الحدث- سوار عبد ربه
شهد الشارع الفلسطيني تفاقما حادا في الاعتقالات السياسية، في الأشهر القلية الماضية، على خلفية المشاركة في المظاهرات المستمرة، المنددة باغتيال الناشط السياسي المعارض نزار بنات، اعتقالات نوعية شنتها الأجهزة الأمنية الفلسطينية خاصة في المظاهرتين الأخيرتين، إذ استهدفت أسرى محررين، ونخب سياسية وفكرية، ومثقفين، الأمر الذي اعتبره كثيرون انتكاسة وطنية وسياسية، ودفع بمؤسسات حقوقية وفصائل فلسطينية إلى مطالبة السلطة بالتوقف عن سياسة الاعتقال السياسي.
واعتقلت الأجهزة الأمنية الشاعر والباحث والكاتب والروائي زكريا محمد في رام الله، الذي عمل محررا وكاتبا صحفيا لسنوات طويلة، وصدرت له كتب عديدة في الشعر، الرواية، الميثولوجيا، وأدب الأطفال.
كما اعتقلت فادي قرعان، وخلدون بشارة، وأحمد نصر، ومحمد العطار والبروفسور عماد البرغوثي، يوسف أبو خضير، إبراهيم أبو حجلة، ماهر الأخرس، ضحى معدي، كوثر العبويني، يوسف عمرو، سالم قطش، وعبد الهادي أبو شمسية وأبي العابودي وعمر عساف وجهاد عبدو، غسان السعدي، وأمير سلامة، وحمزة زبيدات ومحمد عبدو ويوسف الشرقاوي.
وحول هذا قال عضو التجمع الوطني الديمقراطي الفلسطيني عمر عساف في لقاء مع صحيفة الحدث إن: "السلطة تعتقد أن هؤلاء وجودهم قد يشكل دافعا للمزيد من المشاركة في هذه الفعاليات وهي تريد أن تحول دون ذلك، إلى جانب اعتقادهم أن البعض منهم يقود الحالة الحراكية"، مضيفا أن السلطة تعتقد أن تغييب هؤلاء الحراكيين، سيضعف الحالة الحراكية.
وتابع: "يوجد متطرفون في أوساط أجهزة الأمن والسلطة يريدون أن يوصلوا رسالة للمجتمع بأنه لا يوجد كبير، وسنطال القامات كماهر الأخرس والشيخ خضر عدنان وغيرهم، وهذا من شأنه أن يشكل ردعا للمشاركة خصوصا في أوساط شبابية".
وبحسب عساف: "في بداية المظاهرات كان الاستهداف الأول للنساء والشابات من خلال استخدام طرق لا أخلاقية في استهداف خصوصياتن والبعض منهن بسبب الضغط المجتمعي انكفأن عن المشاركة، ما جعل السلطة تنتقل لفئة أخرى لتقليص المشاركة".
وعقب الاعتقالات نشرت لجنة دعم الصحفيين بيانا ترفض فيه حملة الاعتقالات السياسية وتوقيف عدد كبير من الشخصيات الاعتبارية والأكاديمية والشعراء واستجوابهم غير القانوني على خلفية مطالبة المتظاهرين بإطلاق الحريات الإعلامية والعدالة في قضية الناشط نزار بنات.
وقالت اللجنة في بيانها إنها تنظر بخطورة بالغة لتغول الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية على الحريات الإعلامية والقانون، حيث أقدمت على اعتقال عدد من النشطاء والكتاب والشعراء والأكاديميين الذين خرجوا للتظاهر وسط رام الله للمطالبة بالإفراج عن النشطاء والمعتقلين السياسيين، والعدالة للناشط نزار بنات ومحاسبة المتورطين في قضية اغتياله.
وطالبت اللجنة بوقف ملاحقة الكتاب والصحفيين والزج بهم في السجون، مؤكدة أن هذه الاعتقالات السياسية تخالف كافة المواثيق والقوانين والأعراف الدولية والأخلاق الوطنية.
وبينت اللجنة أن تصاعد حملة الاعتقالات بحق الكتاب وقادة الرأي في الضفة الغربية على خلفيات سياسية يؤكد على تراجع حالة الحريات الصحفية وانحدارها لمستوى مقلق.
من جانبه، رأى الباحث الفلسطيني خالد عودة الله والذي أوقفته الأجهزة الأمنية في إحدى المظاهرات، أن الاستهداف طال الجميع من الخلفيات المختلفة، لكن ما يطلق عليهم النخبة المثقفة هم الأكثر ظهورا على الإعلام وجذبا للانتباه.
واعتبر عودة الله أن الاستهداف لهذه الفئة له علاقة بهدف السلطة في تأديب المثقف، معتبرا أنه منذ قدومها، سعت إلى رفع شعار الحرية والتغيير والحداثة، واحتفت بكثير من المثقفين ممن تعتقل بعضهم الآن، لتوصل رسالة أنه لا يوجد خطوط حمراء في تغولها ضد المجتمع الفلسطيني، ولا أحد محصن ضد التغول، وأن على الجميع أن يدخل بيت الطاعة خاصة المثقفين الفلسطينيين.
والمثقف من وجهة نظر الباحث عودة الله، هو ليس مؤهلا أو مستوى بقدر ما هو دور ووظيفة، وكل إنسان يقوم بفعل تثويري ونضالي عنوانه الحرية والحريات يمارس دور المثقف بغض النظر عن المسميات التقنية.
ويتقاطع تعريف عودة الله للمثقف مع تعريف المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، الذي قال في كتابه "المثقف والسلطة" إنه الإنسان الذي يمارس النقد للدولة والمجتمع الذي يعيش فيه بهدف توجيهه نحو الأفضل كما أنه من يتملك أفكارا يعبر عنها لغيره، وعليه أن يتحلى بقيم عالية كالحرية والعدالة وعدم قبول الحلول الوسط باعتباره مشاركا في الحياة العامة، كما عليه تمثيل العامة في معارضة جميع أشكال السلطات التعسفية التي تقيد أو تحد من حرية.
أما عن دور النخبة المثقفة في قيادة الحراكات، أكد عودة الله في لقاء مع "صحيفة الحدث" أنه كان لهم دور واضح ضمن تشكيلة النخب السياسية إلى جانب الشعبية وعامة الناس، وذلك يعود لكونها أصبحت محرجة بسبب الشعارات التي ترفعها للوقوف بقوة وبشكل صلب أمام تغول السلطة، مشيرا إلى أن فكرة الثقافة مرتبطة بفكرة الحرية.
في الخامس عشر من حزيران من العام الجاري، أطل رئيس الحكومة الفلسطينية محمد اشتية ضمن مراسم تخريج فوج من الكلية العسكرية ليعلن عن وفائه وحكومته لديمقراطية المجتمع الفلسطيني ولحرية التعبير، وليكون هذا المجتمع للجميع، وليس حكرا على أحد، مؤكدا على أن الأجهزة الأمنية هم حماة الحرية والفكر الحر.
لكن هذا لم يترجم على أرض الواقع، فبعدها بأيام قليلة، عادت الأجهزة الأمنية لتمارس قمعها، واعتقالاتها بحق المتظاهرين، وفي هذا الشأن أوضح الباحث الفلسطيني عودةالله، أن السلطة تريد أن تعرّف من جديد معنى الحرية وحدودها وأن تضع لها سقفا "إما أن تكون بوقا لها أو لا مكان لك في المجتمع الفلسطيني، وسوف تتم محاربتك".
وأردف عودة الله: "المثقفون هم أكثر حساسية لهذا الموضوع لأنهم عالة على السلطة، كون وسيلة إنتاجهم الثقافية تجعلهم أكثر ارتباطا بمؤسسات السلطة الثقافية، أو المؤسسات الداعمة، وبالتالي هي تريد تأديب المجتمع بكل أطيافه وإدخال المتمردين إلى بيت الطاعة بالقوة".
ومن وجهة نظر عودة الله؛ "السلطة اعتمدت بشكل مكثف على المشروع الثقافي الذي تحمله كأحد أدوات الهيمنة على المجتمع، وإكسابها شرعية، وإظهارها كصورة نقيضة لمن تصفهم بالظلاميين واصفا إياها بالأشد ظلامية، إذ لم تبرح مربع السلطة الأبوية القمعية منذ نشأتها، وإنما استخدمت بعض الرموز الثقافية كمكياج لهذه السلطة"، معبرا عن أسفه لانسياق كثير من المثقفين مع أيديولوجية السلطة، "حيث نرى من يلتزم الصمت أو الدعم الموارب لها عبر استخدام مقولات فضفاضة في توصيف الحالة التي يمر بها المجتمع الفلسطيني".
أما عن السلطة فهي تلخص أسباب الاعتقال للمشاركين بالمظاهرات بأنها غير مرخصة، بحسب ما أوضح عضو التجمع الديمقراطي عمر عساف الذي اعتقل لدى الأجهزة الأمنية لأكثر من مرة، إلى جانب تهم أخرى تشارك فيها معظم الموقوفون، إذ ترى السلطة أن اعتقالهم جاء على خلفية المشاركة في تجمع غير مرخص، وهو ما نفاه عساف، بالإضافة إلى تهم أخرى كقدح وذم "المقامات العليا" والتهجم على السلطة والأجهزة الأمنية، أما التهمة الثالثة التي اعتبرها عساف الأكثر غرابة فكانت "إثارة النعرات".
وفترة الاعتقالات تواصلت الحدث مع "محامون من أجل العدالة" لمعرفة أحوال المعتقلين السياسيين، ليؤكدوا رفض الأجهزة الأمنية التعاون بأي شكل من الأشكال مع المحامين في حينها أو تزويدهم بالتفاصيل حول المعتقلين على خلفية سياسية.
وقالت "محامون من أجل العدالة" إنها تنظر إلى هذه الاعتقالات على أنها استمرار لسلسلة الاعتقالات السياسية والقمع والاعتقال التعسفي دون وجه حق خاصة وأنه تم إشعار الجهات الرسمية بالتجمع، والقانون لا يلزم أي شخص يرغب بالاعتصام والتظاهر أكثر من إشعار الجهات الرسمية دون حاجة لوجود موافقة طالما أن التجمع سلمي.
ظروف الاحتجاز في زنازين السلطة
وفي هذا الجانب قال عمر عساف لصحيفة الحدث عقب الإفراج عنه إن المعاملة تفاوتت بين شخص وآخر، إذ شاهد عساف رجالا كبارا في السن ومناضلين تعرضوا للضرب والإهانة والاتهام، مضيفا أن من يمارسون التنسيق الأمني يتهمون مناضلين بالعمالة.
وأضاف: "رجل آخر يبلغ من العمر 65 عاما يعتقل وخلال الاعتقال توضع ركبة الشرطي على رقبته، وكاد أن يختنق، سيما وأنه يعاني من مرض القلب، دون رحمة"، مشبها هذه الحادثة، بما حصل مع المواطن الأمريكي جورج فلويد بالولايات المتحدة الأمريكية، والذي حكم على قاتله بالسجن 22 عاما ونصف.
أما عن ظروف الاعتقال فاعتبر عساف أنها معيبة، وينبغي أن تتحمل مسؤوليتها منظمات حقوق الإنسان ووزارة الداخلية.
وفي التفاصيل: قال عمر عساف: "كان ينام ثلاثة أشخاص في مسافة مخصصة كممر للوصول إلى الحمام، ويكون وجه كل منهما مقابلا للآخر، دون الأخذ بعين الاعتبار مسألة تفشي وباء كورونا، سيما وأن معظمهم كبار بالسن ولديهم أمراض مختلفة.
وأضاف: الحيز الإنساني غير موجود، فالغرفة المخصصة لعشرة أشخاص مكث فيها 18 شخصا، إلى جانب عدم وجود أكل جيد، مشيرا إلى أنهم كانوا مضربين عن الطعام، لكنهم رأوا الطعام المقدم للسجناء الآخرين.
بدورها عبرت مؤسسة الحق، عن إدانتها لمنع إقامة التجمع السلمي في وسط مدينة رام الله المكفول في القانون الأساسي الفلسطيني واتفاقيات حقوق الإنسان التي انضمت لها دولة فلسطين، والتي تتطلب توفير الحماية لممارسة الحق في التجمع السلمي وحرية الرأي والتعبير بشكلها الفردي والجماعي.
وطالبت الحكومة، بالوقوف عند مسؤوليتها الوطنية والقانونية بشأن استمرار نهج الاعتداء على الحقوق والحريات المكفولة بموجب القانون، وفتح تحقيق جزائي بأية ادعاءات بالتعرض لسوء المعاملة أو الاعتداء بالضرب أو التعذيب، ومساءلة من يثبت تورطهم بتلك الانتهاكات.
في سياق منفصل، وصف الباحث الفلسطيني خالد عودة الله تجربة احتجازه، بأنها لا تذكر ضمن نضالات شعبنا، سواء في سجون السلطة القمعية أو في سجون الاحتلال، منوها إلى أن التجربة في سجون السلطة لها بعد نفسي مهم في الكشف عن الآلية التي تتم فيها صناعة رجل الأمن الفلسطيني على المستوى النفسي والسيكولوجي.
واعتبر عودة الله أنه نشأ اليوم جيل كامل من موظفي السلطة سواء بالأجهزة الأمنية أو غيرها، الذي يعتبر معنى الوطن هو السلطة، ما يمكنهم من الذهاب بعيدا في القمع للحفاظ عليها، لأنها اذا انتهت، ستنتهي مبررات وجودهم، وأيضا معيشتهم في هذه البلد.
وفي تفسيره لسلوك السلطة والأجهزة الأمنية مؤخرا، قال الناشط عمر عساف: "السلطة تتخبط بالمعنى الحرفي للكلمة، وهذا الوضع يعكس حالة من الارتباك، فالسلطة حائرة بين أن تكون وفية وملتزمة بما ينص عليه الدستور ما يعلنه رئيس الوزراء محمد اشتية بأن سقف الحريات هو السماء، وبين من يريد أن يحكم قبضته على كل شيء كنظام شمولي بحيث تكون البلد كأنها مزرعة فقط مقبول أن يحصل ما يناسب السلطة، هذا هو الصراع الذي تمر به السلطة وهذه الخلفية للسلوك.
ومن الجدير ذكره أن الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والإقليمية أولت اهتماما بالحق في التجمع السلمي ، فالبند (1) من المادة (20) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أكد على أنه "لكل شخص حرية الاشتراك في الاجتماعات والجمعيات السلمية". أما المادة (21) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، نصت على أن "يكون الحق في التجمع السلمي معترفاً به، ولا يجوز أن يوضع أي من القيود على ممارسة هذا الحق، إلا تلك التي تفرض طبقاً للقانون، وتشكل تدابير ضرورية في مجتمع ديمقراطي، لصيانة الأمن القومي أو السلامة العامة، أو النظام العام أو حماية الصحة العامة، أو الآداب العامة أو حماية حقوق الآخرين وحرياتهم". كما تناولت الفقرة (1) من المادة (11) من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان الحق في التجمع السلمي حيث نصت على: "لكل إنسان الحق في حرية الاجتماعات السلمية، وحرية تكوين الجمعيات مع آخرين، بما في ذلك حق الاشتراك في الاتحادات التجارية لحماية مصالحه".
وفلسطينيا، فقد نص القانون الأساسي على حرية التجمع السلمي، حيث أكدت الفقرة (5) من المادة (26) على أن يتم "عقد الاجتماعات الخاصة دون حضور أفراد الشرطة، وعقد الاجتماعات العامة والمواكب والتجمعات في حدود القانون". كما جاء قانون الاجتماعات العامة رقم (12) لسنة 1998 ليؤكد على الحق في التجمع السلمي.