظماء في القرن العشرين" وكان عمقه الفكري" في خدمة كل قضية تقدمية تقريبًا" في عصر إنهاء الاستعمار

ذهل سعيد. وفي مقالته، انتقد سارتر ليس فقط على تصريحاته بشأن السادات، ولكن أيضًا - وبطريقة أكثر إدانة- لصمته الواضح بشأن فلسطين.

كان سارتر، بالنسبة لجيل سعيد، "أحد الأبطال المثقفين العظماء في القرن العشرين" وكان عمقه الفكري" في خدمة كل قضية تقدمية تقريبًا" في عصر إنهاء الاستعمار، واحتضن الحركات الاجتماعية من الجزائر إلى كوبا إلى الكونغو.  استند العديد من العرب المشاركين في حركات إنهاء الاستعمار في جميع أنحاء الشرق الأوسط إلى كتابات سارتر الفلسفية الملهمة عن الوجودية وكتاباته السياسية عن الانعتاق الذاتي. لكن في عام 1979، وقبل عام من وفاته، أصبح سارتر، في نظر سعيد، شبحًا عن المفكر الثوري السابق لا يمكن التعرف عليه. وكتب سعيد: "لا يمكنني أن أنسى موقف [سارتر] من الجزائر، والذي لا بد أنه كان أصعب عليه تبنيه كفرنسي من تبني موقف ينتقد إسرائيل". ويضيف سعيد: "لكني كنت مخطئا بالطبع."

ويعتبر موقف سارتر المحبط تاريخيًا ذو الطابع "التقدمي الذي يستثني فلسطين" (PEP) منتشرا إلى حد ما في الولايات المتحدة بين التقدميين المزعومين. فهو ما يزال موقفا كريها ولا يمكن الدفاع عنه.

بعد أكثر من 40 عامًا، تواصل إسرائيل طرد العائلات الفلسطينية، وبناء مستوطنات غير قانونية، وفي التجدد الأخير للصراع، قصفت غزة بلا رحمة تحت اسم "عملية حارس الأسوار". وقُتلَ، حتى تاريخ 19 مايو / أيار، ما لا يقل عن 243 شخصًا، كما وتم تشريد أكثر من 72,000 فلسطيني وتدمير أكثر من 184 مبنى سكنيًا وتجاريًا. وقد أدانت منظمات حقوق الإنسان الكبرى في العالم إسرائيل لفرضها نظام الفصل العنصري وارتكاب جرائم حرب وإفلاتها من العقاب. ومع ذلك، تواصل وسائل الإعلام الرئيسية تصوير "الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" على أنه نوع من الصراع المعقد الذي لا أمل فيه، ويعتبر موقف سارتر المحبط تاريخيًا ذو الطابع "التقدمي الذي يستثني فلسطين" (PEP) منتشرا إلى حد ما في الولايات المتحدة بين التقدميين المزعومين. فهو ما يزال موقفا كريها ولا يمكن الدفاع عنه.

اكتسب التهكم الساخر (والمتبصر) بعبارة "التقدمي المستثني لفلسطين" درجة معينة من الشعبية على مر السنين. في الآونة الأخيرة، نشر مارك لامونت هيل Marc Lamont Hill  (أستاذ في جامعة تمبل Temple University) وميتشل بليتنيك Mitchell Plitnick (الكاتب والمحلل السياسي) كتابًا بعنوان : "باستثناء فلسطين : حدود السياسة التقدمية Except for Palestine:  The Limits of Progressive Politics، حيث يستكشفان في الكتاب كيف يمكن للتقدميين المزعومين في أمريكا، وكيف ينبغي عليهم، توسيع سياساتهم لتشمل الدعوة ضد اضطهاد الفلسطينيين. يدعو كتاب هيل Hill وبليتنيك Plitnick إلى مزيد من التدقيق في (عدم) الاحترام الليبرالي لفلسطين والموقف الصامت - أو المحير في بعض الأحيان - الذي يتبناه العديد من التقدميين. من الديمقراطيين  مثل آيانا بريسلي Ayanna Pressley ورو خانا Ro Khanna الذين صوتا ضد BDS  في قرار مجلس النواب رقم 246، إلى جانب الرؤية المربكة لألكساندريا أوكاسيو - كورتيز Alexandria Ocasio-Cortez’s بشأن تحقيق السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين، إلى صمت تولسي غابارد Tulsi Gabbard’ الفعلي عن قصف إسرائيل الأخير لغزة، والعديد من الرموز التقدمية المشهورة التي أثبتت أنها غير متناغمة (إذا ما استخدمنا عبارات لطيفة) وغير موثوقة في مناصرتها لفلسطين داخل السياسة الأمريكية.

يحاول العديد من هؤلاء التقدميين المزعومين أن يظلوا "محايدين" أو "دقيقين" ، محاولين السير على حبل مشدود لإرضاء المؤيدين على جانبي الصراع

استخدم الأشخاص المطلعون على الحملة من أجل حقوق الإنسان الفلسطيني بشكل واسع عبارة "تقدمية باستثناء فلسطين" كوصف عام للشخصيات اليسارية داخل السياسة الأمريكية الذين يبدون أنهم يدعمون العدالة العرقية والعدالة الاقتصادية ويميلون إلى اليسار فيما يتعلق بقضايا الهجرة وحقوق مجتمع المثليين، وحقوق المرأة - ولكنهم في طرفة عين، يصيبهم بعض الذهول المستنزف عندما يطلب منهم توسيع سياساتهم لتشمل قضية فلسطين.

يحاول العديد من هؤلاء التقدميين المزعومين أن يظلوا "محايدين" أو "دقيقين" ، محاولين السير على حبل مشدود لإرضاء المؤيدين على جانبي الصراع. على سبيل المثال، دفعت محاولة المرشح الرئاسي السابق بيتو أورورك Beto O’Rourke لتحقيق سجل "متوازن" به ليؤكد على مكانة إسرائيل باعتبارها "مساهمًا حاسمًا في أمننا القومي في المنطقة" بينما كان يُصدِّر مخاوف متقطعة بشأن انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين، حتى أنه كان يعارض بحنو حزمة مساعدات أو اثنتين لإسرائيل. آخرون، مثل نائبة الرئيس كامالا هاريس Kamala Harris، ينخرطون في التخيل المضاد من خلال الإصرار على أن إسرائيل تلبي بالفعل المعايير الدولية لحقوق الإنسان. وربما تحمل تولسي غابارد Tulsi Gabbard وجهات نظر تذكرنا كثيرًا بسارتر - على الرغم من أن مواقفها تدعي أنها "مناهضة للإمبريالية"، إلا أن سجلها الانتخابي فيما يتعلق بالصراع يدلل على خلاف ذلك: لقد شجبت "آلة الحرب النيوليبرالية / المحافظين الجدد" التي تحفز الولايات المتحدة على الانخراط في حروب "لا طائل منها"، لكنها صوتت أيضًا لصالح مشروع قانون مكافحة BDS وقرار مجلس النواب رقم 23  والذي يعيد التأكيد على تعهد الولايات المتحدة باستخدام حق النقض ضد قرارات الأمم المتحدة التي تطالب إسرائيل باحترام القانون الدولي.

هذا النوع من الرقص حول قضية فلسطين ليس بالأمر الجديد. أبدا إدوارد سعيد تألمه، في مقابلة عام 1988 في [كتاب] "السلطة والسياسة والثقافة"، لغياب دعم اليسار الأمريكي لفلسطين، قائلاً إنه شيء غريب أن تلحظه. ويلخص سعيد موقف اليسار الأمريكي تجاه فلسطين كمزيج من الافتقار إلى المعرفة، والحديث المنمق عن إسرائيل باعتبارها معقلًا للديمقراطية في الشرق الأوسط، وكونها أيضًا "مكانًا لبقايا المحرقة" والتي قيدت رد الفعل السياسي والفكري لليسار الأمريكي بشأن قضية فلسطين "بدرجة مذهلة". وبالنظر إلى جميع "القضايا ما وراء النظرية" التي ظهرت في النقاشات المختلفة عن اليسار مثل "دور المثقف" و "دور اليسار في السياسة الأمريكية"، فيجب أن تكون الحقيقة المتمثلة في أن إسرائيل تتلقى مليارات الدولارات في المجالات السياسية والعسكرية كإعانات مالية من الولايات المتحدة هي في طليعة العديد من هذه النقاشات.

لقد أقلقت قضية فلسطين حفيظة السياسيين الليبراليين لعدة أسباب، وفي المقام الأول لأنها توضح الطبيعة المتناقضة لسياساتهم التي يفترض أنها تستحق الثناء

يوضح سعيد: "هذا هو المكان [...] الذي يلعب فيه المثقفون الأمريكيون دورًا مباشرًا للغاية"، مضيفًا أن قضية فلسطين "متضمنة في العديد من القضايا التي كان اليسار متحمساً بشأنها. ومع ذلك، شارك المثقفون الأمريكيون في زمن سعيد في القليل جدًا من الإجراءات المنسقة أو المنظمة  حول هذه القضية - ويمكن القول إنهم لم يفعلوا ذلك حتى الآن. وينطبق الشيء نفسه على السياسيين الأمريكيين الرئيسيين. كما ويتساءل سعيد غير مصدقٍ: "إذا قلت من ناحية إننا ضد تقديم الدعم للأنظمة القمعية في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا وأجزاء مختلفة من شرق آسيا، فما هي المشكلة في قول نفس الشيء من منظور أممي حول إسرائيل؟"

لقد أقلقت قضية فلسطين حفيظة السياسيين الليبراليين لعدة أسباب، وفي المقام الأول لأنها توضح الطبيعة المتناقضة لسياساتهم التي يفترض أنها تستحق الثناء. بينما لم يكن جان بول سارتر أمريكيًا ولا سياسيًا، فقد وقع في فخ مماثل. كان تفكيره في موضوع إسرائيل وفلسطين - معقدًا ومربكًا نظرًا لمواقفه الأخرى المناهضة للاستعمار - حاول إلى حد كبير اتخاذ موقف "محايد". ولم يكن سارتر وحده في هذا الشأن: إذ لم يتعاطف عدد من معاصريه الذين غالبًا ما ارتبطوا باليسار - مثل سيمون دي بوفوار وألبير كامو وميشيل فوكو - كثيرًا مع تحرير فلسطين ولم يتجاوزوا الأقوال المبتذلة. وكانت مواقفهم، وتحديداً مواقف سارتر خلال حرب الأيام الستة، ترمز لنفس الجبن الأخلاقي اليوم.

سارتر وحرب الأيام الستة

شارك المثقفون العرب في القرن العشرين في مشروع جذري لإعادة تكوين الثقافة والذات العربية في مرحلة ما بعد الاستعمار. ولجأ العديد من هؤلاء المفكرين العرب إلى سارتر، وجمعوا بين الوجودية وأخلاقيات سارتر في الانخراط - بشكل أساسي ( وللمفارقة) في عملية تحمل المسؤولية السياسية عن أفعال الفرد - في القضايا المناهضة للإمبريالية. كان هدفهم معالجة الحاجة الاجتماعية والثقافية والسياسية الملموسة للناس لإنهاء الاستعمار وإعادة اكتشاف أنفسهم في مجتمع ما بعد الاستعمار. حتى أن الكثيرين استخدموا أخلاقيات سارتر في المشاركة كأداة علاجية لإزالة المخلفات التي خلفها الاستعمار والتخفيف من تركة الصدمة الاستعمارية. كانوا يؤمنون أن هذا سيكون بمثابة طريق معقول لإنهاء الاستعمار الثقافي والسياسي.

كانت حرب الأيام الستة نزاعًا ذائع الصيت قصير الأمد واستمر من 5 يونيو إلى 10 يونيو عام 1967. أما الموقف المتشدد الذي اتخذته إيباك AIPAC وأنصار إسرائيل فتمثل في أن الحرب كانت مبررة - فالهجوم الوشيك من قبل جيران إسرائيل العرب مصر، الأردن وسوريا، اللذين حشدوا قواتهم التي تفوق عدد قوات الجيش الإسرائيلي حول حدودها، كانت ستمحو إسرائيل من على الخريطة. زعندما رأت إسرائيل أن وجودها على المحك، شنت هجومًا استباقيًا وفازت بالحرب في ستة أيام فقط.

في الأشهر التي سبقت حرب الأيام الستة، أثار موقف سارتر الرجعي تجاه فلسطين غضب أصدقائه العرب

ومع ذلك، يجادل جون كويجلي John Quigley، أستاذ القانون الدولي بجامعة ولاية أوهايو، بأن هذا الموقف المتشدد كان خاطئاً. وبالاعتماد على وثائق رفعت عنها السرية وأتاحتها الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وروسيا، يؤكد كويغلي Quigley أن جيش إسرائيل يفوق عدد جيرانها العرب على حدودها وأن هجوم إسرائيل الاستباقي المزعوم على العرب لا يمكن تبريره على أنه دفاع عن النفس بل هو عمل عدواني انتهك القانون الدولي. في هذا الوقت، استولت إسرائيل على شبه جزيرة سيناء والضفة الغربية وقطاع غزة والقدس ومرتفعات الجولان، وكانت الحرب بمثابة نقطة تحول مهمة في الصراع غير المتكافئ بين إسرائيل وفلسطين. كانت نتيجته أكثر من 100,000 لاجئ وتم ضم أكثر من مليون فلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي. كانت الأرض التي حصلت عليها إسرائيل خلال الحرب أيضًا محور قرار الأمم المتحدة رقم 242، الذي دعا إلى انسحاب إسرائيل من هذه الأراضي. في وقت لاحق أصبح الأساس لاتفاقات كامب ديفيد، التي وضعت خارطة طريق مصطنعة لحل الدولتين.

في الأشهر التي سبقت حرب الأيام الستة، أثار موقف سارتر الرجعي تجاه فلسطين غضب أصدقائه العرب. لماذا؟ ما الذي يمكن أن يجعل سارتر يتنصل بشكل غير واضح من إرثه الفكري المتعلق بمناهضة الإمبريالية عندما تعلق الأمر بحرب الأيام الستة عام 1967؟

يكمن جزء من الإجابة في تعقيد فهم سارتر لمفهوم الضحية. وفقًا للمؤرخ يوآف دي كابوا Yoav Di-Capua- في كتابه No Exit: Arab Existentialism، Jean-Paul Sartre & Decolonization (2018) - فإن الفيلسوف الشهير الذي لعبت كتاباته دورًا بارزًا في "الحمض النووي الفكري لإنهاء الاستعمار العربي" والذي اعتبرالعرب "الذوات الجمعية للاستعمار" قد وقف مشلولاً تماما عندما تعلق الأمر بالتنديد العلني للعدوان الإسرائيلي. في عام 1967، ومع كون ذكريات الهولوكوست لا تزال راسخة في ذاكرة العالم، كان سارتر مترددًا في انتقاد الدولة التي أسسها الناجون منها. كما كتب دي كابوا ،Di-Capua كان من الصعب على سارتر التوفيق بين "الآخر" اليهودي و "الآخر" الفلسطيني. من كان الضحية الأكبر؟ من كان يستحق التعاطف مع قضيتهم؟  اعتقد العديد من العرب أن سارتر "يتاجر بالتعويضات الأخلاقية لأجل الصهاينة".

,وقد أعرب الفيلسوف الراحل بيير بورديو عن هذا الموقف بشكل أفضل في Revue d'études palestiniennes ، مشيرًا إلى أنه "يتردد دائمًا في اتخاذ مواقف عامة" بشأن قضية إسرائيل وفلسطين ، لأنه "لم يشعر بالأهلية الكافية لتقديم توضيحات حقيقية حول هو السؤال الأكثر صعوبة والأكثر مأساوية بلا شك  في عصرنا (كيف نختار بين ضحايا العنف العنصري بامتياز وضحايا هؤلاء الضحايا؟) ".

وعندما حظي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باهتمام عالمي، امتنع سارتر عن إبداء رأيه لأطول فترة ممكنة

وعندما حظي الصراع الإسرائيلي الفلسطيني باهتمام عالمي، امتنع سارتر عن إبداء رأيه لأطول فترة ممكنة. ولكن نظرا لكونه قد كان أبرز محلل أوروبي لسياسات التحرير المناهضة للاستعمار في ذلك الوقت، فقد شعر بضغط متزايد للدخول علانية في المعركة. بالنسبة للعديد من العرب الذين أيدوا تحرير فلسطين، كان موقف الحياد موقفًا غير معقول- وكان البعض يأمل في أنه قد يتغير إذا كان سارتر يرى بأم عينه الفقر المدقع في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، في جباليا ودير البلح. كتب دي كابوا Di-Capua أنه بعد زيارة سارتر لهذه المخيمات، صرح علنًا:

"بفضل مساعدتكم، تمكنت من مشاهدة الواقع الفلسطيني وأن أفهم بشكل أفضل ما يشعر به الرجال والنساء والأطفال الذين يعيشون في المخيمات بعيدًا عن أرضهم. كما أفهم رغبتهم العميقة في العودة إلى هذه الأرض. أعلم أنكم تقومون حالياً بتنظيم أنفسكم من أجل تحقيق هذا الهدف، وبما أنني أفهم [وضعكم]، أود أن أعرب عن تعاطفي معكم ... أود أن أؤكد لكم أنني أعترف تمامًا بالحق الوطني لجميع اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى بلادهم."

من المفترض أن سارتر عبر عن هذه المشاعر دون أن يعرف بالضبط كيف سيوفق بين حق العودة الفلسطيني ودعمه لإقامة دولة إسرائيل. على الرغم من رغبة كل من العرب والإسرائيليين في الحصول على مصادقته خلال هذا الوقت المضطرب، كتب دي كابوا Di-Capua  أن العرب فقط هم الذين أخذوا كتابات سارتر على محمل الجد. أدرك المثقفون الإسرائيليون عمومًا أن "فكر سارتر كان أحد مكونات المشروع العربي لما بعد الاستعمار" ، وبالتالي اعتبروه الفيلسوف المفضل لدى المثقفين العرب. وبالتالي، توقع العرب اتساقًا فكريًا وسياسيًا من سارتر. لقد توقعوا منه أن يستخدم اللغة الوجودية والإنسانية التي استخدمها في كثير من الأحيان كسلاح ضد القوى القمعية الأوروبية في كوبا والجزائر والكونغو لصالح قضية فلسطين.

الفاكهة المرة لكلا الجانبين

في عام 1967، عندما وقفت المنطقة على شفا الحرب، وضع حكم سارتر المتعاطف في الميزان. في المحطة الأخيرة من رحلته إلى إسرائيل، والتي قام بها لاستكشاف "جانبي" الصراع، زار أحد الكيبوتسات حيث التقى بالعمال اليهود الذين يجسدون مجازا "المثقف الفلاح". كان كل من سارتر وشريكته دي بوفوار "يخجلان من مصير اليهود في أوروبا ويسعدان برؤية أنهم يبنون حياة اشتراكية جديدة لأنفسهم" في إسرائيل. في الواقع، رأى الاثنان العمال كنموذج يمكن تقديمه للعالم حول كيفية الجمع بين المرونة والاشتراكية، إذ قال سارتر: "من حقك أن تفتخر". تركهم هذا اللقاء متأثرين بشدة، وغادر سارتر إسرائيل برأي أكثر تعاطفاً مما كان عليه عندما وصل. لكن هيئة المحلفين ما زالت باتظاره: فقد رفض سارتر اختيار جانب، قائلاً إنه لا يزال يشغل منصب "الغياب"، وبعبارة أخرى، لا رأي على الإطلاق.

زار أحد الكيبوتسات حيث التقى بالعمال اليهود الذين يجسدون مجازا "المثقف الفلاح". كان كل من سارتر وشريكته دي بوفوار "يخجلان من مصير اليهود في أوروبا ويسعدان برؤية أنهم يبنون حياة اشتراكية جديدة لأنفسهم" في إسرائيل.

كثيرًا ما تُسمع أصداء هذا الموقف اليوم: فقد تم تغليفه بشكل مثالي من قبل مشاهير مثل ريهانا Rihanna وديبرا ميسينج Debra Messing وجال جادوت Gal Gadot. تشتهر هذه الشخصيات العامة بمواقفها التقدمية بشأن مختلف قضايا العدالة الاجتماعية الأخرى، إلا أنها لا تزال تحتفظ بالموقف الكلاسيكي الذي يستثني فلسطين جنبًا إلى جنب مع جرعة صحية من فكرة الوقوف إلى "كلا الجانبين": فكرة أن كلاً من إسرائيل وفلسطين على قدم المساواة، على الرغم من أن أحدهما هي سلطة مسلحة نوويًا  والجانب الآخر لا مسموح له حتى أن يكون له عملته الخاصة. حتى ماركة الآيس كريم Ben and Jerry's، التي أصدرت بيانًا مباشرًا مفاجئًا بشأن مقتل جورج فلويد العام الماضي ، وحقوق المثليين، وتغير المناخ ، فإن سيرتهم الذاتية التقدمية، ليست كذلك. إصدار تصريحات جريئة تناصر حركة "حياة السود مهمة" وتستمر في جني الأرباح من المستوطنات الإسرائيلية غير الشرعية في فلسطين؟ هو أمر يناسب فاتورة  "باستثناء فلسطين PEP".

تم انتقاد موقف PEP (أو قوض) فعليا من قبل الصحفي الأسترالي والمخرج الوثائقي جون بيلجر John Pilger. الذي يعترض من خلال عمله على التغطية الإعلامية الغربية المنزوعة عن السياق النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، والتي تقدم إلى حد كبير وهم المساواة بين الجانبين بدلاً من حقيقة الصراع غير المتكافئ بين المضطهِدين والمضطَهَدين. بالنسبة للأقوياء، هذا المخيال مريح لأنه يعفيهم من مسؤولية اتخاذ القرارات الصعبة. تصريحات الرئيس بايدن في البيت الأبيض بشأن القصف الأخير لغزة هي مثال كلاسيكي. إذ قدم تعازيه في الأرواح التي فقدت من الجانبين، وأشاد ب "ضبط النفس" الذي تمارسه إسرائيل، وأكد حقها في الوجود، وأصر على أن كلا الجانبين يستحقان العيش بسلام. بعد لحظات من وعده بإعادة ترسانة إسرائيل العسكرية (وحرمان الفلسطينيين من حقهم في فعل الشيء نفسه)، روّج بايدن لـ "الفرصة الحقيقية لإحراز تقدم". بالنسبة للمدافعين عن إسرائيل، كان مجرد الاعتراف بمعاناة الفلسطينيين خطوة متقدمة جدًا. بالنسبة لمؤيدي فلسطين - أو أي شخص لديه مبادئ أخلاقية متسقة - لم يكن ذلك كافيًا.

إن سياسة الحياد التي التزم بها سارتر، والتي يُفترض أنها ضد حكمه الأفضل وضد أخلاقيات المشاركة التي نشرها بفخر لسنوات، ستدفعه إلى إدارة ظهره للمثقفين العرب. تبلور هذا "الفعل الخائن الأيقوني" في أذهانهم بعد أن وقع سارتر ودي بوفوار (جنبًا إلى جنب مع عدد كبير من الشخصيات البارزة الأخرى، مثل بابلو بيكاسو ومارغريت دوراس) بيانًا مؤيدًا لإسرائيل أكد سيادة إسرائيل وحقها في الوجود. بالإضافة إلى ذاك، ومقتنعًا بأن بقاءه ذاته كان على المحك،  تم نشر الرسالة في 30 مايو 1967 من قبل صحيفة لوموند في خضم الاحتجاجات المناهضة للعرب التي بدأت تكتسب زخما في فرنسا. في الوقت الذي كان فيه سارتر يأمل أن يظل محايدًا تقريبًا بشأن النزاع، فُسرت هذه البادرة على أنها دعم صارخ لإسرائيل، ودمرت أي وهم بأنه لم يتخذ جانبًا. عندما اتهمه المفكر المصري وصديق سارتر لطفي الخولي بالتخلي عن نضال الشعب العربي بعد التوقيع على البيان قبل حرب الأيام الستة، أجاب سارتر: "كل ما فعلته هو اتخاذ موقف مبدئي ضد الحرب. لم أغير دعمي للنضال العربي والفلسطيني من أجل الحرية والتقدم ". ومع ذلك، على الرغم من ذلك، وعن غير قصد، تخلى عن النضال - في الواقع، وهل كان تبنى القضية في الأساس؟

أثرت عدة عوامل على قرار سارتر بالتوقيع على البيان: كان من المحتمل جدًا أن تكون الخيانة الفرنسية لليهود في الحرب العالمية الثانية، والفظائع التي ارتكبت في الهولوكوست، والشكوك الشخصية ومخاوف أصدقائه وعائلته (بما في ذلك ابنته اليهودية بالتبني) قد ساهمت في غموض سارتر الثابت بشأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك، انزعج اليسار الفرنسي في فرنسا بشدة من إغلاق الرئيس المصري جمال عبد الناصر لمضيق تيران في 22 مايو، كما أن المظاهرات المتصاعدة التي سبقت حرب الأيام الستة في العالم العربي جعلت سارتر مرعوبًا من "شبح وقوع محرقة ثانية". " كما كتبت أمينة البنداري، الأستاذة المشاركة في التاريخ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، فإن "إسرائيل كانت مقدسة" بالنسبة لسارتر والعديد من المثقفين الأوروبيين اليساريين. في أي موضوع يتعلق بالنزاع، كانت الأهمية الأمنية والتاريخية لدولة إسرائيل الوليدة هي صاحبة "الاعتبار الأول ، بغض النظر عن عدالة القضية".

بعد سنوات فقط، تراجع سارتر عن بعض المواقف الرئيسية المتعلقة بإسرائيل، بما يتماشى أكثر مع نضالاته السابقة ضد الإمبريالية

وتقول البنداري إنه وعلى الرغم من أن سارتر كان ضد حكم الفرنسيين في الجزائر، وهو "وضع استعماري مشابه"، برر سارتر الوجود الاستعماري للصهيونية في فلسطين بأنه "نتيجة" لأفكار العصر "(أواخر القرن التاسع عشر!)، وتتساءل فهل كان هذا يعفي الدولة الإسرائيلية بطريقة ما من المسؤولية الأخلاقية والسياسية لتهجير أمة بأكملها.

بعد سنوات فقط، تراجع سارتر عن بعض المواقف الرئيسية المتعلقة بإسرائيل، بما يتماشى أكثر مع نضالاته السابقة ضد الإمبريالية. عندما وقعت هجمات ميونيخ عام 1972 - حيث احتجز الكوماندوز الفلسطيني أعضاء الوفد الأولمبي الإسرائيلي كرهائن في محاولة لتأمين إطلاق سراح السجناء السياسيين - اتخذ سارتر موقفًا مثيرًا للجدل. في مقالته "عن ميونيخ"، كتب عن استخدامات العنف الفلسطيني، قائلاً إن الإرهاب هو سلاحهم الوحيد في الحرب بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وفقًا لسارتر، "ليس أمام الفقراء المضطهدين أي خيار آخر [...] لا يمكن لهذا الشعب المتروك  والمنفي أن يُظهر شجاعته وقوة كراهيته إلا من خلال تنظيم هجمات مميتة". على الرغم من أن موقفه سيتأرجح لاحقًا، وبدا أنه قد يصبح أكثر تعاطفًا مع القضية الفلسطينية على مر السنين، إلا أن سجل سارتر الثابت في تبني القضايا المعادية للإمبريالية - كما يكرر سعيد في مقاله - فشل في النهاية في معالجة قضية فلسطين. عندما كان الأمر مهمًا، كان موقفه من "الغياب" أقرب إلى الصمت.

نحن نقف عند منعطف ثقافي وسياسي غريب عندما يتعلق الأمر بفلسطين. على الرغم من أن النائبة ألكسندريا أوكاسيو كورتيز Alexandria Ocasio-Cortez قد اتُهمت سابقًا بقيادة اللوبي الإسرائيلي، فقد قدمت أيضًا قرارًا مع زملائها الديمقراطيين مارك بوكان ورشيدة طليب يدعو إلى وقف مبيعات الأسلحة لإسرائيل. بالإضافة إلى ذل ، قدم السناتور بيرني ساندرز مؤخرًا قرارًا بمنع 735 مليون دولار من مبيعات الأسلحة الأمريكية لإسرائيل (رغم أنه سرعان ما تم سحبه).

مع كل قنبلة يلقيها الجيش الإسرائيلي على غزة، تصبح المخاطر أكثر وضوحًا - وكذلك جبن أولئك الذين يزعمون أن اختيار جانب ما هو ببساطة أمر صعب للغاية. فأن تكون محايدًا لا يعني فقط أنك ترفض قول شيء ما خوفا من فقدان المكانة أو تنفير المؤيدين؛ بل الأمر يعني الانخراط في الأفكار المبتذلة التي تركز على إعادة توجيه الانتباه بعيدًا عن القمع الإسرائيلي ونحو التصريحات الغامضة والغامضة ضد "الكراهية" أو "العنف". في حين كان ساندرز واحدًا من العديد من الأصوات البارزة التي تدين العدوان الإسرائيلي، إلا أنه لم يتجاوز حدود سارتر. من خلال الدعوة إلى "نهج عادل" للنزاع ومطالبة التقدميين "بتخفيف حدة الخطاب" حول الفصل العنصري الإسرائيلي، توضح الميزة الخاصة بالسياسة الواقعية لساندرز التدريبات الذهنية المملة اللازمة لتجنب اتخاذ موقف غير مريح وصادق من فلسطين والتي يمكن أن تنفر الأصدقاء والعائلة (أو، في حالة السياسي، الحلفاء والمانحين) في هذه العملية.

بنى سارتر، مثل ساندرز، سمعته من خلال تقديم حجج جريئة وشجاعة نيابة عن الضعفاء. المبادئ التي قدموها - والتي يشترك فيها التقدميون المعاصرون - هي مبادئ نبيلة. لكن هذه المبادئ تحتاج إلى أن يتم تطبيقها باستمرار ليكون لها أي معنى حقيقي. نشأت المعضلة الأخلاقية المتميزة لسارتر من خوفه من تجاوز خط الحياد ومحاولة الوقوف في وسط طرفين متعارضين - لكن التداخل في هذا الخط لا يمكن الدفاع عنه عندما تكون الأرواح في خطر. إن الشخص الذي ينتمي إلى فكرة كونه "التقدمي باستثناء فلسطين" والذي يخشى عبور خط سارتر هذا ليس له قيمة كبيرة ليقوله عن سياسات التحرر اليوم.