تشير الدراسات والأبحاث النوعية والكمية- الدولية منها أو المحلية، أوحتى دراسات وزارة التربية والتعليم نفسها - إلى نتائج مقلقة للغاية فيما يتعلق بوضع التعليم في فلسطين، ورغم أن الاختبارات لا تمثل أفضل طريقة لتقييم نظام التعليم، فإن التدني الصادم لمستوى تحصيل طلاب الصف العاشر في الامتحانات الوزارية الخاصة بمادة الرياضيات على سبيل المثال، يقدم مؤشر واضح على هذا الفشل. فمنذ عام 2008 لم يتعدى متوسط تحصيل الطلبة الـ٣٠٪ فقط نجد مثالا اخر على هذا الفشل في اداء طلاب فلسطين في امتحانات الـ TIMSS العالمية، التي احتلوا فيها من أدنى المراتب بين الدول. ولكنّنا مع ذلك نشهد بين عشية وضحاها ارتفاعًا مفاجئًا وغير مبرّرٍ في تحصيل طلاب الثانويّة العامّة تفوق كل التوقعات.،راَ وتت جائحة،تقر فيه نصف الطل كما يحصل في النتائج المبهرة لناجحي الثانوية العامة كما يشير البيان[1]، دون "هندسة" معينة تنشر الفرح المزيف بين أوساط الطلبة وأهاليهم وترفد الجامعات والكليات بالمقبولين والمسجلين الذين يقضون عدة سنوات هناك ثم يخرجون بلا قيمة مضافة.
يستمر هذا الواقع دون ان يستدعي تدخلا فعليا ولا حتى اهتمام حقيقي من الحكومات الفلسطينية المتتالية ،لا سيما وزارة التربية والتعليم، وكأن إعادة إنتاج الفشل بنكهات مختلفة هي خطة التشغيل الاحتياطية.
ينطبق هذا الحال على كافة المراحل التعليمية، بما فيها الجامعات والكليات التي تستقبل أفواجا ضعيفة التحصيل وتودع أخرى لا تصلح لا لسوق العمل الفلسطيني، الذي لا يوفر وظائف سوى لما نسبته ٢٠٪ من خريجي الجامعات سنويا، مما يزيد من حجم البطالة ويراكم السوء في الوضعين الاقتصادي والاجتماعي ويعود بالضرر على كافة فئات المجتمع ومؤسساته.
فمن عليه ان يقرع الجرس ويتصدى لهذا المشهد المؤسف، وما هي التدخلات اللازم اتباعها، خاصة في وضع يتسم بغياب المساءلة ولا مبالاة المجتمع؟
كيف نعمل معًا لإنقاذ مستقبل أبنائنا؟
من أجل منع هذه الأزمة من التفاقم، يتحتّم الدفع باتجاه تغيير مكانة التعليم الحاليّة في فلسطين، ويتوجّب اتّخاذ قرارات فوريّة على مستوى السياسات، وذلك من خلال التدخلات التالية:
تبني نماذج تعلّم جديدة في محتواها ومنهجيّاتها، تضمن للأطفال اكتسابَ مهارات التفكير النقدي، والتعلّم الذاتي، والمهارات الحياتية، والانخراط في البحث، وتطوير ذهنيّة التفكير الحاسوبي، وتطبيق المعارف التي يكتسبونها في سياقات حياتهم المختلفة، والتركيز على الاختراع والإبداع وإنتاج المعرفة المتواصل، لأنّ هذا ما سيكفل لهم البقاء على صلة مع التغيّرات التكنولوجيّة المعاصرة وفي نفس الوقت التميز عن ما يمكن أن تقوم به أنظمة الذكاء الاصطناعي بدل الانسان... والأهمّ من ذلك، الحفاظ على غايات وفلسفة التعلم الأساسية والتي تتمثل في الوعي بالقيم الانسانية والتفكير المعمّق، والمساءلة، والشّك، والنّقد، والفلسفة، وبناء وتقبل الآراء المختلفة.
يتطلّب التحوّل المذكور أعلاه تغييرًا جذريًّا موازيًّا في نموذج "تقديم خدمة التعليم"، لأنّ طريقة التعلّم المعياريّة أو المسار التعليمي الموحّد المُعتمد في فلسطين حاليًّا عفى عليه الزمن. فالتكنولوجيا تتيح فرص تعلّم لا محدودة لكلّ المهارات والدرجات الرسميّة وغير الرسميّة، دون قيود مكانيّة أو زمانية، وسيتلاشى قريبًا احتكار وزارات التعليم والمدارس والجامعات لقطاع خدمات التعليم. وذلك، بدايةً، لأنّ متطلبات العمل بدأت تحوّل محورها من الدرجات الجامعية التي يحملها الموظّف نحو ما يحدّده السوق أو صاحب العمل من مهارات ومعرفة وسلوكيّات. ثانيًا، لأنّ التكنولوجيا والقدرة الاتّصالية الشاملة سهّلت من تحوّل التعليم إلى سلعة بيانيّة تزوّدها شركات البيانات العملاقة مثل غوغل وفيسبوك وغيرها. باستطاعة هذه الشركات، نظرًا لإمكانيّاتها الهائلة، تقديم سلع تعليميّة جذابة وحيويّة، أرخص وأنجع من تلك التي تقّدمها سوقنا المحلّيّة، وستكون هذه السلع أكثر مواءمة لسوق الاقتصاد الحر. إن لم نتحرّك سريعًا لتغيير نماذج التعليم التي نعتمدها وطرقنا المتّبعة في تقديم خدمات التعليم، وإن لم نبدأ بإكثار مسارات التعلّم وطرقها وتنويعها بما يضمن ارتباطها بالمعطيات الحاضرة واتّسامها بالإمتاع والقدرة على الجذب سنفقد أيّ سلطة على تحديد ما سيتعلّمه أطفالنا، الذين سيجتاحهم نظام تعليم عالمي تقوده شركات ضخمة بما يتناسب مع أجنداتها والقيم التي ترغب بترويجها.
لم تكن المؤسسّة التعليمية التقليدية قادرة في أيّ مرحلة من مراحلها على إحداث الإصلاحات، حتّى ضمن النموذج التقليدي، وحتّى في الفترات التي كانت الظروف السياسيّة والاقتصاديّة فيها مواتية أكثر مما هي عليه اليوم. ما نحتاجه الآن يتجاوز مجرّد الإصلاح إلى مرحلة التحول، وهناك حاجة ماسة وملحّة لتغيير مسار النظام التعليمي برمّته من أجل تجنّب كارثة اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة أسوأ مما نواجه اليوم، والطريق الوحيد لتحقيق ذلك هو إتاحة المجال لقيادات المجتمع الأكاديمية والفكرية والاجتماعية المختلفة إلى جانب وزارات التعليم والمؤسسّات التعليمية الأخرى للتدخّل في عمليّة حوكمة نظام التعليم وتصميمه وتسييره وإدارته ومتابعتة.
…فمن حق ابناءنا أن يحصلوا على تعلم افضل، ومن واجب الجميع تحمل مسؤولية التعليم.