الحدث الثقافي
إذا كان أدب "الدياسبورا"، هو (مزامير المنفى) لداود أوروبا الغربية والشرقية..، وإذا كان "هاملت التائه" قد فتح حقيبته أخيراً... بعد تسلل في أعقاب الحرب العالمية الثانية إلى شواطئ فلسطين، وبدأ يعلق ثيابه في دولاب، وقدم له أحد وكلاء (الوكالة اليهودية) – التي تحولت في 15 أيار/مايو سنة 1948 إلى حكومة- بطاقة شخصية تؤكد أنه من مواليد وطن لم يره هو فلسطين..وإذا كان قد أصبح لأول مرة ذلك المزارع او المحرب ثم ذلك الذي يحمل جواز سفر وينضوي تحت لواء علم، فكل هذا يمكن أن يحدث- سياسياً (ولقد حدث بالفعل، وأصبح "واقعاً قانونياً" حينما صدر قرار التقسيم الدولي في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 وأعطى لقب (مواطن إسرائيل) لمئات الألوف الذين يتكلمون (اليديش9 ولا يعرفون حرفاً واحداً من العبرية، انحدروا من ضفاف (الفستولا والفولجا والراين والدنيبر) لكي يأتي من يقول لهم (باليدش)...هذا هو نهر الأردن، نهركم الذي لم يخذلكم ماؤه ولا طميه، أفرغوا شرايينكم تلك الوحول، واملأوها بمياه نهر الأردن هذا هو دمكم...لبنكم وعسلكم..).
وإذا كان كل هذا يمكن أن يصنع، ويمكن أن يحدث، ولقد حدث بالفعل- بشكل لم يعرفه التاريخ من قبل- قانوناً وسياسة، فمن الصعب أن يستمر في الحدوث- فكرياً وفنياً وأدبياً وهنا يكمن جوهر قضايا الأدب والفن بالنسبة إلى كل فروع الأدب والفن، وهذا هو سؤال التحدي الذي تطرحه الحياة والذي على (الأدب الإسرائيلي) أن يجيب عنه..
ولقد كان جواب الأدب الإسرائيلي عن سؤال التحدي بادئ ذي بدء، هو تلك الريشة الذهبية التي ألقاها "ليون أوريس" في رواية "الخروج"... ثم سرعان ما تلقفتها أيدي النقاد، وما أسرع ما غرست تلك الريشة في قبعة حركة القصة العالمية الغربية واعتبرت على الفور الوثيقة التاريخية لتهريب "أنبياء" حجر الغاز وسراديب الغيتو إلى "أرض الله"..
ولكن تلك "الريشة الذهبية"، ما أسرع أن صدئت في القبعات، وسقط طلاؤها وانطمس وجه "ليون أوريس" من فرط التداول المذهل – كوجه قطعة النقد المعدنية..فالرواية في خطوطها الرئيسية والتفصيلية لم تكن فقط (ذلك الكتاب الفظ المبتذل) كما صرح قطب صهيوني هو (جون كمشة) للجويش أوبزرفر (العدد 17، المجلد 10-27/4/62) (غسان كنفاني- في الأدب الصهيوني- دراسات فلسطينية 22-ص91)، بل كانت "الأكسودس" بمثابة عملية طرح لكل الحقائق التاريخية ثم في الوقت نفسه عملية (ضرب للأكاذيب) بعضها ببعض.. ثم (عملية جمع) لها في شكل روائي...وهذه الرواية لن نتعرض لها من هذه الزاويبة بأكثر من هذا، فلقد تداولتها دوائر المثقفين العرب في نصها الإنجليزي، كما تناولها بالتفصيل القاص غسان كنفاني وفوق كل هذا فالأكسودس رغم الدور التاريخي الذي لعبته بالنسبة إلى الحركة الصهيونية في أوروبا وفي الولايات المتحدة الأمريكية بشكل خاص، كطبعة جديدة (منقحة) ومضافا إليها (سفر بناء إسرائيل المعاصرة)...وذلك لسببين رئيسيين:_
أولاً: إن حجر الغاز، وكابوس الصليب المعقوف، والإشارات الضوئية التي كان يتبادلها (أرى) مع عملائه في موانئ (قبرص
) السرية..وصفات تهريب اليهود إلى شواطئ فلسطين في بواخر يونانية ثم بنباء إسرائيل (من الخارج) أي بواسطة اليهود القادمين من أوروبا، لم يعد ديكور الرواية الإسرائيلية المعاصرة وذلك لما يلي:_
لقد انكشفت مجموعة من الحقائق -ولو بصورة نسبية- أمام المواطنين البسطاء في مختلف بلدان العالم وأصبحوا يدركون أن فلسطين عام 1948، لم تكن الجزيرة الخالية من السكان، أو الجزيرة التي تسكنها قبيلة همجية، وأن (أرى) لم يكن روبنسون كروزو الذي حصل لجزيرته (بذور القمح والرصاص معاً).. كما أن دخول عنصر المقاومة المسلحة، والعدوانات الإسرائيلية المختواصلة وعلى رأسها عدوان الخامس من حزيران/يونيو 1967 قد جعلت الأكسدوس من الناحية السياسية على الأقل موضوع الشك والتساؤل.
إن أرى لم يعد حلم الرواية الإسرائيلية في هذه المرحلة من حياة (إسرائيل) ولم تعد معجزته هي القضية، فإسرائيل قد أقيمت بقوة السونكي ومشط الرصاص وبقوة الكلمة والحلم...بناها أولئك الذين جاءوا يحملون رماد آبائهم وأمهاتهم في معسكرا أوشفتز وبوخنوالد وفي زجاجات، أدوارهم كفيالق أمامية مقاتلة- ثم تحولوا في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات إلى احتياطي تاركين لأبنائهم أماكنهم في خطوط القتال الأمامية.
ثانياً: هكذا إذن، يخلي (أرى الأكسودس) مكانه (للبطل الإسرائيلي المعاصر (البطل الذي ولد في (إسرائيل الدولة) أو الذي كانت إسرائيل بالنسبة إليه (دار الحضانة) يخلي مكانه (لدانيل) (ولدان للموت) ليائيل دايان، أو (لرافئيل أورلان) (الحدود) لموشي شامير (ولجويل يهودا أميهاي) ليس الآن وليس من هنا) أو غيرهم من الأبطال الإسرائيليين المعاصرين الذين ولدوا في أعقاب نهاية المرحلة الأولى من إعلان إسرائيل وقيامها.
إن مشكلة (البطل الإسرائيلي المعاصر)- (البطل) من مواليد 1948- بالنسبة إلى الرواية الإسرائيلية الجديدة هو رأس السونكي، فامتيازه على آبائه ليس بشهادة الميلاده، في تل أبيب أو بئر السبع أو ناتانيا، أو أية مستعمرة من مستعمرات الكيبوتز، وليس امتيازه أيضا على أولئك الآباء هو أنه قد رضع مباشرة من ثدي الأرض، بل لأنه ابن الجيل الإسرائيلي الثالث الذي تقع على كتفيه مسؤولية الحفاظ على (إسرائيل الدولة)، التي حلم بها الرواد الأوائل من أبناء الجيل الأول من سكان فلسطين، وجاء الجيل الثاني عبر البحار ليستبدل الحلم بإصبع الديناميت ثم ليجعل الحلم بعد ذلك يسير على قدميه في شكل جواز السفر وقطع الأرض والبيت، ثم في شكل الحدود القائمة بين (إسرائيل الدولة) وبين كل من الأردن وسوريا ولبنان والجمهورية العربية المتحدة.
هذا هو الجيل الثالث الذي تتجه إليه القصة والرواية الإسرائيلية المعاصرة الآن، وهي وإن كانت تضع في خلفيته الأيديولوجية دائما حجرة الغاز والمذابح الفردية والجماعية والصلبان المعقوفة، وهي وإن كانت للمرة الثانية تحقنه بالمصل الواقي ضد وباء الهسكلاه في شكلها القديم لها والذي قدمه أول ما قدمه (موسى مندلسون) الفيلسوف الطليعي لحركة الهسكلاه أو (حركة التنوير اليهودية) الذي وقف ضد القوقعة الدينية لليهود وضد جدران الزنازين الغليظة التي أقاموها بينهم وبين المجتمعات التي يعيشون فيها، وانعزالهم ا لرهيب داخل أسوار الغيتو اليهودي. وموسة مندلسون لم تكن انطلاقته التنويرية تستهدف فقط، اقتلاع تلك الأسوار من جذورها وجعل اليهود يفتحون نوافذهم على ثقافات وآداب وفنون المجتمعات وهم جزء منها- بل تجاوزتها إلى أن يلقى ذلك (المعدن اليهودي) في البوتقة، وأن يذوب وأن يصبح جزءاً من المعدن العام للمجتمع الذي يعيش فيه...
(وقد تجلت أولى مظاهر الاتجاه في القرار الذي أعلنته الجمعية الفرنسية (27 أيلول/سبتمبر 1791) في أعقاب الثورة الفرنسية عن مساواة الحقوق بين اليهود والفرنسيين واجتمع رؤساء الطوائف اليهودية في فرنسا وإنهم ليسوا إلا (فرنسيين) من أبناء دين موسى. وقام أحد رؤساء الطائفة اليهودية في فرنسا بإرسال رسالة إلى اليهود قال فيها: إن فرنسا هي فلسطيننا، جبالها -صهيوننا، وأنهارها أردننا) (رشاد عبد الله الشامي- حييم نحمان بياليك حياته- اتجاهاته الأدبية ص 44).
هو ذا وجه (البطل اليهودي) (اليهودي المتجمد) الذي يرفض (الذوبان) ويقف سياسيا وفنياً في مواجهة (موسى مندلسون) وهسكلاه (القرن الثامن عشر)، كما يرفض هسكلاه النصف الثاني من القرن العشرين، فالذوبان الجديد أو المعاصر بالنسبة إلى الرواية الإسرائيلية المعاصرة يعني حقيقتين لا ثالث لهما هما:-
أولاً: في كتاب (مقدمة إلى إسرائيل) كتب ناحوم غولدمان يقول: لقد كان الغرض من الدولة اليهودية الحفاظ على الشعب اليهودي الذي كان يهدده (رفع القيود والاندماج) وفي هذا الاتجاه (فاليهودي المندمج) مرفوض، ومرفوض أيضاً اليهودي الذي يطالب برفع القيود التي تحول بين اليهود وبين الاندماج في المجتمعات الأوروبية التي يعيشون فيها..ولا يوجد أكثر دلالة على احتقار البطل الروائي الإسرائيلي المعاصر لليهود الذين يتجهون إلى إسرائيل (بدفاتر شيكاتهم) ويحتفظون في جيبهم الداخلي بجواز السفر الأمريكي، من احتقار (رفائيل أورلان) بطل رواية (الحدود) لموشي شامير لعمله المليونير الأمريكي حيث يقول:
"هذه الصهيوينة... إن لها رائحة المطار".
فقبل قيام إسرائيل كانت تلك الرائحة لا تزكم الأنوف أبداً .. فالحقيبة واليهودي توأمان والانتقال من مطار إلى مطار هو جزء من حياة اليهودي..أما الآن فلم يعد أمام اليهودي غير مطار واحد يمكن أن يتطهر فيه من الروائح النتنة لمطارات العالم، هو مطار اللد... ومن مطار اللد يمكن لليهودي الديسابوري، أن يعمد بمياه نهر الأردن كما يفعل يوحنا المعمدان.
إن شعار "(حتى الرصاصة الأخيرة) ضد الهسكلاه القديمة والجديدة" ليس شعاراً عارضاً فوق جلد القشرة الأرضية للرواية الإسرائيلية المعاصرة مرتبطاً بهذا الموقف أو ذاك لأبطال الروائيين الإسرائيليين، ولكنه أحد المدارات الرئيسية. ففي رواية "الأكروفايل" للروائي الإسرائيلي "يورام كانيوك" يتجسد رد الفعل المباشر للإسرائيلي حينما تدوس قدماه مرة أرض مطار نيويورك فتنطلق صرخته: "لقد ابتلعتني.." ومن هنا، أصبح من مسؤولية الروائيين الإسرائيليين أن يضعوا الحرية بين شدقي هذه المدينة أو تلك لوقف عمليات الابتلاع ثم الهضم في معدات المجتمعات الأخرى..وسنعرض في فصول مقبلة (للأوكروفايل) وبالتفصيل.
فإذا كان شعار (حتى الرصاصة الأخيرة) ضد مفاهيم الاندماج والذوبان على النطاق الخاري وهو واقع الرواية الإسرائيلية المعاصرة -أيديولوجياً- إلا أنه في مجال التطبيق العملي بالنسبة إلى واقع إسرائيل، بتزايد مستمر، اتجاه حاج ضد الذوبان في (بانيو يملأه حامض الكبريتيك) ومن هنا، أخذ المفهوم العام للذوبان والاندماج الفكري والحضاري فيما يتعلق باليهود خارج حدود إسرائيل والمجتمعات التي يعيشون فيها، أخذ مفهوماً عضوياً ومغايراً للمفهوم القديم، فالإسرائيلي الجديد- من أبناء الجيل الثالث- جيل (من 15 أيار/مايو 1948) لم يعد يواجه شرور اليهود المطالبين بالاندماج، ووقف التورم العضوي لإسرائيل من الناحية البشرية، بل أصبح يواجه كارثة الذوبان (في ذلك البانيو، الذي يملأه العرب بذلك الحامض...!) بل إن الاتجاه الجديد للأدب الإسرائيلي يكاد ينفخ في البوق صائحا في وجوه اليهود من دعاة الذوبان والاندماج:- (إنكم تساهمون في صب ذلك الحامض مع العرب في بانيو واحد).
والحقيقة العريانة الوجه- بلا مكياج فني أو سياسي- أن الأدب الإسرائيلي المعاصر- الرسمي أو شبه الرسمي- قصة ورواية وشعراً، هو الذي يتحول إلى حامض الكبريتيك- وهو الذي يحول (إسرائيل) إلى بانيو يطفح منه الحامض حتى الحافة، وهو الذي يجعلُ من قصيدة (حييم نحماق بياليق) الشاعر اليهودي القومي التي كتبها عام 1897 بعنوان "عن بيتكم الخرب" قصيدة معاصرة.
" في أطلال قلبكم دنست" "المزوزا*"
لذلك تقفز الشياطين هناك وتعوي
أترون من يكمن خلف الباب بالمكنسة..؟
إنه خادم المحراب الخرب.
وعلى أحشاء هيكل قلبكم الخرب يولول ويتثاءب القط المذعور.."
*المزوزا: ملف صغير من الرق يحتوي على الصفحات المقدسة من التوراة ويوضع على واجهة الباب، وكان يعتقد أنه يحفظ كنوع من التعاويذ ضد العفاريت والأرواح الشريرة.