لم يتردد ذلك الفتى الطريُّ العود الذي جمعتني به الصدفة، وهو يعلِّق على حياة المخيم، قائلًا: "الحياة هي المخيم، هون كل حياتي، أصحابي، والأهل والذكريات، و…" وكان يلوِّحُ بيديهِ ويشيرُ إلى بعض الأزقَّةِ التي يرى أنها أفضل بالنسبة إليه من كل شوارع رام الله. ربَّما معه حقٌّ في رأيه، فهو وُلِدَ في المخيم، ونشأ هناك، وبنى أحلامه الواسعة في ذلك المكان الضيق، لكنه رأى أنه لا يمكن أن يتخلّى عن حقه في العودةِ إلى أرض أجداده، فهو يعرف مدينته التي هُجِّرَ منها أجداده حجرًا حجرًا، وبيتًا بيتًا وشارعًا شارعًا، وبكلِّ جرأةٍ وثقة، يقول: هل تريد أن أحدِّثَكَ عن مزرعة سيدي في يافا؟ أو عن احتفالات النبي روبين؟ ولما سألته عن مصادر معرفته، قال بأنَّ جدَّه كان يروي له دائمًا تلك الحكايات، ويكررها حتى أصبح يحفظها عن ظهر قلب.
ثم يستفيض الشاب في حديثه عن سبب تعلقه بالمخيم قائلًا: هذا المخيم يذكرنا بالنكبة، وبأنَّ لنا أرضًا اغتيلت، وبيوتًا هُوِّدَتْ. وإذا خرجنا من المخيم، فهذا يعني أنَّنا نسينا الوطن، يجب أن يبقى المخيم شاهدًا على ما فعلته بِنَا عصابات الصهاينة، وما قامت به بعض الدول من ( الضحك على لِحى أجدادنا). والكلامُ كثيرٌ كبيرٌ يتدحرجُ على لسان شاب صغيرٍ لم يعِش النكبة ولا النكسة فعلًا، وإنما عاشها في قصص الآباء والأجداد، فكيف به لو رأى ما لا عينٌ رأيت، ولا خطر على بالِ شيخٍ طاعنٍ في السنِّ، وهو ما زال يعتقد أنَّ ما حدث مجرد حلم، وهو لا يريد تصديقه؟
حياةٌ في المخيم، هي بلا شك حياةٌ قاسية، فلا خدمات متوفرة، ولا مساحات واسعة، ولا شجرة يستظلُّ بظلها عابر سبيل. أما البيوت، فلا خصوصية فيها، وهي عبارة عن صناديق كُوِّمَت فوق بعضها كيفما اتُّفِق، والجار يسمعُ جاره لو عطَسَ، أو أخرجَ صوتًا ما، والأسرارُ ليست صالحة هناك، و"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!"
وأمَلُ أهلِ المخيمات كبيرٌ بأن يعودوا إلى ديارهم، لا أن ينتقلوا إلى القرى المجاورة أو إلى المدينة، وفي المخيمِ عاداتٌ وللناسِ مثلُها… ولكنَّ عاداتِ المخيم أن يرفع الناس شعار العزة، وأن يترفعوا عن الدنايا، وكم من شهيدٍ من المخيم سبقَ الناسَ كلهم إلى العلياء؟! وكم من أسيرٍ تركَ سجنه في المخيم، لينتقل إلى سجنٍ آخر في عزلٍ انفراديٍّ عاديٍّ جدًّا بالنسبة له!؟
وفي المخيم حياةٌ وكرمٌ وطيبةٌ وعنفوان، ولكلِّ مخيَّمٍ راوٍ ثقة، ورواةُ مخيماتِنا أطفالٌ يُحضرون الأرضَ إلى تلك البقعةِ الصغيرة، فيدغدغونها ويغازلونها، ثمَّ يعودون إلى فراشهم المبلَّلِ بالندى يتابعون أحلامهم، ويرسمون في الليلِ حيفا ويافا والسماءَ وكلَّ شبرٍ من بلاد.
"أبي أسيرٌ للمرة الثانية، وبيتنا بناهُ لنا رجالٌ من المخيم، وأختي الكبرى تدرسُ في الجامعة بمنحةٍ حصلت عليها من فلان، وأمي فتحت مشروعًا للمخبوزات البيتية، والوضع لوز والحمد لله، فهل نستطيع أن نعيش في المدينة يا أستاذ؟ نحنُ عائلة مهجرة، وستي بتظلّ تغنّيلي: يا محمد يا نوّارة… قوم واسقي البيّارة". هذا ما قاله طفل المخيم، وإنّي به لأكثر من متيّم. هذا الراوية النابغة، ببساطته وحلاوة سرده، وعذوبة نقلِهِ الكلامَ بلكنته الجامعة من كلِّ لسانٍ أغنية، سيكبر على حب الوطن، وسيظلُّ ينقلُ أغاني البلاد، وأهازيج الحرية، وحكاياتٍ كادت تكون منسية، ولا شيء يعجبه سوى مخيمه الذي يراهُ كما يراه، دون أن يعي على لسان مَنْ قال درويش:" نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفلٍ نبيًّا"
في المخيَّمِ ترى الناسَ البسطاء، وترى الفقراء، وترى الشموخَ الذي قد لا تراهُ في مكانٍ آخر، وترى أطفالًا أكبرَ من أعمارهم، فهم قد عركوا الحياةَ وعرفوا تفاصيلها، فعاشوها بقسوتِها ورهبتِها، وأقسموا ألّا يخرجوا من مخيَّمِهم إلا إلى أوطانهم.
هذه المخيمات التي يزيد عددها على ستين مخيمًا موزعةً على الضفة الغربية وقطاع غزة ولبنان وسوريا والأردن، هي الشاهد الحيّ على جرائم المحتل، ومن يمدُّ له يدَ العون من الدول التي تتغنّى بالعدلِ وإحلالِ السلام، وأولئك الذين يسمّون أنفسهم شيوخًا، من تلك الدويلات التي انضمَّ فطاحلُها للغناءِ على طريقةِ أسيادِهم الذين يُلقِّنونَهم كما يُلقمونهم، فاعترفوا بآلةِ القمع، وَشَرْعَنوها، وصاروا مِعوَلًا يساندُ حصّاداتِ الدخيلِ في محاولاته اجتثاث الراسخين.
هنيئًا لقاطني المخيماتِ صمودهم، وبُعدًا لكلِّ أولئك الذين نكثوا عهودَهم.