هي الخليل، قطعةٌ من عطايا الله التي وهبَ لعباده الصالحين، وفي الخليل، لا يجوعُ المرءُ ولا يعرى، ولا تتناقصُ القيم، بل تعلو كما تتعالى عرائشُ الدوالي، وتتدلى التفاصيلُ كما تتدلّى بدلال مُستحق قطوف العنب الدانيات. ولطالما كانت للخليلِ وقفات عزٍّ في زمنِ النكوص على الأعقاب، ولطالما امتدت يدها الطولى إلى جوعِ أيامنا، فأشبعتنا دهرًا، وأنقذتنا من بأسِنا ويأسنا. وها هي الخليلُ اليوم، عظيمةٌ بكلِّ طقوسها، وإن مسَّها الشرُّ اليائسُ على حين غفلة، فَرَجَّ فيها شيئًا ثابتًا لكنه لم يتمكن من اقتلاعه، فالقلعةُ التي اعتدنا على أن تظلَّ عصيةً على الانكسار، لن تكسرَنا، ولن تُكسَرَ بإذنِ الذي وهبها هذا الشموخ.
الأهلُ في مدينة خليل الرحمن، أحفاد الخليلِ وأبناء نداء السماء، ما هكذا تورد الإبل في زمن العطَشِ الطاغي، وفي الجريرةِ لا تشتركُ العشيرة، وأنتم لستم ممن يجترّون الجاهليةَ، ولا يجرّونَ نقائضها بحبلٍ من مَسَد، ولكنكم أشعلتم نيرانَ الذبياني وابن أبي سلمى، ورتَّلتُم في محرابِ الفخرِ آياتِ الشرف والعز، فلا تجنحوا للموتِ وأنتم آباءُ الحياة، وأسيادُ المنطق، وشيوخ الحكمة، ولا تُلقوا بأسلحتكم وتركنوا إلى دَعَةِ المهالك، فالعدوُّ ما زال يتربصُ بِنَا الدوائر، وهو الذي اختطفَ طفلين على مرمى رصاصةٍ منكم، في الوقتِ الذي كان رصاصُ الطيشِ يُلَعْلِعُ في الميزان والحرس وخطوط الطول والعرض، دون أن يستوي العُقلاءُ على خطٍّ له من الأمن نصيب.
أيها الشرفاءُ العقلاء من أرضٍ كرَّمَها اللهُ وخصَّها، وجعلها بيتَ وكلاءٍ له على عيالِه، لا تغلقوا بابَ الله الذي فتحه لكم مشرعًا، ولتكنْ منكم أُمَّةٌ تحكم بما أنزل الله، فلا تستمعوا لنداء الغرباءِ الدخلاءِ على العُرفِ والدينِ والوطن، وأغلقوا أفواهَ صنّاعَ الموتِ المُنشّى في مختبراتِ الآخر، ولتكونوا يدًا على مَنْ سِواكم، وقلبًا واسعًا لمن طرقَ بابَكم طالبًا قِراكم، فواللهِ إنه لبابٌ لم يُغلقْ قطّ، وما كان خلفه إلا رجالٌ أشدّاء في الحبِّ، عظماء في صنع المعروف، حكماء في أحلكِ الظروف. فأين غيَّبتموهم يا أهلَ الخليل؟
لا ينكرُ عاقلٌ أنَّ الدمَ الفلسطينيَّ حرام، وأنَّ حُرْمَتَهُ قانونٌ ربّانيٌّ، ودستورٌ عربيٌّ عمَّدَهُ شيوخُ الخليلِ بالدمِ والزيتِ والزاد، فكانَ خلقًا آخرَ تنزَّلَ على بني هذا الوطنِ الذبيح، يلوذُ به الجائع والمعترُّ وابن السبيل، فهل قتلتمْ رسولكم الذي بايعتموه؟
أيها الأحرارُ في محافظة الأحرار، إنَّ التاريخ العظيم الذي سطَّرَتْه دماء الشهداء، وصانته تضحياتُ الشرفاء من الأسرى والجرحى، وحفظتهُ الأجيال المتعاقبة على مرِّ الزمن، لا يُمكنُ أن يمحوهُ الرصاصُ المجنون، ففي عائلتَي الجعبري والعويوي الكريمتين، كما في كلِّ عائلات الخليل، بمدينتها وجبلها ومخيماتها، أهرامٌ من الشرفِ، وقلاعٌ من المجد، لن تُهدَم ولن تُسوَّى ما دامَ الدمُ يجري في العروق، فاللهَ اللهَ في أبنائكم وتاريخكم.
في الخليل؛ كلُّ مجدٍ ممكنٌ، وكلُّ عَيْبٍ مستحيل، هي قبلةُ الحكمة، وبوصلةُ النجاة، فلن تنحرفَ الخليل، ولن يضلَّ الدليل، وسيبقى هذا البلدُ الطيِّب أهله منارةً لكلِّ من أضاع السبيل.
كثيرةٌ هي أحزانُنا، وعظيمةٌ مصائبنا، ولَم يعدْ في القلوبِ متَّسَعٌ لمزيدٍ من الجراح، وما زال المغتصبُ يطلُّ علينا من هناك، يضحكُ على عيونِ الباكيات، ويقرأ في شهدِ الخليلِ دموعًا لا تصبُّ في كؤوسٍ لذة للشاربين، فليعد للعنب شهدُه وشهادتُه، وليظلَّ الخيرُ في هذه التربةِ التي أنبتت من كلِّ خيرٍ بهيج، حتى لا يصفرَّ قبلَ أوانه، وحتى لا نكتبَ الخليل بدمائنا التي نسيت أن تصبَّ في نهرها الصحيح.