التطورات النوعية منذ هبّة القدس والشيخ جرّاح التي عَرَّت سياسة الأبارتايد الإسرائيلية، سيّما في أوروبا والولايات المتحدة، ونجاح حركة حماس إلى حدٍ بعيد باختطاف هذا الإنجاز الشعبي بأبعاده الداخلية والدولية وحتى الإسرائيلية من خلال المواجهة العسكرية في العدوان الإسرائيلي على القطاع، ترافقت مع "شبه غياب" أو "ضعف" غير مسبوق في دور السلطة الوطنية حتى الدبلوماسي الجدّي منه، كما أظهرت الحالة السياسية وتفاعلاتها الإقليمية وكأنها باتت رهينة في قبضة حركة حماس على حساب مكانة السلطة ومنظمة التحرير على حدٍ سواء. وقد فاقم من هذا الأمر الاضطرابات الداخلية المتتالية منذ اغتيال الناشط نزار بنات، والاعتداء على المتظاهرين المطالبين بمساءلة ومحاكمة القتلة ومن يقف خلفهم، لتظهر مدى تدهور مكانة السلطة إلى حالة غير مسبوقة من الاستقطاب مع الشارع الفلسطيني لخّصها المبعوث الأمريكي "هادي عمرو" بأنها أصبحت "كغابة من الأشجار الجافة يمكن أن تشتعل من أي عود ثقاب ولأيّ سببٍ كان". هذا الواقع المتردّي للحالة الفلسطينية جاء منسجمًا تمامًا في خدمة الاستراتيجية الإسرائيلية لحكومة "لابيد بينت" والتي لا تريد أن تتقدم قيْد أنملة في مراجعة استراتيجية نتنياهو واليمين الإسرائيلي المهيمن على برنامج هذه الحكومة سواء لجهة وقف الاستيطان أو التراجع عن مضمون "أطواق خطة ترامب-نتنياهو" إزاء القدس أو غيرها من الملفات، ولكنها مستعدة لمزيد من الاستثمار في حالة الانقسام الفلسطيني وما تُولّدهُ من تراجع مضطرد في مكانة السلطة، عبر تعميق التنافس بين القوى المهيمنة على مشهد الانقسام، والتقدم بخطوات شكلية لتأجيج هذا التنافس عبر الاستجابة للمطلب الأمريكي بخطوات ما يسمى "بناء الثقة" بهدف "حماية السلطة من الانهيار" وإشعال حمية الصراع بينها وبين حركة حماس دون تقديم أي شيء جوهري لأيّ منهما، سواء فيما يتعلق بالحصار المفروض على قطاع غزة، أو ما يتصل بجوهر الصراع على الأرض والاستيطان وتهويد القدس في الضفة الغربية التي تديرها السلطة الفلسطينية المتهالكة.
لابد من التأكيد على أن السبب الجوهري لتراجع مكانة السلطة الفلسطينية، ومعها منظمة التحرير وفصائلها؛ هو حالة الانقسام في ظل فشل مشروع التسوية، في وقت تصرّ فيه السلطة الوطنية على التمسك برؤيتها الخاسرة في الأمرَيْن وبالتأكيد في ظل رفض القيام بأي مراجعة جادة. وبسبب غياب تيّار شعبي منظّم، فإن حركة حماس هي القوة المؤهلة لحصد فائض خسارة السلطة جرّاء سياساتها. هذا في وقت أن ارتفاع أسهم حماس بين الحين والآخر سرعان ما يتبدّد لعدم جدارتها واستحالة قدرتها على معالجة أزمة الحكم في غزة بمعزل عن مراجعة مستحقة لمسألة الانقسام والانفراد الحمساوي في الحكم، وبما يشمل أيضًا أن مستقبل القطاع، وبلورة حلول وطنية لملفاته العالقة، لا يمكن معالجته بمعزل عن مستقبل القضية الفلسطينية ومسألة الاحتلال، وما تفرضانه من بلورة قواعد عملية لاستعادة الوحدة واحترام وتكريس التعددية. وهذا بالضبط ما نطلق عليه "الدائرة الجهنمية للأزمة الوطنية" التي سمح طرفاها المهيمنان على المشهد العام لحكومات الاحتلال المتعاقبة بأن تكون اللاعب الرئيس إن لم يكن الوحيد فيها، وبما عزّز من قدرته على امتلاك أعلى درجات الاستثمار لهذا التحكم والسيطرة على مواصلة استراتيجية تفتيت عناصر القضية الفلسطينية، والاستمرار في ترويض فئوية أطرافها للّهاث خلف هِبات "تخفيف الحصار على غزة" أو ما تسميه السلطة "إجراءات بناء الثقة في الضفة!".
أي ثقة تلك التي يمكن بناؤها مع حكومة ترفض وقف الاستيطان، وتجاهر برفضها لإقامة دولة فلسطينية؟! وبالتأكيد تعادي أي حديث عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. وهي تواصل سياسة إدارة العلاقة مع كل من "حكام غزة" و"حكام الضفة" بتقديم الفتات لكل منهما، وبالقدر الذي يثبتا فيه القدرة على استمرار الجدارة لممارسة تنفيذ عطاء الوكالة الأمنية في فرض الهدوء وفق المواصفات الإسرائيلية.
في هذا السياق يتعزّز دور الوسيط القطري بأقصى مطالبه التي لا تتعدّى العودة لما كانت عليه أوضاع القطاع قبل مواجهة مايو العسكرية، وما يعنيه ذلك من فشل تحقيق أي نتائج سياسية أو حتى إنسانية لتلك المواجهة أو ما أسمته حماس "بالنصر التاريخي"! وفي الجهة المقابلة، يأتي انتقال السلطة الوطنية خطوة نوعية في سياق التعامل مع الاستراتيجية الإسرائيلية المتجدّدة لإبقاء الوضع على ما هو عليه من حيث جعل الهدف الاستراتيجي للسلطة يكمن في حمايتها من الانهيار بمساندة إسرائيلية مهما كانت تسميتها أو شكلها، "تقديم قروض مالية" أو الاستجابة لمطالب "إجراءات بناء ثقة" مرة أخرى، لا تتجاوز الفتات الذي تحتاجه إسرائيل لإزالة ما لصق بها من صفة دولة الأبارتايد دون أي مراجعة لجوهر سياستها التوسعية والعدوانية والعنصرية.
في هذا السياق يمكن تفسير ارتفاع سقف مطالب حماس بعد المواجهة العسكرية إزاء أسس استعادة الوحدة تحت وهم "الانتصار الرباني"، أو الموقف الذي نُسِب إلى الرئيس أبو مازن إزاء فرض الاستجابة على حركة حماس لما يسميه المطالب الدولية وشروط الرباعية لمجرد الاستعداد لبدء الحوار معها حول الوحدة، الأمر الذي يعيدنا للمربع الصفري من دائرة الانقسام الجهنمية.
هذا كله في وقت أن طريق استعادة مكانة السلطة لا يمكن بلوغه إلا باستعادة منظمة التحرير لبرنامج الإجماع الوطني ولطابعها الائتلافي الجبهوي، وبعيدًا عن أوهام التسوية، على الأقل في المدى المنظور، وما يتطلبه ذلك من استحقاقات جوهرها استعادة مكانة المواطن وحقوق المواطنة في كل متطلبات ومفاصل الحكم، وما يستدعيه ذلك من اعتذار مستحق للشعب عن كل الأخطاء والخطايا. لديّ كامل الثقة بأن الشعب الفلسطيني الذي يدرك مضمون بوصلة ودوافع الاستمرار في نضاله لمواجهة الاحتلال ومشروعه الاستعماري سيصفح عن كل هذه الخطايا مهما كانت مؤلمة، ولكنه لن يُخدع مرة أخرى!
نعم طريق تصويب مكانة السلطة يتم بمراجعة سياساتها والتقدم بجرأة نحو استعادة الوحدة وليس الرهان مجددًا على "كرم النخوة الإسرائيلية في تقديم فتات الرشوات الصغيرة". والتي تُسمى "إجراءات بناء الثقة".
وما زال بالإمكان عودة جميع الأطراف الفلسطينية لطريق الصواب ووقف الانهيار؛ فهل تفعلها تلك القوى التي ما زالت للأسف تدور في فلك الدائرة الجهنمية من الانقسام والتنازلات المؤلمة التي قد تطيح بها وبالمصير الوطني برمّته.
*رئيس مجلس إدارة مركز الأرض للأبحاث والدراسات والسياسات