تستندُ هذه المقالة إلى مقاربتين نظريتين: الأولى لفولفغانغ إيزر Wolfgang Iser في مقاله "المسرحة باعتبارها مقولة أنثروبولوجية"، والثانية لبول ريكور Paul Ricoeur في مقاله "هل الأزمة ظاهرة حديثة على نحو خاص؟". بحيثُ يؤطر المقالان من الناحية النظرية مفهوم الأزمة والمسرحة، لنحاول بالتالي أن نفهم كيف تؤدي الأزمة إلى المسرحة، وفي حالتنا الفلسطينية كيف تؤدي أزمة من نوع خاص متمثلة في "أزمة الشرعية"، إلى "مسرحة فلسطين"؛ وهي عملٌ مقتطعٌ من مقالةٍ أطول في طور الإعداد.
يقترحُ إيزر التفكير بالوقائع الأنثروبولوجية إنطلاقاً من الخيال، أو لنقل "المخيال"، ذلك لأنه يؤدي إلى إعادة هيكلة مستمرة للأشكال المشروطة ثقافياً، والتي يتبناها الإنسان حياتياً. وهو يستندُ في ذلك إلى فكرة الليونة، أي أن التخيلُ والمخيال باعتمادهما على الليونة المتاحة في التمثلات الثقافية يُتيحان المجال أمام عملية جدلية تقوم على دورة مستمرة من التفكيك وإعادةِ التركيب. وبالتالي تتمظهرُ في المجتمع ثنائيةٌ تتأصلُ في الانشطار، ويكون هذا الانشطار "قوة دافعة تسعى باستمرار إلى التأليف بين كينونتين منفصلتين"، كما يقول إيزر. وبالتالي فإن الانقسام أو الانشطار هو الذي يخلقُ بنيةً رديفة، تلك البنية التي تصبُح قابلةً لأن تكون الأصل. إذ "يستطيعُ الرديف دائماً أن ينسى أنه رديف أو أن يدرك في الحقيقة طبيعته الازدواجية، وبالتالي تذوبُ ذاته في الصورة الاجتماعية أو يؤسس أو يحافظ على التوازن بين نصفيه الخاص والعام". وإذا ما كان إيزر ينظرُ بإيجابية إلى هذا الترادفُ وهذا الانشطار باعتبار أنه يُساعدُ البشر على تعديل ذواتهم، فإنه أيضاً يرى فيه أن يساعدهم على أن يكونوا شيئاً آخر.
من هنا يتأسس تساؤلٌ مهم، كيفَ يمكن أن نُقيِّم هذه الذات الأخرى، خاصة إذا كانت محددة مجتمعياً بشكل مسبق، وتقومُ على فكرةِ عدم السماح للفرد بامتلاك ذاته؟ وتكمنُ الإجابة في أن الفرد كلما كان غير قادرٍ على امتلاك ذاته فإنه يدخل في نطاق المسرحة، باعتبارها مكاناً قد يعوض فيه فقدان الذات، وفقدان ما كان يُمكنُ أن يكون له أو ما يمكنُه السيطرةُ عليه مما كان يمكنُ أن يكون موجوداً خارج نطاق المسرحة. فيدخُلُ طواعيةً أحياناً ومجبراً أحياناً أخرى، في نطاق المسرحة كمسار تعويضي ومسارٍ لخلقِ البدائل، بحيث تكون هذه "البدائل ظاهرةً بمظهر الموضوعية دون أن تخفي أيضاً طابعها الوهمي (..) فكل مسرحة تعيشُ على ما هو غير موجود، ذلك لأن ما تجسده يخدمُ شيئاً غائباً"، كما يقول إيزر، بحيث يكون هدفها النهائي تمكين المرء من البقاء في ظل الفوضى ولا معقولية المعطيات.
وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن المرء لا يُمكنُ أن يظل بعيداً عن ذاته، من قبيل أن يظل الفلسطيني بعيداً عن فلسطينيته، أو أن يكون غير قادرٍ لا على امتلاك فلسطينيته ومفهمتها وآلية صياغتها وتشكلها وتركيبها، مثلما يظل بعيداً عن امتلاكه فلسطين بما هي تجسيدٌ مادي تأسيسي للفلسطنة، فإننا سندخلُ في معايير الأزمة "المعممة" التي تحدث عنها بول ريكور، بما هي أزمة المجتمع ككل في معياره السياسي والبيداغوجي والمعرفي والاقتصادي.
ويستدعي المعيار السياسي بحسب بول ريكور الحاجة إلى الشرعنة التي تثيرها الظاهرة السياسية، إذ تتخلق داخل الظاهرة الاجتماعية اختلافات بين من يحكمون ومن يُطيعون؛ فتتولدُ إشكالية حتمية تتعلق بالقوة أو الهيمنة، وهذه البنية هي التي تحتاج إلى شرعنة، فتكون الأزمة هنا هي أزمة شرعية. وإذ يشترِطُ ريكور في المعيار السياسي للأزمة لتمثلها في أزمة الشرعية تشكلا على صيغة "الدولة" كنطاق لتخلُّق هذه الأزمة، فإن أزمة الشرعية في الحالة الفلسطينية تكون أزمة مركبة نظرا لغياب "الدولة"، ونظراً لمحاولة تطبيق ممارسات دولاتية في ظل اللا-دولة.
وحاصلُ الأمر، أن تكون هذه الأزمةُ هي الفاعلُ التأسيسي للمسرحة. وإذا ما فهمنا أن أزمة الشرعية فلسطينياً مرتبطٌة بمفهمتها، بمعنى كيف يمكنُ للسطلة الفلسطينية إعادة تعريف معنى الشرعية دون أدوات حقيقية تمنحها هذه الشرعية، وفي ظل فراغ الأفق السياسي الذي يمكنُ لها من خلاله ممارسة هذه الشرعية، وفي ظل فقدانها لميزتها الوظيفية في ظل تداعي منظوماتها المؤسساتية، سنفهمُ أنه لا يُمكنها الخروج من فلك "أزمة الشرعية"، إلا عبر المسرحة، مسرحة الاقتصاد، مسرحة المقاومة، مسرحة التظاهرات، مسرحة العنف الممارس من قبل الحاكم على المحكوم، مسرحة فكرة الاستقلال والدولة، حتى الوصول بنا إلى مسرحة الوطن، ومسرحة فلسطين.
فينبتُ سؤالٌ ينمو متسارعاً: كيف نخرُجُ من هذه المسرحة، إلى ما قبل المسرحة أو إلى ما بعدها؟