الأربعاء  11 كانون الأول 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

كيف يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس؟

2021-07-31 09:16:37 AM
كيف يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس؟
رولا سرحان

ليس من السهل توصيف ما يجري في تونس بأنه مجرد "انقلاب" أو مجرد "مسار تصحيحي"، دون أخذ السياقين العربي والدولي في الحسبان، والذي ما ينفك ينظر إلى تونس كفكرة يجب أن يتم إفشالها بكل السبل مستندين إلى فكرة استشراقية قديمة مبنية على أن العالم العربي لا يصلح له العلم كما لا تصلحُ له الفلسفة كما قال إرنست رينان مرة، ليتم إتباعها اليوم بمعايير "الليبرالية المتوحشة" التي تدفع باتجاه أن الديمقراطية هي أيضا فكرة لا تصلح للعالم العربي ولا تلائمه.

وإذا كانت هذه العدسة ضيقة المنظور إلى العرب، من خلال تسليط تركيزها على تونس، هي عدسة استعمارية بالأساس، فإنه لا يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس إلى من خلال النموذج الاستعماري كنموذج تفسيري، والذي ما زال ينظر إلى المنطقة كمنطقة نفوذ وموارد ومصالح استرايتيجية. كما لا يمكن أن نفهم ما يحدث في تونس بمعزل عن السياقين الجزائري والمغربي، إذ إن إفشال التجربة التونسية إنما سيتيح المجال إلى إعادة تركيب المغرب العربي وفق المصطلح الجديد الذي أخذ يُصار إلى استعماله باعتباره منطقة "شمال أفريقيا". وللمصطلح دلالته الهوياتية كما السياسية، إذ يهدف إلى إعادة إنتاج "الجغرافيا المتخيلة" -وفق مفهوم إدوارد سعيد- للمنطقة الممتدة من ليبيا إلى المغرب وما بينهما، بحيث يتم إسقاطُ هويتها العربية عنها، وإدخالها في نزاعات عرقية تمهيداً لتقسيم المنطقة بدءا من الجزائر وليبيا. وبما أن تونس دولة تتصف بإنسجامها العرقي والطائفي، فإن المدخل الأساسي لتكسيرها إنما هو عبر ذات المدخل الحداثي المشوه الذي لم تُفلح الدول العربية ما بعد الاستعمارية في تخطيه نحو إفراز "دولة الرعاية الاجتماعة المستقلة الديمقراطية العادلة" التي نظر لها المفكر التونسي منير السعيداني بدءا من العام 2014.

وإذا ما قمنا بتفصيل خارطة المصالح والتحالفات النخبوية في كل من تونس وليبيا والجزائر والمغرب، فسنفهم ما يحدث في تونس. بشكل أساسي، تم دعم قرارات الرئيس التونسي من قبل دولتين واحدة هي دولة جوار: الجزائر، والأخرى هي الإمارات. ولكلٍّ غاياته من هذا الدعم، فالجزائر، دعمت الرئيس سعيد لأنها تريدُ تقويته على حساب إخوان تونس "حزب النهضة" المتحالف مع إخوان المغرب "حزب العدالة والتنمية المغربي"، وهو حزب مطبع - يُجارية إخوان تونس في إفشالهم نقاشات إقرار قانون تجريم التطبيع في مجلس النواب التونسي، كما أنه بالأساس يدعم التوجه الرسمي للملكية المغربية الساعي إلى تقسيم الجزائر، خاصة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار توزيع المغرب لوثيقة على الدول الأعضاء في حركة عدم الانحياز تتحدث عن "حق تقرير المصير للشعب القبائلي [الأمازيغي ]". أما الإمارات، فمعلوم تماماً موقفها من مختلف ثورات الربيع العربي، وتونس هي الأنموذج الديموقراطي الأكثر نجاحاً في إدارة العلاقة مع "الإسلام السياسي"، واستيعابه ضمن أطر الدولة وإشراكه في العملية السياسية، وهو ما لا تريدُ له دولة كالإمارات أن يستمر. وليست تركيا وقطر بمعزل هي الأخرى عما يحصل، فتركيا التي تتدخل في ليبيا وعينها على غاز المتوسط، تدعم بتوجيهات من الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية التركي، حزب النهضة التونسي وتوظفه كحلقة وصل بين إخوان تركيا وإخوان ليبيا، فإذا ما تم إفشال إخوان تونس فسيخسر إخوان ليبيا عمقاً استراتيجيا مهما وحيوياً لهم، باعتبار "الإخوان" تنظيماً عضوياً مترابطاً. وفي ذات السياق، يمكننا أن نفهم تصريحات الغنوشي حول "الشراكة الاقتصادية الثلاثية" بين تونس وليبيا وقطر، وإعادة إعمار ليبيا من خلال تونس والتونسيين، وتصريحاته الأخرى المثيرة للجدل قبل نحو عام والمتمثلة في دعم "حكومة الوفاق الوطني" الليبية واعتبارها الحكومة الشرعية الوحيدة وهو ما أثار أزمة سياسية داخلية في تونس في حينها، بدأت تتصاعد حدتها حتى وصلت إلى ما وصلنا إليه أخيرا.

إن منطقة المغرب العربي هي المستهدفة بالأساس، حدث الانقسام العمودي فيها مع إخراج المغرب وتحييدها باتفاقات التطبيع مع "إسرائيل"، وليبيا الغارقة في انقساماتها وفوضاها الداخلية تُعاني ضعفا لن تخرج منه قريباً، في حين أن الجزائر تحاول الحفاظ على تماسكها الداخلي ووحدتها الجغرافية، لتظل تونس هي الدرع الحامي للمنطقة فإن سقطت سقط المغربُ العربي.  

إذاً، ما هو المخرج؟ وما هي الكيفية التي يمكن الخروج عبرها من المأزق الحالي لتونس كي لا يتم تمرير مخطط "شمال أفريقيا" إلى "المغرب العربي"؟ إن أنموذج منير السعيداني هو الأنموذج الذي يجب أن يفهم عربياً، كي نخرج من مأزق الدولة ما بعد الاستعمارية باعتبارها دولة ما زالت تعيش أفولها الأخير نحو دولة "الرعاية الاجتماعية المستقلة الديموقراطية العادلة". فحركات الشارع العربي وثوراته إنما هي دلائل على ضرورة تمويت الدولة الأولى بما مثلته من هيمنة الدولة على المجتمع عبر عنفها الداخلي وانغلاقها السياسي واحتكارها الفضائين العام والخاص وتعميم الفساد وظهور اقتصاد القنص (قنص الفرص والأرباح) وحصره في النخب المتنفعة. بحيث تنبع هذه الدولة بالأساس من حاجات المجتمع وحاجات الشعوب وتكون كما يقول السعيداني دولة تنبع من "مجتمعها لتكون لمواطنيها أداتهم إلى بلوغ رغائبهم ومطامحهم وتحقيق مطالبهم فتكون دولة يسمح لها أساسها الرعائي الاجتماعي الديمقراطي العادل بأن تكون الضامن الضروري لاستقلال مرورها إلى دولة ومجتمع ما بعد عولميين."

فما يجب أن يفهمه السياسيون العرب أن قيم الديمقراطية هي قيم تمارسُ بعد أن تكون حاجاتُ المجتمع الأساسية قد أشبعت ولُبِّيت، بحيث تتواءم التنمية المستدامةُ مع مفاهيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة، والتي مبعثها الأساس ومولدها ضمان "العيش الكريم" للشعوب. فلا يمكن أن تتحقق الديمقراطية والشعبُ جائع والشبابُ عاطلٌ ومنظومة الصحة منهارةٌ والأحزاب تنغلقُ على مصالحها السياسية الضيقة، وهنالك أيدٍ تريدُ العبث في الدولة.

من هنا، لا يمكن أن نصفَ ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيد باختزاله في مصطلح أنه مجرد "انقلاب"، ولا يمكنُ رفعه إلى مستوى كونه "ضرورةً تصحيحية"، فهنالك شيءٌ من هذا وشيء من ذاك فيما حدث، وسعيد يسيرُ على صراطٍ رفيع إما يسقطُه في هوة الانقلاب أو يحمله نحو مسار النهوض بالبلاد، إذ يعتمد الأمر على مدى قدرته على إعادة الأمور إلى مواضعها الطبيعية بأن يستوعب بداية حجم الانتقادات الموجهة له ويعمل على تداركها ويعيد إنهاضَ تونس على مبدأ التشاركية والتعددية السياسية التي ليس بإمكانه لا تحجيمها ولا تهميشها. إذ إن المطلوب تحقيقه في تونس كبير جداً، ولن يستطيع سعيد أن يقوم به وحده، وإن ادعى ذلك، وإن غرَّته السياسة بذلك، لأن ذلك كان دائما خطأ أنظمة حكم الدول العربية ما بعد الاستعمارية، التي ابتدأت نضالتها وطنية وانتهت استبدادية.

ستكون الأيام القليلة القادمة حاسمة في تاريخ تونس، وفي تجربتها الريادية عربياً، وليس بإمكاننا إلا الانتظار مرددين تضرع محمود درويش: "حافظي على نفسك يا تونس...سنلتقي غدا على أرض أختك فلسطين".