يشكل الحزب السياسي جزءاً لا يتجزأ من العمل السياسي المعاصر. ويبدو أن اللعبة الديمقراطية الغربية لا يمكن تخيلها بدون فكرة الأحزاب التي تتنافس على تعبئة مقاعد البرلمانات ومجالس العموم والنواب. وتتجلى هذه الظاهرة على نحو أخص في الأنظمة البرلمانية، على الرغم من أن الأنظمة الرئاسية أيضاً لا تخلو من دور للحزب السياسي الذي يختار مرشحاً للرئاسة على طريقة الولايات المتحدة وفرنسا.
من ناحية أخرى يتبوأ الحزب السياسي في ميادين الثورات دوراً جوهرياً بصفته الجهاز الذي يعبئ الجماهير ويوظف قواها في معركة التحرير أو معركة إسقاط الطبقات التي تستغل الشعب والجماهير. بهذا المعنى جاء وصف أنطونيو غرامشي للحزب بأنه "الأمير" على الحقيقة في النظام السياسي المعاصر.
بالنسبة للينين وغرامشي وكثير من المفكرين الثوريين لا يمكن تصور سيرورة الثورة بدون أن يقودها حزب ثوري. الحزب يضطلع بمهمات استراتيجية حاسمة:
أولاً: الحزب هو الهدهد الذي يدل على الطريق، ويحدد اتجاه البوصلة بفضل امتلاكه للأدوات النظرية التي تفسر المجتمع والاقتصاد والتاريخ والسياسة وتسمح باستشراف المستقبل والتحرك الثوري نحو أفضل صورة له.
ثانياً: الحزب يتمتع بقدرات هائلة على التعبئة والتنظيم بما يوفر فرصة لا نظير لها في ماضي البشرية لتوظيف طاقات الجماهير على أوسع نطاق ممكن واستثمار الذكاء الجمعي وروح التضحية من أجل تحقيق أهداف الجماعة الثورية البعيدة المدى.
ثالثاً: يظل الحزب حارساً أميناً لأحلام الناس بفضل مثقفيه الثوريين الذين يدقون ناقوس الخطر في حال انحراف قيادة الحزب أو الدولة عن المسار الثوري "الصحيح" أو محاولتها توظيف الحزب أو الدولة لمصالح فردية أو نخبوية تتناقض مع البناء الثوري المنشود.
من المدهش بالفعل أن الحزب "البرجوازي" قد حافظ على نقاء دوره السياسي ورسالته المتمثلة في حراسة الليبرالية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومصالح الطبقة البرجوازية التي يمثلها دون أن يقع في قبضة الهيمنة الفردية إلا في حالات نادرة فرضتها ظروف استثنائية تمثلها حالة ألمانيا النازية خير تمثيل. كانت البلد ستسقط في فخ الشيوعية، وكان لا بد من درء ذلك الخطر بأي ثمن، لذلك تنادى حلفاء الرأسمال من المشارب والاتجاهات المختلفة إلى ضرورة الاستعانة بجهاز الدولة الإكراهي وحزب قومي رأسمالي عنصري من أجل قتل الثورة الشيوعية في مهدها. وليس في وسعنا أن نذكر مثالاً آخر على "خيانة" المثل والمبادئ، "والرؤية والرسالة"، إن شئنا استخدام لغة البنك الدولي المعاصرة.
في عالم الأحزاب "الثورية" نجد لوحة مريعة من ناحية تحول الحزب إلى قطيع لا "يهش ولا ينش" يسبح بحمد رئيس الدولة، أو أمين الحزب العام، دون أن يكون له دور من أي نوع في تحديد الاتجاه أو الطريقة.
ولعل أبرز الأمثلة على حزب بدأ بداية ثورية عظيمة ثم تحول إلى حزب للتسحيج للقائد نجده في الحزب الشيوعي السوفييتي الذي أسسه لينين، حزب البلاشفة الذي قاد الثورة التي بنت الاشتراكية بشكل أو بآخر في روسيا، لتمتد التجربة بفضل انتصار الجيش الأحمر إلى شرق أوروبا ودول أخرى في آسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية.
سرعان ما تحول ذلك الحزب الذي كان يضج بالنقاشات والمناظرات إلى حزب لتمجيد ستالين وأفكاره التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وقد اتضح مدى ضحالة انتماء الحزب للشعارات التي كان يطبل لها بعد وفاة ستالين والشروع في انتقاده من قبل القيادة الجديدة. ومع كل تغير في القيادة كان الحزب يقدم الملايين التي تخرج إلى الميادين العامة لتبايع القائد وتساند خطواته وتمشي على خطاه. وهكذا هلل الملايين من أبناء الحزب لخروتشوف ثم تخلوا عنه عندما أزاحه برجينيف وكوسيغن وبودغورني. وظل الحزب وفياً لبرجنيف إلى حين وفاته بعد عقدين من الحكم المتواصل، وعندما جاء غورباتشوف بالبيروسترويكا نزلت جموع الحزب إلى الشوارع لتحتفي به. أخيراً عندما انقلب يلتسين على الاشتراكية وفكك الاتحاد، وقفت جماهير الحزب متفرجة لا تحرك ساكناً ولا تسكن متحركاً وسط دهشة البشر حول العالم من عدم قدرة 19 مليون شيوعي على فعل شيء. تخيلوا لو أن هؤلاء كانوا شيوعيين حقاً، أكان من الممكن بأي شكل تفكيك الاتحاد السوفييتي وتصفية الاشتراكية؟!
بهذا الشكل الرهيب علمنا التاريخ درساً قاسياً لا هوادة فيه: إن الأحزاب الثورية على ما يبدو تتحول بسرعة من أحزاب مبنية على مبادئ الثورة وقيمها إلى أحزاب تسبح بحمد ولي نعمتها وتتبع بعض المصالح الصغيرة من امتيازات ومنافع يوفرها للحزبي انتماؤه وولاؤه لمؤسسة الحكم. أسوأ من ذلك أن التجربة قد كشفت أن هذا الحزب لا ينهض بأي دور لحماية القائد في حال تعرضه للمؤامرة أو أي جهد جدي للإطاحة به. الحزب يتكون من كتلة بشرية تهتف للقائد الزعيم الأوحد ما دام في كرسي الحكم والقوة، وأما إذا اهتز الكرسي من تحته، فإن خير ما يفعلونه هو التفرج والانتظار ريثما تنجلي صورة القائد الجديد لينحازوا له من فورهم.
هكذا إذا تتحول هذه الأحزاب إلى بنى فارغة من المضمون تسعى وراء رزقها بتقديم فرض الطاعة والولاء الشكلي للقائد. لكنها بداهة لا تتمتع بأية قدرة على التضحية في أي اتجاه. في أفضل الأحوال يمكن لمليشيا الحزب و "زعرانه" أنه تشارك في قمع الاحتجاجات ضد الحكم والقائد الرمز ما دام لديها القناعة أن أركان الحكم ما تزال ثابتة. ولا بد أنها ستنفض عنه بسرعة البرق عندما ترى قوة جديدة تبزغ في الأفق البعيد، وتشرع في التدرب على الأناشيد الجديدة التي ستستقبل بها الزعيم المفدى المقبل.
أين كان الناصريون والاتحاد الاشتراكي عندما قام أنور السادات بعد أقل من سنة من وفاة الزعيم الأسطورة جمال عبد الناصر بالانقضاض على منجزات الناصرية ورموزها وقيادات ثورة 23 يوليو؟ كأنما انشقت الأرض وابتلعت الملايين التي كانت تعبد القائد وتسبح باسمه صبح مساء.
الحكم في بلدان العرب والعديد من بلدان العالم "الثالث" لا يستند إلى هيمنة طبقية راسخة، بحكم ضعف الطبقة البرجوازية التابعة للاستعمار العالمي، وعدم وجود طبقة ثورية نقيض. وهذا الحكم أيضاَ لا يستند إلى أية أيديولوجية قوية إن تكن شمولية أو سياسية/اقتصادية حصراً. وهذا كله يقود على ما يبدو إلى أن يكون "برنامج" الحزب هو تأليه الزعيم/الأب/القائد...الخ. وهذا ما يعني أن الجماهير هنا لا يهمها من الحدث السياسي إلا موقف الرئيس. وبهذا المعنى يمكن للجماهير أن تقف مع الشيء ونقيضه في وقت واحد ما دام ذلك هو موقف الزعيم القائد. بهذا الشكل المرعب يتحول الحزب إلى رعاع لا قيمة لهم في توجيه اتجاه البوصلة أو طبيعة الممارسات الموظفة في السير في ذلك الاتجاه.
من المؤسف أن نقول في هذا السياق إننا لا نعرف بلداً عربياً واحداً، أو حتى حزباً واحداً لا ينطبق عليه هذا الفهم، وهكذا فإن أية "ثوابت" يمكن أن تمسح بجرة قلم من قبل الزعيم القائد دون أن يحرك أبناء الحزب ساكناً. ومن المؤلم تماماً أن هذا ينطبق مثلما أوضحت لنا التجربة منذ ربع قرن على أحزاب منظمة التحرير من قبيل فتح، والشعبية، والديمقراطية، والحزب الشيوعي...الخ، إذ يبدو أن كوادر هذه الأحزاب والحركات تكتفي مثل غيرها من المحيط إلى الخليج بالهتاف للزعيم وشتم معارضيه مهما كان انحرافه عن المبادئ المفترضة كبيراً وعميقاً.