الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

وقفات على مشاعر من زاروا البحر لأول مرة في حياتهم

2021-08-03 08:42:47 AM
وقفات على مشاعر من زاروا البحر لأول مرة في حياتهم
أرشيفية

الحدث- سوار عبد ربه

"في فترة من الفترات لاحقتني متلازمة الحلم، وبت أحلم في البحر بشكل دوري ومتكرر، وكلما شعرت بأنني أقترب منه، سرعان ما يبتعد"، بهذه الكلمات وصفت شابة فلسطينية من مدينة سلفيت الواقعة شمال الضفة الغربية، علاقتها مع البحر الذي لم تره البتة، وليست هذه الشابة إلا واحدة من آلاف الفلسطينيين الذين لم يروا البحر ولا لمرة واحدة في حياتهم بسبب الاحتلال الإسرائيلي.

روند حرزالله (23) عاما، لم يتسن لها زيارة البحر طيلة فترة حياتها، حتى اتخذت قرار التوجه في رحلة إلى مدينة عكا في الداخل الفلسطيني المحتل، صبيحة ثالث أيام عيد الأضحى الأخير، تقول روند: "استطعت أن أكون انطباعا عن البحر من خلال توصيفات الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي في رواية ضوء أزرق، على أنه جبار، وروحه واسعة"، وتتساءل "كيف لا يعرف الإنسان حقا معنى البحر؟".

أما لروند مع شاطئ البحر ورمله حكاية، عرفتها في المنام فقط، كانت تظنه كالقطن الذي يداعب القدمين، تقول روند: أنا لا أعلم ما هو ملمس الرمال وكيف يشعر المرء عندما يلطمه موج البحر ويأخذ يديه بكل قوة ويحضن الماء وينظر إلى السماء وطائر النورس هناك يحلق".

يقول الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش في قصيدته نزل على بحر: "لا تسألونا أي شيء عن زيارتنا.. دعونا نفرغ السفن البطيئة من بقية روحنا ومن الجسد"، لكن أمام مشاعر زوار البحر للمرة الأولى لا بد من وقفة، لا سيما وأنهم مرغمون على البعد، بسبب وجود الاحتلال الذي يمنع أهالي الضفة الغربية من الوصول إلى بقية مدنهم وقراهم على امتداد فلسطين، وقد يكون منهم من هو لاجئ من عكا، حيفا، يافا وغيرها من مدن الداخل الفلسطيني المحتل عام 48.

وامتلأت شواطئ مدن الساحل الفلسطيني خلال الأيام القليلة الماضية بآلاف الفلسطينيين من مدن الضفة الغربية وخاصة الشمالية منها.

وتطل فلسطين التاريخية على ثلاثة بحار، البحر الميت شرقا، والمتوسط غربا، والأحمر جنوبا، لكن الاحتلال الإسرائيلي يسيطر على البحار الثلاثة، ويمنع الفلسطينيين من الضفة الغربية من دخولها، كما ويضع إجراءات وتشديدات معقدة على ذلك.

ويفرض الاحتلال على الفلسطينيين الذين يريدون المرور عبر الحواجز الإسرائيلية المقامة على الأراضي الفلسطينية الحصول على تصاريح خاصة من أجل المرور.

هدالة اشتية (23 عاما) شابة فلسطينية أخرى، من الضفة الغربية، ترفض إصدار تصريح من المحتل لزيارة بلادها، لذا لم تزر البحر يوما، ولكن في عيد الأضحى الأخير، قررت اشتية محاولة الدخول من الفتحات الموجودة في الجدران الفاصل.

ويجد الفلسطينيون من سكان الضفة الغربية المرور عبر ثغرة الجدار متنفسا لهم ما يتيح لهم فرصة زيارة أرضهم المحتلة.

والفتحة هي مصطلح رائج في الوسط الفلسطيني، معناه، ثقب في جدار الفصل العنصري، وموجودة في أكثر من منطقة، يتم العبور من خلاله إلى الأراضي المحتلة عام 48.

الفتحات كحجر النرد إما أن يصيب أو يخيب

تقول اشتية إنها توجهت من مدينتها سلفيت، إلى قلقيلية شمال الضفة الغربية، وكانت بانتظارها هناك فتحة وجنود، انتظرت ومن معها في الحافلة التي كانت تقل حوالي عشرين راكبا، ما لا يقل عن ساعتين، حتى يبتعد الجنود عن الفتحة، كي تتمكن من أن تخطو الخطوة الأولى باتجاه البحر.

وتوضح اشتية أن مشاعرها في حينها كانت مختلطة، بين لهفة اللقاء والخوف من عدم التمكن من الدخول، بسبب وجود الجنود، مشيرة إلى أن الحافلة حاولت التوجه لأكثر من فتحة، لكنها كانت مغلقة إلا واحدة.

تتابع اشتية: تهيأنا أننا على موعد مع البحر، ولكن طيلة الساعتين كان مصيرنا مجهولا، هل سندخل أم سنعود أدراجنا خائبين، وهناك التقينا بأفواج من الناس تنتظر الدخول، والجيش يتنقل من فتحة إلى أخرى ليمنعهم، وشعر الركاب في حينها بتحد، فهم لا يريدون أن ينتصر الجيش على فرحتهم بالوصول إلى محطة العبور تلك.

لذة الانتصار.. ومشقة المسير

بعد ساعتين، تمكنت اشتية ومن معها من اجتياز الفتحة، إذ أوضحت أنها موجودة بين مشاتل وأشجار كثيفة تغطيها، والحافلة كانت تحاول الاختباء قدر المستطاع عن أعين الجنود.

تقول اشتية: "الاحتلال يعلم أننا نحاول الدخول، ومن الممكن أنه تمكن من رؤيتنا ونحن ننتظر، هم يريدون فقط إذلالنا بالطريقة التي ندخل فيها إلى أرضنا.

ويجمع محللون سياسيون على أن هذه الفتحات هي عبارة عن رسائل سياسية ونفسية واقتصادية للسلطة الفلسطينية مفادها أن "إسرائيل هي من تتحكم وتقرر أين يذهب الفلسطيني إلى جانب أن السلطة دون صلاحيات، كما أنها تستطيع أن تجذب المواطن الفلسطيني للتسوق في أسواقها".

وفي تفاصيل آلية عبور الفتحة توضح هدالة اشتية أنهم انتظروا الجنود حتى ذهبوا، وخلال دقائق قليلة توجب عليهم النزول من الحافلة، واستكمال المسير مشيا حتى وصول الشيك، ثم اجتيازه، ثم الركض السريع باتجاه الحافلة التي تنتظرهم في الداخل.

وتضيف: "وصلنا الشارع الذي يفصل الضفة الغربية عن أراضي الداخل المحتل، وتجمعنا في الأماكن المكتظة بالشجر والمزروعات، تحسبا لوجود شرطة الاحتلال في المكان، وبالفعل أثناء الركض رأينا سيارة شرطة، فاختبأنا خلف عروق الأشجار حتى ابتعدت، واستكملنا الركض، لتظهر أمامنا سيارة أخرى، وكررنا الاختباء، حتى وصلنا إلى الحافلة، وهناك سمعنا السائق يقول: "أنتم الآن بأمان، اليوم أمامكم".

تردف اشتية: "كان من الممكن أن يطلقوا علينا كعادتهم قنابل غاز مسيلة للدموع، أو أن يقذفوننا بالرصاص، وكان من الممكن أيضا أن يعتقلوا بعضنا أو يعيدونا من حيث أتينا وينغصون علينا لقاءنا.

العدو وراءهم.. والبحر أمامهم ولكن حذاري

تتابع هدالة اشتية: "فجأة بدأ الخضار يتلاشى شيئا فشيئا، هذا اللون الذي يرافقنا طوال الوقت في مدننا في الضفة، وبتنا نرى لونا آخر، ونشاهد مسطحا مائيا يمشي معنا على مد بصرنا، كان هذا المشهد جديدا، وغريبا وليس مألوفا".

ورغم جمالية الأماكن واختلافها إلا أنها لم تستطع منع نفسها من المقارنة بين المدن المألوفة لها في الضفة، وبين المدن التي زارتها في رحلتها، فشبهت عكا وسورها وأزقتها وأبنيتها، بمدينة نابلس، أما حيفا ولأنها أكثر حداثة فوضعتها في ذات الخانة مع مدينة رام الله.

وتقول اشتية: لم أشعر بغربة المكان إلا من ناحية اللهجة، فلهجتنا تختلف عن لهجة أهل الداخل المحتل.

أما روند حرزالله فعبرت عن زيارتها لمدينتي قيسارية وعكا بطريقتها الخاصة، "عند وصولنا شاطئ قيسارية بدأ البحر بالظهور شيئا فشيئا، جسمي تحفز بطاقة لا متناهية، وعندما لامست قدماي المكان سرعان ما تماهيت معه".

وتضيف: "تملكتني مشاعر رعب واندفاع ودهشة، فالبحر هو الهوية والسحر الكبير أما عن عكا فهي الفرحة والموج والأزقة القديمة والحارات والوجوه الطيبة، تمشي وتشعر كأن الأسوار والأسواق الشعبية والأحصنة ترمي لك سلاما".

ولقي أهالي الضفة الغربية ترحيبا من أهلهم في الداخل المحتل، الذين أعادوا للبحر طابعه العربي الفلسطيني.

وبدوره، قال الأمين العام للحزب الشيوعي عادل عامر في بيان له: "البحر بحركم البحر والوطن وطنكم".

وأضاف: "لفت نظرنا ونظركم النقاش الدائر حول دخول أبناء شعبنا الفلسطيني من الضفة الغربية المحتلة إلى وطنهم وملامسة بحرهم، وهناك من يتطاول عليهم وعلى وجودهم بيننا في الجزء غير المتاح لهم من وطنهم وخاصة الشواطئ والأماكن الأثرية والسياحية".

وأكد عامر أن هذا هو حقهم المسلوب منهم، وليس منة من أحد، وأن هذا التحريض لا يخدم سوى أعداء شعبنا، داعيا إلى إزالة كل الحواجز لإتاحة المجال كي يمارس شعبنا حقه في وطنه أسوة ببقية شعوب الأرض.

في سياق متصل أخذ بعض المرشدين والمنقذين على عاتقهم مهمة نشر تعليمات من شأنها المحافظة على سلامة الزائرين، كي يقضوا عطلتهم بأمان وسلام، ويعودوا إلى ديارهم سالمين، خاصة بعد حالات الغرق المتزايدة التي شهدها البحر في الأيام القليلة الماضية.

ويستدل من المعطيات المتوفرة أنه وقع 132 حادث غرق منذ بدء موسم السباحة الحالي في شهر آذار 2021 حتى لحظة إعداد التقرير، في البحر وبرك السباحة والمجمعات المائية، بينها 17 حالة انتهت بالموت، فيما أصيب 6 بحالة حرجة واحتاجوا لعمليات إنعاش، 4 منهم حالتهم خطيرة و16 متوسطة و89 طفيفة.

وفي هذا الشأن استذكر الناشط الفلسطيني رازي النابلسي تجربته الشخصية مع حالة غرق كان سيتعرض لها يوما، وعلى إثرها صار يرى البحر على أنه مرعب وغدار.

وقال النابلسي في منشور له على "فيسبوك": "البحر من أكثر الأشياء المرعبة بالعالم، والناس التي تموت غرقا فيه، ليست لأنها لا تعرف السباحة بل لأن البحر يحتاج إلى معرفة، والاحتلال منعنا منها".

ويضيف: "البحر وحش، عندما مُنعنا منه، صرنا نقدسه، فهو فكرة الأفق الذي لا تراه الناس من الجدار، والموج الذي يضربنا، ويلاعبنا ويرمينا، وفكرة المسلوب منا"، متابعا: "الاحتلال حول البحر إلى أسطورة خالية من الحزن، ولرومناسية لا نعرفها".

إلا أن روند حرز الله تجاهلت الصورة المرة التي لا تعرفها عن البحر، وقررت الاحتفاظ بجمالية المكان ورومانسيته بعيدا عن أي اعتبارات أخرى، وقالت في ختام حديثها: "كلما اقترب وقت العودة، كنت أشعر بانقباضة في قلبي، ولأول مرة ذقت ألم الفرقة بهذه الحدة اللاذعة، واستشعرت بأهمية الوقت، لأنني لا أريد أن ينتهي هذا اليوم عند نقطة، ومن غير المنطقي أساسا أن تنتهي كل هذه المشاعر بانتهاء اليوم".

وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال يمنع غالبية أهالي الضفة الغربية المحتلة من الحصول على تصاريح للدخول إلى الداخل المحتل خاصة الأسرى المحررين الذين تمنعهم من السفر، بالإضافة إلى ذويهم وذوي الشهداء وهؤلاء يطلق عليهم "الممنوعون أمنيا".