الحدث الثقافي
تصادف اليوم الذكرى 13 على رحيل شاعر فلسطين الكبير محمود درويش، الذي سطر بقصائده معاني فلسطين والهوية والقضية والإنسان. كان محمود درويش يكتبُ مقالاً شبه أسبوعي في جريدة "اليوم السابع" التي كانت تصدر في باريس بين العامين 1984 و1989، وقد اختار درويش بعضا من هذه المقالات التي قام بنشرها في بضعة كتب نثرية له، وظل بعض منها غير منشور في كتب وشبه مجهول، ولم يصل إلى قرائه في العالم العربي. من هذه المقالات نص بديع لم ينشر في كتاب وظل طي النسيان وعنوانه "الكاميرا، والصورة، والمشهد"، وفيه يتحدث عن علاقة الإعلام عبر الصورة والكاميرا في تجسيد الضحية أو استهلاكها أو تغييبها. وكتب هذا النص في العدد 202 من اليوم السابع بتاريخ 12 آذار 1988. وهو نص ورد في كتاب بعنوان "محمود درويش : مقالات اليوم السابع"، اعده وحرره وقدم له الكاتب الفلسطيني حسن خضر، وتبنت نشره مؤسسة الدراسات الفلسطينية، و تنشر "الحدث" النص كاملاً نظراً لفرادته لا سيما أنه ما زال متوائما مع واقعنا الحالي.
نص الكاميرا، والصورة، والمشهد
لعلهم في حاجة إلى المزيد من الظلام، ليسفكوا المزيد من الدم...
فبعد كل حفلة قتل كانوا يحنون رؤوسهم قليلا أمام العاصفة ثم يعودون إلى المرجعية الجاهزة "ما دمت قتلت فمن حقي أن أقتل"، ويصبون العاصفة في كأس من ماء بارد.
لا، ليس من حق أية ضحية أن تكون ضحية إلا إذا كانت ضحية يهودية، وليس من حق أي جلاد، في التاريخ الآدمي أن يستدر دموع المنفرجين، إلا إذا كان جلادا يهوديا، لأن هذا الجلاد ليس أكثر من ضحية ظروف حولته إلى جلاد طاهر!
وحين كانت الانتفاضة في مشهدها الإنساني البسيط تحرر صورة الفلسطيني من التشويه التقليدي المتراكم، كانت في الوقت ذاته تحرر الوعي الغربي المعقد من الابتزاز الجشع ليشهد على المشهد بما يرى ويسمع.
كانت الكاميرا هي الشاهد، هي الشاهد المحايد.
هذه الكاميرا ذاتها كانت، قبل قليل سلاحا إسرائيليا في معركة تسويق الدموع الإسرائيلية إلى الضمير الإنساني مع برتقال يافا وأفوكا الكرمل، وفي كل حادثة عنف كان الطفل الإسرائيلي والمرأة الإسرائيلية هما الضحيتان المعدتان سلفا. لأن الجنود الإسرائيليين عادة لا يموتون إلا "موتا طفيفاً". ولأن الرصاص العربي لا يصيب غير المدنيين. والجنود الإسرائيليون لا "يستشهدون" إلا في حوادث الطرق، أما الأحياء منهم، فهم إنسانيون إلى حد التفريط بقدسية الأمن، والإفراط في تعاطي المخدرات، بعضهم يتمرد على أوامر القادة اللاإنسانية. بعضهم ينتحر حزنا على الشهداء، وبعضهم يوقع على عرائض تطالب رئيس الحكومة بوضع حد لحلم "أرض إسرائيل الكاملة" ويبلغ عذاب الضمير لدى الجندي الإسرائيلي درجة تغري المراقبين العرب بالحديث المريح عن احتمال نشوب حرب أهلية في المجتمع الإسرائيلي.
والكاميرا هي الشاهد.
هي التي اقتطعت جزءا من الصحراء العربية وحولتها إلى جنة. الجرافات تطبخ الرمل والمستنقع والبعوض على أنغام أماديوس موزارت المنشطة، لتحيلها إلى بساتين وبحيرات ولتكذب كتابات الرحالة الأوروبيين عن فلسطين المزدهرة، لأن في وسع التاريخ البشري أن يبدأ من الصفر إذا شاءت الكاميرا ذلك.
والكاميرا هي مساحة الفارق الحضاري بين بيت في كيبوتس يربي البط والتفاح.. وبين بيت من صفيح مخيم. في البيت الأول طفلة نظيفة تلعب بمفاتيح البيانو، وأب يقرأ "تاجر بندقية" باشمئزاز، وأم تصفف الزهور على الطريقة اليابانية. وفي البيت الثاني طفلة تلعب بالقمامة، وأب يسرد تاريخ الخرافة، وأم تقشر البصل وتغسل الثياب في جردل ماء واحد.
ليس من واجب الكاميرا أن تشرح أكثر من فارق الصورتين. فهي لا يهمها أن تعرف أن سكان المخيم هم أصحاب الأرض التي أقيم عليها الكيبوتس. ولا يهمها أن تعرف أن هذا يقيم على أنقاض ذلك بعدما اقتلعه وأودعه النسيان. الكاميرا لا تبحث عن الأصول والجذور. الكاميرا لا تعرف ما تحت المكان... لا تدرك ما تحت الوردة.
لأن الصورة هي الجوهر.
لقد ارتاح الإسرائيليون إلى صورتهم في صناعة فيديو تماهوا فيها إلى درجة نسوا عندها أنهم هم الذين اختاروا المشهد والأبطال والإضاءة والعدسة وتحولت الكاميرا من سلعة إلى عقيدة. من سلعة للتصدير إلى صورة عن النفس...
صورة نهائية محكمة الجمال والكمال، فيها من عناصر التوازن الذاتي ما يجمل الواقع انعكاسا للصورة. الواقع ظل، الواقع شتات لصورة هي الحقيقة الكلية.
في نشوئهم بصورتهم عن أنفسهم، انتقلوا من لحظة الصورة المتعطشة إلى استقامة السياق. منذ الأزل والله لا يريد سوانا على هذه الأرض، نحن صورة الله، لو يحدث ما يعكر صفاء الصورة وثباتها. فليس نبوخذ نصر أكثر من حادث إرهابي تم تطريقه. لم يحدث شيء في صورة الزمن المتطابقة مع صورة الذات. فقد جرت عملية التسلم والتسليم بين آخر ملوك يهودا وبين بن غوريون في طقس بروتوكولي هادئ.
منذ الأزل وإلى الأبد، سنبقى هنا إلى الأبد لن تقوم للآخر قائمة إلى الأبد، نحن على حق إلى الأبد، واليهودي لا يرتكب الخطيئة إلى الأبد وهكذا تطور الصورة طبيعتها المقلوبة جوهرا ومصدرا لمعرفة الواقع- إلى وظيفة من الهيمنة على الزمن الثابت الخاضع لمتطلباتها الخاصة، وإلى كيفية عمل التاريخ العاطل عن العمل خارج صورة الإسرائيلي فيه. إذ لا تاريخ خارج ما يحدده اليهودي من مهام التاريخ. وهكذا تصبح صورته عن نفسه صورة التاريخ عن التاريخ.
لقد ضمن الإسرائيليون خلودهم في صورة صنعوها بأنفسهم، عن أنفسهم، لأنفسهم... وللآخر، المطالب بدور واحد وحيد هو الخضوع لما تملي عليه الصورة من ظلال... وناموا، كما لم يناموا أبداً...
وحين تمكن الحجر الفلسطيني من خدش المرأة، لم يتحسس الإسرائيليون هشاشة تكوين المادة التي صنعوا منها صورتهم، بل وبخوا الكاميرا، وخاطبوها بلغة لم يهيئوا لها لسانهم، فبدلا من أن يتساءلوا: هل نحن كذلك؟ صرخوا: هل في وسع الكاميرا أيضا أن تكون لا سامية؟
إن كثافة خداع النفس تحتاج إلى زمن طويل ليدرك الناظر إلى صورته أن تلك الصورة لم تكن صورته الحقيقية بل صورة الحالم في مرآة، صورة الواهم وقد اندمج في وهم تفصله عن الواقع آلاف السنين. صورة الخارج من كهف الخرافة إلى تاريخ لا يعرفه. تلك هي حال الإسرائيلي المحاصر. الآن، بآلاف من الأطفال الفلسطينيين ولدوا على غفلة منه ولدوا من دون إذن. من أين جاءوا؟ ألم تكن هذه الأرض أرضاً بلا شعب؟ وغيرها من الأسئلة الأولى التي تقتفي إعادة إنتاجها ويمثل هذا التدقيق، إعادة النظر في الصورة، ليس الإسرائيلي معدا لتحمل صدمتها. من فرط ما توغل في تطوير صناعة الوهم الثقيلة.
من كونه ضحية ضاعت هويتها الإنسانية العالمية من هذا الشرط.. إلى الانخراط في دور نقيض وفي هوية مضادة، يدرك الإسرائيلي أنه لا يخوض صراعا على صورة الأرض في الحق الإلهي وفي الحق الواقعي معا. بل يخوض صراعا مع صورته الحقيقية في الصورة المتخيلة التي أنتجها بأداة لم يعد يحتكرها وفي شرط لم يعد قادرا على تحديد هويته السابقة ولا قادرا على تبرير كل ما يفعل.
إن ما كان سلاحه الخاص صار سلاحا عليه. وما كان يصور جماله وكماله صار يصور بشاعته، فأسفرت الضحية عن جلاد. وما كان يصوره وحده صار يصور الآخر. إن الآخر موجود إذا فكيف يلعن الإسرائيلي الكاميرا. وهي التي كانت الأداة المطيعة لتواطئه مع نفسه ومع الغرب على الواقع وعلى التاريخ، فلم يجد غير هذا الاعتراض: ليس من حق أحد أن يفضح جرائم اليهود. لأنها مبررة ولأنها دفاع عن النفس.
لكن ذلك لا يكفي لأن حامل الكاميرا الأمريكي حريص على إحراز السبق الصحفي أكثر من حرصه على صورة الإسرائيلي عن نفسه. وهذه هي إحدى الصور لجنود إسرائيليين يدقون بالحجارة رأس فلسطيني ووجهه وذراعيه بعدما أمرهم وزير الدفاع بتكسير العظام. فنفذوا الأوامر بنشوة حقد. وعلى مرأى من ملايين المشاهدين.
هل يفعل اليهودي ذلك؟ هكذا تساءل اليهود في العالم، نعم يفعل اليهودي ذلك لأن أمن إسرائيل أهم لها من صورتها الجميلة كما قال الجنرال الوزير رابين.
ولكن هنري كيسنجر، وهو أحد باعة المرايا، أشد حساسية وحرصا على الصورة الإسرائيلية من الإسرائيليين أنفسهم، فنصحهم بإغلاق الواقع والمشهد أمام الكاميرا، "اسحقوهم بلا تصوير". إن رجل الكاميرا، كيسنجر الحاصل على جائزة نوبل للسلام الذي قدم السادات قربانا على مذبح الكاميرا الغربية ينصح الإسرائيليين بتحطيم الكاميرا منذ أدرك أن الكاميرا تنقل صورة الفلسطيني المدافع عن الحرية، إذ ليس ذلك هو دور الكاميرا. ليس ذلك هو مجال عملها. وبدلا من أن ينصح نفسه وينصح الإسرائيليين بالبحث عن تجانس آخر بين الواقع والصورة، بانسحاب إسرائيل من واقع لا يزود الكاميرا بغير هذه الصورة نصحهم بانسحاب الكاميرا من الواقع.
من مستشار الأمن القومي الأمريكي إلى مستشار لإدارة الجرائم الإسرائيلية، يداوي كيسنجر عذاب عقدته الخاصة. ويطور عناصر توازنه الداخلي المتنافرة بالتحريض على القتل في الظلام في غابة لا شاهد فيها... في غابة لا تقوى على ابتلاع الواقع.
إن إبعاد الكاميرا عن ساحة الجريمة الإسرائيلية يوفر شروطا أكثر لإدانة الإسرائيليين لا لأنه يغري المراقب بالتشبيه مع عنصرية جنوب أفريقيا، بل لأنه يحذف من صورة الإسرائيلي بعدا كان يشكل أحد ادعاءات تفوقه، كأن يكون الديمقراطي الوحيد في الشرق الأوسط.
في السجال الديمقراطي حول الديمقراطية، الجاري بين الإسرائيليين المطالبين بانسحاب ما من بعض المناطق المحتلة لحماية الطابع اليهودي للدولة، وبين المطالبين بالاحتفاظ بالاحتلال مع التخلي عن السكان العرب لحماية الطابع اليهودي للدولة... أيضا.. في هذا السجال تتقدم صورة العنصرية اسما وحيدا لهذه الديمقراطية التي لا تتسع لأي غوي (آخر)... أي أن وجود العرب، مجرد وجودهم في وطنهم الذي يحتله غيتو الديمقراطية هو تهديد لديمقراطية أسفرت عن جوهرها. عقد عقدة اليهود، بين اليهود، من أجل اليهود. لقد تم إبعاد الكاميرا عن المشهد، فهل يستطيع الإسرائيليون منذ الآن، أن يعيدوا تجميع شظايا المرأة المحطمة، وأن يعيدوا تركيب صورتهم المثلى عن أنفسهم بطريقة تصلح لأن تكون هي الصورة التي يراهم فيها الغرب؟
إنه سؤال محال على الغرب هل يرتاح ضميره، الآن أكثر. ماذا يحدث هناك؟ ماذا يحدث هناك؟ لأن إخفاء الكاميرا عن مسرح الجريمة لا يعني أن الجريمة لا ترتكب وأن إسدال الظلام على الدم لا يخفي صرخة الدم.
كم من الجرائم ارتكبت أمام الكاميرا
كم من الجرائم ترتكب... بعيدا عن الكاميرا.
لكن إخفاء الصورة لا يخفي الواقع.. وصورة الحرية لا تحتاج إلى تصوير.