الحدث الثقافي
فيما يلي درارسة للشاعر والمفكر أدونيس كتبها للمؤتمر الثالث للكتاب الأفريقيين والآسيويين الذي عقد في بيروت بين 25-30 آذار 1967. وقد نشرت في مجلة "الآداب" العدد الرابع، وأعيد نشرها في كتاب صادر عن دار الساقي يضم مجموعة من الدراسات الأخرى تحت عنوان "زمن الشعر".
كيف أتحرر من سيادة الأجنبي؟ كيف أوفق بين التراث والتجاوز؟ كيف أوحد بين الحلاج ولينين؟
هذه، في ما يُخيَّلُ إلي، ثلاثة من أهم الأسئلة التي تشغل الشاعر العربي المعاصر. السؤال الأول يطرح مشكلة الاستعمار، والسؤال الثاني يكشف عن مشكلة العلاقة بين الإبداع والتراث، ويكشف السؤال الثالث عن كيفية التوحيد بين الثورة بوصفها فكرا، والثورة بوصفها نظاماً.
يُعاني العربي مشكلة الاستعمار منذ حوالي خمسة قرون. في هذه الحقبة الطويلة سلب كل شيء إلا بعضا من طاقاته: بعضا بقي كمثل جمر يتوهج تحت رماد الأيام. وعاش العربي طول هذه الحقبة بلا حرية ولا ثقافة: غريباً عن حياته، وغريباً عن ذاته. وفي بدايات هذا القرن أخذت الجمرةُ الكامنة تظهر وتنمو. ومن حظ الشعراء العرب الذين ولدوا في هذا القرن أنهم نشأوا مع الجمرة وكانوا جزءا منها. فالنصف الأول من هذا القرن، بل هذا القرن كله، ليس بالنسبة إلى الشاعر العربي المعاصر، تطلعاً إلى الحياة بحد ذاتها، بقدر ما هو تطلع إلى الحرية. كانت الحرية كلا وكانت تعني له الانعتاق، على مستويات الإنسان والحضارة جميعاً. وغلب عليها، بادئ ذي بدء، طابع التحرر من سيادة الأجنبي، والاستقلال والسيادة القومية، وكان الشاعر العربي جزءاً حياً في نسيج القوى التي تفجر حركة التحرر أو تغنيها أو تصفها. وكان، فيما يرسم الحرية السياسية والقومية، يرسم الحرية الاجتماعية والفكرية. وكانت الكلمة ذاتها تتوتر تحت ريشته وتنعتق تماماً كما تتوتر حياته وتنعتق. كان يحطم القيود في الموضوع والتعبير معاً. وهكذا رافقت الثورة على سيادة الأجنبي الثورة على سيادة التقاليد والأوضاع الفاسدة، سواء في الحياة وفي الثقافة.
وقد ورثنا، نحن هذا الجيل الحاضر من الشعراء، عبئاً كبيراً مزدوجاً: إيصال التحرر من الخارج، وهم لما ينته، إلى تمام بالتحرر في الداخل، وابتكار أشكال وصيغ نامية جديدة لحياة آخذة بالنمو والتجدد. وجاءنا هذا العبئ لحظة يتعمق الصراع مع الهيمنة الأجنبية، وتيعقد إذ ينقلب إلى صراع خفي، بوجوه متعددة وأقنعة متعددة. ويرى جيلنا الشعري إلى حياته كيف تنبثق من جديد، وكيف أنه يخوض معركة يحارب فيها أجنبياً يتقنع هذه المرة بقوى عربية محميات أو محظيات، يزركشها الاستعمار العشيق، بالمال والسلطان، كالدمى.
ويكتشف جيلنا أن خياه هو بين أن يتحول إلى دمية أو أن يكون إنساناً.
في ما يخوض الشاعر العربي هذه المعركة مع الهيمنة الأجنبية، يخوض معركة التحرر من القوالب السلفية التي تحال بدورها، أن تشله وتعزله عن حركة التاريخ، وعن التغيير، وتبقيه في عقم الثبات. هذه القوالب السلفية في الفكر والحاية معا، تتحول إلى دعائم تشارك، بشكل أو بآخر، في الحيلولة دون تحقيق التحرر الكامل، أي تشارك في تمكين الهيمنة الأجنبية من الاستمرار بشكل أو وبآخر.
تتمثل هذه القوالب السلفية في قوى الرجعية والتقليد، وهي لا تزال تسيطر إلى حد كبير على الحياة العربية. هذه القوى لا ترى كمالاً إلا في الماضي. فليس التقدم عندها يسيرُ نحو المستقبل، وإنما هو في العودة إلى الماضي. مثلها الأعلى نظرياً هو الإيمان المطلق بكمال الماضي، وهو عملياً، الخضوع للمؤسسات السياسية أو الدينية أو الاجتماعية التي تمثله. ولئن كان الإبداع كشفاً، فإن المبدع إذ يرفض حياة الرجعية والتقليد، ينقدها ويعريها بحيث تبدو على حقيقتها. لكن هذا يزعزعها، لأنه يكشفُ أبعاداً تريد أن تبقى مطموسة، لئلا تفقد طمأنينتها وتوازنها. هكذا تُؤثر الجهل والكذب والرياء، وتفضل الثبات. كل إبداع تغيير أو دعوة إليه. وهو، جوهرياً، صدق. ومن هنا تنفر قوى الرجعية والتقليد من المبدعين، وترى فيهم هدامين وفوضويين. وتعمل على عزلهم.
هكذا تكافح، بمختلف الوسائل، لكي تفرض عالم القبول. وإذ تفرضه، يتعطل الحس النقدي، ويبطل التمييز بين القديم والجديد، الماضي والحاضر الثبات والتغير، ويسيطر كمال الماضي وقيمه. ولا تعود هناك حاجة إلى الكشف، أو إلى آفاق فكرية جديدة. وتنعدم التجارب الشخصية، وتنعدم الحرية.
وتجد قوى الرجعية والتقليد في نظري الشعر لذاته، ما يفيدها لأنها تجد في كثير من الشعر الذي يصدر عنها ما يوفر المتعة والتسلية، وما يُلهي. فالشعرُ بحسب هذه النزعة، لا يُكتب لكي يقدم رؤيا جديدة أو يفتح أفقاً جديداً، أو يعبر عن تجربة إنسانية جديدة. وإنما يصنع خصيصاً لكي يقدم طُرَفاً ومصوغات. وهو، لذلك، يدور في إطار ذهني تجريدي، خارج الحياة والتاريخ. الشعر هنا لا يعبر أو يشارك أو يرى. بل يمنطق وصف ويصطنع. وقوام الشعر هنا هو اللعب لا الواقع، والكلمات لا الإنسان. وإذ تنعزلُ الحركة عن الواقع، تصيرُ تكراراً فارغاً. وإذ تنعزلُ الكلمة عن الإنسان تبطلُ أن تكون وسيلة إبداع وتفجر لتتحول إلى وسيلة صنع وزخرفة.
هكذا يبدو أن قوام هذه النزعة هو القالبية والثبات. وهي تؤدي إلى أن يصبح العالم لعبة، وإلى أن تمتزج الحرية بالاعتباط. ومن هنا تؤدي بمن يصدر عنا إلى أن يحيا هامشياً في معزل عن عصره وأحداثه، وعن الإنسان نفسه. وهي، بالتالي، تولد الشك في معنى الشعر ذاته، أي في الحرية ذاتها. فهي تصبح شكلية: دمية ليس لها أي بعد أو انغراس في الحياة. تصيرُ حرية استمتاع واستسلام. وتلتقي الشكلية الجمالية هنا مع التقليدية القالبية في التشكيك بالتغيير والثورة، وفي فصل الشعر والشاعر عن الحياة والإنسان، وإبقائهما في إطار زخرفي تزييني خالص. ذلك أن الشكلية الخارجية لا تعني في التحليل الأخير شيئا غير التكرار، أي غير حالة من "الثبات- النظام" تأسر الشاعر في أقفاصها. وفي هذا الأسر لا يعود الشاعر إلى صدى أو رجعاً لآلية هذه الحالة.
التاريخ هو التغير. تاريخ الشعر هو أشكاله الجديدة. تاريخ الحساسية الشعرية العربية هو تغيراتها. حيث لا يكون تغير، يكون الإنسان واقفاً، والمجتمع واقفاً: يكون الانحطاط. والتغير هنا كلي، أفقي وعمقي في آن: تغير في البناء والعبارة والتركيب، وتغير في الرؤية والرؤيا. ويبدو لي أن البعد الأساسي الذي يتخذه هذا التغير في الشضعر العربي المعاصر هو ما يتجسد في المقام الأول، في ما يمكن أن أسميه بالتخييل. وأعني بالتخييل القوة الرؤياوية التي تستشف ما وراء الواقع في ما تحتضن الواقع. أي التي تطل على المجهول وتعانقه وتتمازج معه في ما تنغرس في الحضور. الشعر هنا رباط خلاق بين الحاضر والمستقبل، الحضور والغيب، الزمن والأبدية، الواقع وما وراء الواقع.
على أن هذا البعد سيغير المقاييس والقيم لأنه يفتح، فيما وراء الأشكال والصيغ، عهداً جديداً من التجربة الإبداعية في الشعر العربي. أعني أن الإبداع لا يمكن تقويمه بمقاييس الماضي، وأن الطريقة النقدية التقليدية في فهم الشعر الجديد وتقويمه ستكون باطلة لا تجدي. فلكل إبداع جديد تقويم جديد؛ لكل رؤيا جديدة فهم نقدي جديد. ستكون قيمة النقد متعلقة بقدرة الناقد على الغوص في التجرب الجديدة بحد ذاتها، وضمن حدودها، وفهمها واستخلاص معناها، وتقويمها. وهذا يعني أن الناقد الجديد مسوق إلى أن يلغي من ذهنه الشعر من أجل أن يثبت الشاعر: ليس هناك "شعر" وإنما هناك شعراء وشعر. وبقدر ما تكون تجربة الشاعر فريدة أي بعيدة عن تقليدية الماضي، ستكون علامة على الأصالة والتغير، أي قريبة إلى الماضي في الوقت ذاته. فبين الشعر العربي المعاصر الذي ينسخ القديم ويكرره. فالتاريخ هناك حي، وكذلك الزمن والإنسان، والتاريخ هنا واقف ميت، وكذلك الزمن والإنسان.
وإذا كان هذا يؤكد حرية الشاعر إزاء الماضي، فهو يؤكدها، بالأحرى، إزاء الحاضر والسؤال الذي يشغل الشاعر على هذا المستوى مزدوج: كيف يحدد علاقته بالماضي ونظامه وبالحاضر ونظامه، أو بعبارة ثانية كيف يفسر الشاعر تجاوز الماضي من جهة وكيف يحدد علاقته "بالثورة – التغير" "وبالثورة – النظام" من جهة ثانية؟
إن تجاوز الماضي لا يعني تجاوزه على الإطلاق، وإنما يعني تجاوزا لأشكاله ومواقفه ومفهوماته وقيمه التي نشأت كتعبير تاريخي عن الحالات والأوضاع الثقافية والإنسانية الماضية، والتي يتوجب اليوم أن يزول فعلها لزوال الظروف التي كانت سببا في نشوئها فلم يعد الشاعر العربي ينظر إلى الماضي كنموذج للكمال أو كقدسية مطلقة، صار الماضي العربي يهمه بقدر ما يدعوه إلى الحوار معه وبقدر ما تبدو الطرق التي فتحها طريقنا نحن اليوم كذلك وبقدر ما يضيئنا فيما نواجه عتمات الحاضر سائرين صوب المستقبل هكذا يؤخذ الشاعر العربي الجديد من أصوات الماضي بتلك التي تعانق المستقبل فيما كانت تعانق حاضرها وتعبر عنه فمثل هذه الأصوات مفتوحة أبدا للحوار والنمو والفعل بحيث أننا لا نقدر في فكرنا وحياتنا اليوم إلا أن نتلاقى ونفيد منها ونتفاعل معها وفي هذا لا نعاكس المجرى الذي يحفره نهر الإبداع في اتجاه المستقبل وإنما نصبح كمن يسير في هذا المجرى بفتوة أبدية.
أما من ناحية العلاقة بين الشعر والثورة فإن علينا أن نميز بين الشعر من أجل الثورة والشعر الثوري أو " الشعر – الثورة".
إن الشعر الذي لا يطمح إلى أكثر من أن يخدم الثورة ويقلدها واصفا منجزاتها وأهدافها بتفاؤل يصل أحيانا إلى درجة السذاجة، شعر يخون في النهاية الثورة و معناها، ويخون الحرية ومعناها. يخون الثورة لأنها بطبيعتها في حاجة دائمة إلى إعادة النظر في خطواتها، إلى التجدد لكي لا تجمد في المؤسسات والمنجزات وتصير ماضيا. والثورة لا تتجدد إلا بقوة نقدية خلاقة تمنحها بعدا جديدا أو تدخل إليها دفعة جديدة، فهي لا تتجدد إلا بالابداع والحرية، بالتساؤل والبحث والتخطي: بالشعر الذي يبدأ دائما – يحرك، يثير يوحي، فالشاعر تحديدا ثائر. فأن تكتب شعرا هو تحديدا أن تغير. والخطر الذي يواجه الثورة هو أنها منذ أن تصبح نظاما تصبح سياسة، والسياسة قد تقبل كل شيء كل لحظة، بينما الشعر يعيد النظر كل لحظة في كل شيء. والساياسة تعنى بالعمل، في حين يعنى الشعر بالكشف. وتهتم السياسة بالتنظيم والدعاوة، ويهتم الشعر بتهديم الأطر الجامدة والتطلع إلى مجال أرحب. وللشاعر الحلم والرؤيا، وللسياسي التخطيط والتطبيق. والحرية للشاعر مطلقة، وهي للسياسي صيغة أو معادلة أو وعد.
ومما يجب أن نذكره في هذا الصدد أن انعدام هذا التمييز لا يؤدي إلى تشويه الشعر وحسب، وإنما يؤدي كذلك إلى تشويه الحرية. فثمة شعراء يشردون أو يضطهدون بشكل أو بآخر، وثمة شعراء يسكتون بشكل أو بآخر على هذا التشريد وهذا الاضطهاد. وفي ذلك ما يوحي بأن الثورة التي قامت على الحرية وبها لا تقدر أن تستمر إلا بخنق الحرية. لكن، كما أن الثورة هي ثورة بالحرية أولا، فإن الشاعر شاعر بالحرية أولا. لست شاعرا حرا إن كنت وحدي في وطني أتمتع بالحرية. فلئن كان وجود الإنسان يقاس بمدى حريته فإن حريته تقاس بمدى حرية الآخرين. فالشاعر الذي يستمر في كتابة الشعر صامتا على الطغيان حوله يكون مشاركا في هذا الطغيان. والحرية كل: فلا تكتمل إنسانية الإنسان ما لم تكتمل حريته. والحرية كالإبداع تبدأ دائما إذ يبدع الشاعر قصيدة لا يخلق لغته من جديد وحسب، وإنما يخلق إلى ذلك شخصيته من جديد. وحين تعلق هذه البداية الدائمة أو ترجأ أو تعرقل، فإن ذلك يعني تعليقا لوجود الشاعر نفسه، أو إرجاء، أو عرقلة. وكيف ننشئ وجودا صحيحا حرا بوجود معرقل مقيد؟
V
فيما يعاني الشاعر العربي المعاصر هذه المشكلات التي تكشف عنها تلك الأسئلة الثلاثة يحلم أن يتوحد بالثورة والحرية، "بالثورة – الحرية " التي تحرك الواقع وتغيره، والتي تتخطى عناصرها ذاتها: البروليتاريا والدولة وقيم التاريخ والطبقة والثقافة، إلى رؤيا حياة بلا طبقات ولا دولة، حيث تنتهي سيطرة الإنسان على الإنسان وتسود أخلاق الحرية والمسؤولية الشخصية بدلا من أخلاق السلطة والعقاب ويصير الشعر عملا آخر، والعمل شعرا آخر.هذا الشعر – الثورة هو شعر الحركة والتغير والتخطي، شعر الواقع الشامل الذي يفتت عصرنا الميت من أجل أن يولد عصر جديد آخر.