الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

شهر إدوارد سعيد.. تودوروف وسعيد في كتاب "بصمة الإنسان"

2021-09-07 08:13:25 AM
شهر إدوارد سعيد.. تودوروف وسعيد في كتاب
أرشيفية

الحدث الثقافي- عبد الله أبو حسان

يستعرض الفيلسوف الفرنسي، بلغاري الأصل، تزفيتان تودوروف (1939- 2017) في كتابه "بصمة الإنسان"، رأيه في عدد من الشخصيات الفكرية، التي لا تجمعه بها كما يقول "أي شيء سوى الاعتراف بالجميل الذي أشعر به تجاههم، بطريقة لرسم صورتي الذاتية، على غرار البورتريه الصيني... ليس بمعنى البلد، وإنما كطريقة للكشف عن مظهر الشخصية ورأيي فيها".

الكتاب الصادر في عام 2020 بترجمة نجلاء أبو النضر، عن سلسلة "آفاق عالمية"/ الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة، هو عبارة عن مجموعة من المقالات التي كتبها تودوروف في الأعوام من 1983 حتى 2008، ويراها حصيلة للتأمُّل العميق، والفحص المتأني على مدار خمسة وعشرين عاما، من أجل فك شيفرة الإنسان.

وبينما يوحي الكتاب في معناه الظاهري بأنه عبارة عن صور قلمية، إلا أن معناه الباطني يضع على المحك مفهوم المثقف العضوي أو النخبة بالمفهوم الأوسع. موضحاً اشتغال المثقف العضوي على مشكلات مجتمعه وبيان تأثيره ودوره، واشتباكه مع قضايا عصره متجاوزاً إطار تخصصه.

ويقدم تودوروف صورا قلمية لخمس شخصيات كان لها بالغ التأثير في حياته الشخصية أو المهنية وهي: المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، وعالم اللغة والمؤرخ الروسي رومان جاكبسون، والفيلسوف اللغوي والمنظر الأدبي ميخائيل باختين، والفرنسيان ريمون آرون الفيلسوف وعالم الاجتماع، وجيرمين تييون عالمة الإنثروبولوجيا.

إدوارد سعيد وتودوروف

يروي تودوروف أن علاقة صداقة قوية جمعته بإدوارد سعيد (1935 - 2003) استمرت حوالي ثلاثين عاما، منذ أن التقاه في جامعة كولومبيا في نيويورك أثناء إلقاء محاضرة له، وكان سعيد وقتذاك أستاذا يُدرس الأدب المقارن.

يقول تودوروف في القسم الأول من الكتاب: "من الصعب عليَّ الحديث عن أعمال إدوارد سعيد باعتبارها موضوعات للدراسة ضمن موضوعات أخرى، فقد كانت تجمعني به صداقة قوية استمرت حوالى ثلاثين عاماً. لقد قابلته عام 1974 في جامعة كولومبيا في نيويورك حيث كنت ألقي فيها محاضرة كل ثلاث سنوات وذلك في قسم الأدب المقارن الذي كان سعيد يقوم بالتدريس فيه، لكننا لم نصبح أصدقاء إلا في عام 1977. كانت تجمعنا سمات مشتركة ساعدت في التقريب بيننا. ولد سعيد عام 1935 أي أنه كان يكبرني بأربع سنوات، وهو فارق ليس له أثر كبير قياساً بأعمارنا. كان قد نشر كتابه الأول عام 1966 كدراسة عن كونراد مأخوذة من رسالته في عام 1966 كذلك كان كتابي الأول مأخوذاً عن رسالتي وقد ظهر عام 1967".

ويضيف: "كان سعيد مهتماً بالمجادلات النظرية كما كنا نسميها حينئذ، وشارك فيها بكتابه الثاني الذي كان عنوانه "البدايات" الصادر عام 1974 وقد التزم فيه ببعض آراء النقاد والفلاسفة الفرنسيين، كما كنتُ أنا أيضاً مهتماً بتجديد الدراسات الأدبية، لذلك كانت هناك لغة مشتركة بيننا. كانت هناك سمة مشتركة أخرى أكثر أهمية بكثير، تتعلق بتاريخ حياتنا، لقد كنا نحن الاثنين مهاجرين، هو أقام في الولايات المتحدة وأنا في فرنسا. وكلانا من دول تقع على هامش الغرب، هو أتى من فلسطين ومصر وأنا من بلغاريا. دول يفرّق بينها الكثير من الملامح، لكننا نجد فيها الإحساس ذاته بالتقارب والنقص تجاه أوروبا الغربية أو أميركا الشمالية، إحساس قد يولِّد خليطاً من الحسد والغيظ. كما تشترك بلادنا في أنها كانت خاضعة في الماضي للإمبراطورية العثمانية. لم يطبّق الأتراك الانصهار الإجباري على الدول التي كانت تابعة لهم، لكن هناك بعض أساليب الحياة نجدها مشتركة بين كل دول الإمبراطورية فقد اكتشفنا باستغراب تشابه تقاليدنا المطبخية، الخيار بالزبادي، الباذنجان، كُرات اللحم. كما أنني اكتشفت بعد ذلك بوقت كبير عندما قرأتُ سيرته الذاتية أن هناك نقطة التقاء أخرى؛ الوصاية العثمانية. ففي عام 1912 تم إعلان حرب البلقان الأولى ضد الأتراك وكانت بلغاريا قد تحررت منذ 35 عاماً من الوصاية العثمانية. كان على والد سعيد المقيم في فلسطين والتي كانت لا تزال تحت الاحتلال التركي! أن يقاتل مع الأتراك ضد البلغار وهو ما رفضه ودفعه إلى مغادرة البلاد لينتهي به المطاف في أميركا، وهي البلد التي حصل على جنسيتها، مما كان له أكبر الأثر بعد أربعين عاماً في تشكيل مسار ابنه. إذن الإمبراطورية العثمانية ومعارضتها شكَّلتا جزءاً من التراث المشترك لكل منا".

ويضيف تودوروف عن علاقته بسعيد: "كنتُ أشعر بقربي من أفكاره حول تنوع الثقافات وتأثيرات المنفى، كما كنتُ معجباً به كمواطِن شجاع". ويضيف: "يعد إدوارد سعيد (1935- 2003) واحداً من أشهر المثقفين في العالم وأكثرهم تأثيراً، في الفترة من نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين، وترجع شهرته إلى أعماله التي تناول فيها الهويات الثقافية ولقاء الثقافات والقوميات والنزعات الاستعمارية. كما كان أيضاً من أكثر الأصوات التي تدعم القضية الفلسطينية، فضلاً عن أنه كان حريصاً عند دفاعه عن الفلسطينيين أن يأخذ في الاعتبار عذابات اليهود منذ الاضطهاد وحتى الإبادة الجماعية! الأمر الذي أكسب دفاعه قيمة وقوة. وفي الوقت نفسه كان لدى سعيد ولعٌ شديد بالموسيقى والعزف حتى إنه كان يعرب عن انتمائه في آن واحد إلى كلٍ من الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو وعازف البيانو الكندي غلين غولد. كان يعمل على نحو متواصل من دون كلل. كما كان لديه فضول للمعرفة ونهم لا يشبع تجاهها. تبدو حياته وكأنه لم يعرف فيها وقتاً للراحة".

سعيد والمنفى

يحاول تودوروف في القسم المخصص لسعيد أن ينفذ إلى شخصية إدوارد سعيد كمهاجر، فيذكر أن شخصية المهاجر تتميز بالتعددية أكثر من سكان البلاد الأصليين، والسبب عنده؛ لأنهم يعايشون الانقطاع بين ما قبل وما بعد. وشخصية سعيد كانت بصفة خاصة أكثر تعقيداً. كان قد حمَل تلك الآثار حتى في اسمه فنصفه إنجليزي (إدوارد) ونصفه عربي (سعيد) وكان منحدراً من بلد لم يعد موجوداً! مهاجراً إلى مصر، تعلَّم في مدارس للغة الإنجليزية مخصّصة للصفوة في البلد ولكن بعقلية فيها احتقار ورفض لثقافة البلد الأصلية، ثم مهاجراً مرة أخرى إلى الولايات المتحدة التي كان يحمل جواز سفرها والتي كانت جامعاتها تمثل له مثلاً أعلى في العلم والمعرفة، لكن سياساتها كانت تثير حنقه وسخطه. لم يكن سعيد يدري ما هي بالضبط لغته الأم، هل هي العربية أم الإنجليزية؟ هل هي لغة المحتلّين أم الذين أُحتلّوا؟ لقد أدرك سريعاً أن العودة أو إعادة التوطين الكامل مستحيلة. وهذه التجربة ليست حكراً على بعض الأفراد. فهي تجسّد إحدى الخواص التي تميّز العالم العصري: السرعة في الاتصال بين الثقافات، التغيّرات التي طرأت على بعض هذه الثقافات والتعددية الداخلية لكل هوية على حدة".

ويشرح تودوروف بأن تأثير المنفى كان واضحا على سعيد، وقد تجلّى هذا في اهتمامه من خلال نصوصه الأخيرة بالحدود، إذ يعتبر سعيد المنفى "من أكثر الأقدار تعاسة"، ومن ثم فلم يعد يهتم بمفهوم البيت بل يراها فكرة فيها مبالغة في التقدير، وبالمثل لم تعد فكرة الوطن تشغله، فالترحال -حسب قوله لصديقه دانيال بارنبوام- "هو ما أفضله"، حتى أنه يتساءل "كيف نستطيع حقيقة أن نحب شيئا بهذا التجريد والغموض مثل الوطن؟"

الإنسانية عند سعيد

يقول تودوروف في سياق آخر: "إذا أردنا البحث عن الأيديولوجية الأقرب إلى سعيد، لن تكون الماركسية ولا النيتشوية التي كانت تحوز شعبية كبيرة في الجامعات الأميركية خلال عدد من العقود، لكنها الإنسانية، على أن تكون عالمية بحق ولا تكون مختلطة بالوسطية الأوروبية. كان سعيد يعتقد أنه من الممكن السير في هذا الاتجاه، من طريق مواجهة التراث الأوروبي بثقافات كبرى أخرى، وكان يرى بوادر دلالات عالمية بالفعل في نشر المعرفة العلمية في نطاق الاهتمام المشترك من أجل الحفاظ على كوكب الأرض من طريق التوافق على الحقوق الإنسانية للبشر".

وفي موضع آخر من هذا القسم يقول تودوروف: "لن نستغرب أن نرى أن سعيد لم يكن يريد أن يتوقف عند التحليل الشكلي فقط للنصوص الأدبية التي تفصلها عن صلتها بالتجربة الإنسانية. هنا أيضاً، يجب أن تفتح الآفاق وألا يتم خلط الإنسانية مع الفكرة التي يأخذ بها بعض النقاد الغربيين المتسرّعين. في النهاية تراجعت القضية الفلسطينية أمام عينيه وأصبح حلّها أبعد كثيراً مما كان يراه قبل أكثر من عشر سنوات، كما أن مكافحة النزعات القومية والدينية التي كان يعتبرها من أهم مهامه لم تقِل بل زادت وتفاقمت. من وجهة النظر هذه نجد أيضاً أن الأحداث التي ارتبطت باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر قد أضافت ضربات قاسية لآماله في أن يتحسّن العالم ويسود فيه السلام. إن ما كان سعيد يسعى إليه من خلال كتاباته هو هدم الكليشيهات والتعميمات التعسّفية التي يتم توجيهها إلى الإنسان الشرقي والمسلم والعربي... لقد أصبح إنساناً عالمياً".

يختم تودوروف القسم الذي خصصه لسعيد ولذي يتألف من 40 صفحة بالقول "إن سعيد واجه الموت بالسخرية منه وبزيادة في النشاط”. فقد استطاع سيعد أن يصنع قدره بنفسه، فصار إنسانا عالميّا وإن كان من نوع خاص.