يبدو أن الحكام المهيمنين على القرار الفلسطيني وصلوا إلى نقطة أغلقوا فيها كل النوافذ التي كان يمكن أن تؤشر لأي بوادر أو احتمال ما للمراجعة التي قد تفضي لتغيير الواقع المتدهور والمتآكل أمام أعين الجميع، كما قرروا الانتقال خطوة إضافية نوعية للطرف الآخر من الخندق في مواجهة إرادة الناس وحقها المشروع بالعدالة والأمل. وأمام هذا الواقع غير المسبوق، في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية ومساراتها المتعرجة صعوداً وهبوطاً، لم يعد هناك من وظيفة لاستمرار مخاطبة من يتصدرون هذا المشهد حول ما يمكن تسميته بما العمل أو كيف نخرج من المأزق أو حتى كيف نقلل الخسائر، بالعكس تماماً؛ فما يجري، يشير بمزيد من الوضوح، وكأن هؤلاء مصممون على البقاء في الحفرة و لا يريدون مساعدة من أحد للخروج منها؛ بل ويتمادون في سلوكهم بطريقة أشبه بمن ألقى القبض على القضية الوطنية وصادر تاريخها وتضحيات مناضليها، وجعل منها ملكية خاصة يتصرف بها كما يشاء ليس فقط لجهة احتكارها أو احتكار التحكم بمصيرها، بل والقيام بكل ما يؤدي إلى تفكيكها وعزلها عن الحاضنة الشعبية لما كان يعرف بالمشروع الوطني، والذي بات بحاجة لإعادة تعريف لا يمكن لأحد أن يحتكرها دون حوار وطني وشعبي يؤسس لمرحلة وعقد اجتماعي جديدين. فالمقامرة البائسة بالمصير الوطني وما يخلفه من تبديد رصيد الإنجازات التي حققتها نضالات شعب على مدار عشرات السنين لن توصل أحد سوى للكارثة التي طالما عمل الاحتلال على تحقيقها.
فمن ناحية، ودون تبرئة حماس من جريمة الانقسام واستمراره وتداعياته، يبدو أن المتحكمين بالقرار السياسي قد أغلقوا أبواب الجهود لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، سواء عبر الانتخابات العامة، والتي كانت قد ألغيت، أو بالتوافق الوطني والوحدة المخلصة لمجابهة موحدة للمخاطر المتفاقمة، والتي تتضح معالمها كل يوم وهي تستهدف جوهر الحقوق والقضية والحركة الوطنية برمتها، كما أنهم يُصَعدون من سياسة تكميم الأفواه وتضييق الخناق على حرية الرأي والتعبير والتظاهر والتنظيم، وبالتالي فعلياً فإنهم يمنعون أي شكل من المشاركة الشعبية لتصويب المسار السياسي الوطني الذي يشكل ركيزة وبوصلة النهوض بالدور الشعبي لمواجهة مخططات الاحتلال لتصفية القضية الوطنية، يترافق ذلك مع سياسات دون أي رؤية ومعزولة عن مضمون احتياجات الناس لتعزيز صمودهم في مواجهة استراتيجيات عمل احتلالية تستهدف بالدرجة الأساسية الاستفراد بالقيادة المهيمنة وعزلها عن واقع الحركة الجماهيرية، كما تستهدف قدرة الناس على الصمود والبقاء واستعادة الأمل بتغيير هذا الواقع.
إن هذه الممارسات لم تعد تعبر عن طغيان السياسة الأمنية في معالجة الاحتقانات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بديلا للحوار وحسب، بل بدأت تدخل مرحلة الشعور بالضعف الشديد، والاعتقاد بأن المضي في مثل هذه الانتهاكات الخطيرة قد يعيد لها مكانتها في معادلة القوة والسلطة، وفي مواجهة من؟ في مواجهة الناس الذين شكلوا منذ انطلاقة الثورة خزان مسيرة وتضحيات مناضليها، وما تلاها من انتفاضات وهبات مستمرة حتى اليوم. فلم يعد مقبولاً على الإطلاق أنه في الوقت الذي تنحصر فيه استراتيجية السلطة بما يسمى "بإجراءات بناء الثقة مع حكومة الاحتلال"، فإنه يجري تقويض ما تبقى من ثقة بالسلطة لدى الشعب الفلسطيني الذي بات يعاني من الاحتلال ومن غياب العدالة والأمل على حد سواء.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في هذه اللحظة المعتمة هو هل هناك متسع لوقف الكارثة ورؤية بصيص أمل في نهاية النفق الذي يزداد عتمة؟ أظن أن الفرصة تتلاشى وتفلت من بين الأصابع، ولم يعد بالإمكان وقفها سوى بمراكمة واعية وعقلانية وصبورة لبديل قادر على الإنقاذ، وهذا للأسف غير متوفر في اللحظة الراهنة وهو الأمر الذي يفسر ضآلة حجم المحتجين رغم الاضطراد غير المسبوق في اتساع دائرة المتضررين. فما هو مطلوب معلوم ومعروف ويستدعي عودة هؤلاء المهيمنين على "الحكم" على ضفتي الانقسام إلى بيوتهم وتحرير البلد من سطوة مصالحهم، هذا يتطلب تغييرا جديا في ميزان القوى لإنقاذ السفينة الغارقة، حينها وفقط في تلك اللحظة قد تتوفر الإمكانية للبدء بتغيير شامل في النهج المتهاوي تمهيداً لانتخابات ديمقراطية شاملة تأتي سلمياً بقيادة تحمي مستقبلنا الوطني وحقنا في البقاء على أرض الآباء والأجداد !