الحدث – ريتا أبو غوش
بعد أن أثارت صفقة الغاز الأخيرة جدلاً واسعاً في الأوساط الرسمية والشعبية، ولدى المراقبين المحليين وعدد من السياسيين، أُلغيت اتفاقية توريد الغاز الطبيعي بين شركة توليد الطاقة الفلسطينية (PPGC) وكلّ من شركتي (نوبل) الأمريكية و(ديليك) الإسرائيلية، التي سبق أن وقعت في كانون الأول من العام الماضي، لتنتهي بذلك صفقة اقتصادية قيمتها 2.1 مليار دولار كانت أبرمت لإنشاء محطة توليد للطاقة الكهربائية في مدينة جنين.
وحول السبب الرئيسي للانسحاب من الصفقة، قال المدير التنفيذي السابق لشركة كهرباء فلسطين وليد سعد صايل، لـ"الحدث": "عند توقيع الاتفاقية في كانون الأول من العام الماضي، اشتُرط على شركتي نوبل وديليك تسوية القضية أمام سلطة مكافحة الاحتكار خلال عام بدءا من تاريخ توقيع الاتفاقية، وفي حال عدم استيفاء الشرط تلغى الصفقة تلقائيا.
وأضاف صايل، الذي سبق أن قام بتوقيع الاتفاقية مع الشركتين بحضور ممثل سلطة الطاقة الفلسطينية، أنّ مجلس إدارة الشركة تَغيّر قبيل إلغاء الصفقة ليصبح صندوق الاستثمار الفلسطيني أكبر مساهم فيها.
ويرجّح صايل أسباب الإلغاء لاشتداد ضغط الشارع الفلسطيني وحملة المقاطعة BDS، إضافة إلى تخوّف المسؤولين الفلسطينيين من الاستمرار فيها، ويرى أن إلغاء الاتفاقية لا يصب في مصلحة الفلسطيني، حيث سيبقى المشروع مجمداً وغير قائم.
وتبدو أسباب إلغاء الاتفاقية للوهلة الأولى قانونية بحتة، إلا أن مصدرا مقرّبا ومتابعا لكافة التفاصيل الخاصة بالاتفاقية، أكدّ لـ"الحدث": "أنّ القائمين على الموضوع وجدوا بأنّ اتفاقية الغاز مع المورّد الإسرائيلي تُضعف من فرص العمل مع شركة "بريتيش غاز" البريطانية التي تعمل على تطوير حقل الغاز قبالة شواطئ غزة.
وكان صندوق الاستثمار الفلسطيني باشر وبمساهمة "بريتيش غاز" البريطانية بالتنقيب عن حقل غاز غزة، وكان من المفترض أن يوفر الحقل مورداً طبيعياً يسدّ حاجة الجانب الفلسطيني لما يزيد عن 25 عاماً، إضافة إلى توفير مصدر دخل للحكومة الفلسطينية تصل قيمته لمليار دولار وفق التوقعات، قبيل تدخل الاحتلال ووقفه التنقيب من خلال سيطرته على المياه الإقليمية الفلسطينية في قطاع غزة، واشتراطه الحصول أولاً على موافقته للسماح بمدّ أنابيب الغاز وتوريده للخارج.
وأفاد المصدر الذي فضل عدم ذكر اسمه، بأنّ صندوق الاستثمار الفلسطيني ارتأى إلى حثّ الشركة البريطانية على التنقيب في حقل غزة بدلاً من الالتزام مع شركتي نوبل وديليك في صفقة تمتد لعشرين عاماً، ما استدعى القائمين على شركة كهرباء فلسطين للبحث عن مخرج قانوني من الاتفاقية دون أن تتم مطالبتهم بغرامة مادية للانسحاب، وجاء تأخر الشركتين الأميريكية والاسرائيلية بمثابة الحلّ الأنسب للتنصل من الصفقة.
وكانت الحكومة الفلسطينية منحت العام الماضي، قبيل توقيع الاتفاقية، موافقتها الأولية لشركة فلسطين لتوليد الطاقة لإنشاء محطة توليد طاقة كهربائية في الشمال، والتحضير لمحطة ثانية لتوليد الطاقة في جنوب الضفة، إضافة إلى توسيع قاعدة توليد الطاقة الكهربائية في قطاع غزة بسبب الحاجة الماسّة لتوفير مصدر للطاقة الكهربائية لانعاش الاقتصاد والمجتمع الفلسطيني من جهة، و"تصحيح" علاقة الاعتماد والتبعية بينها وبين مصادر الطاقة الإسرائيلية، التي تستنزف نحو 2.5 مليار دولار سنويّاً من مقدرات الاقتصاد الفلسطيني.
إلا أنّ الحكومة لم تصادق على اتفاق الشركة مع المورد الإسرائيلي، حيث قال نائب رئيس الوزراء، وزير الاقتصاد الوطني، رئيس اللجنة الوزارية لإعادة هيكلة قطاع الطاقة د. محمد مصطفى، في تصريح صحفي سابق "إنّه من غير الممكن أنّ تقبل الحكومة بالاتفاق". لتبدأ بعدها التساؤلات والتكهنات بشأن السبب أو الأسباب الكامنة خلف إنهاء الصفقة الاقتصادية مع المورد الإسرائيلي.
من جهة ثانية، كانت صحيفة (غلوبز) العبرية كشفت أنّ الشركة الفلسطينية ألغت الاتفاقية التي كان من المقررا أنّ تستمر لمدة 20 عاماً، بسبب التأخير الناجم عن سلطة مكافحة الاحتكار الإسرائيلية. وقضت الأخيرة بتفريق ملكية احتكار الشركتين لكل من بئري "ليفيتان" و"تمار"، إضافة إلى فشلها في منح الموافقات اللازمة لتطوير حقل "ليفيتان"، ما يعني أنّ الشركتن ستضطران لبيع أسهمها في إحدى البئرين من أجل فكّ الاحتكار. ووفق الصحيفة الاقتصادية ذاتها، عرض اقتراح على الطرفين لكي يتوصلا إلى تسوية تقضي باستمرارهما في تطوير البئرين مقابل بيعهما أسهماً في مواقع "كاريش" و"تنين".
ولم تكن هذه سابقة، حيث انهارت صفقة أردنية شبيهة العام الماضي بعد أنّ قررت سلطة مكافحة الاحتكار الإسرائيلية إبطال اتفاق يسمح لشركتي (نوبل) و(ديليك) بتطوير موقعي "ليفيتان" و"تمار" في شرق البحر المتوسط لما يشكله من "تحالف اقتصادي مهيمن"، إضافة إلى الضغط الشعبي وحركات المقاطعة لوقف المفاوضات.
وبهذا الشأن أوضح د. مصطفى أن مجلس إدارة شركة فلسطين لتوليد الطاقة مصممٌ على استخدام الغاز الطبيعي الفلسطيني لتشغيل المحطة في حال توفره، وأنهم قرروا منذ الصيف الماضي الخروج من الاتفاق السابق مع المورد الإسرائيلي، واعتماد استخدام الغاز الفلسطيني لهذا الغرض، والحكومة تدعم هذا التوجه بقوة.
وشدد على أنّ "بريتش غاز" حققت بعض التقدم في إجراءات تطوير الغاز الفلسطيني، ما سيمكنها قريبا من تقديم عروض لبيع الغاز لشركات فلسطينية لتوليد الطاقة، كما أبدت الشركة الوطنية لنقل الطاقة الأردنية رغبتها بشراء جزء من الغاز الفلسطيني.
ومن بين الأسباب الأخرى التي شكلت سببا مغريا إضافيا لمساهمي شركة كهرباء فلسطين للانسحاب من الصفقة، كشفت عنه مصادر مقربة لـ"الحدث" أن تفاوضا يدور منذ سبعة أشهر بين الشركة البريطانية والأردن لتوريد الغاز الطبيعي لها عبر خط يمر من مدينة العفولة شمال مدينة جنين تمهيداً لنقله للأردن، وهو ما وجده القائمون على الشركة فرصة ذهبية لتمويل مشروع محطة توليد الطاقة بالغاز الضروري من جهة، وتعميق العلاقات مع الشركة البريطانية لتفعيل دورها في حقل غزة من جهة أخرى.
من جهة ثانية، لعبت حملة المقاطعة دورا في الضغط على المسؤولين والمساهمين في الصفقة لإلغائها، وأوضح مفوض الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان ممدوح العكر أحد الداعين لإلغاء الاتفاقية لـ "الحدث"، أنّ مبررات الفريق المؤيد للاتفاق كضمان توفير الكهرباء ومناسبة سعر الغاز هي "مبررات تعيسة".
وأضاف أنّ الاتفاقيات الاقتصادية كهذه توفر غطاءً شرعياً لصفقات إقليمية مع الاحتلال والدول العربية كالأردن ومصر، وتعمّق من خلالها العلاقات الاقتصادية مع دولة الاحتلال، مخالفة بذلك توجه القيادة الفلسطينية لتقليل الاعتماد الاقتصادي على إسرائيل والحديث عن إمكانية وقف التنسيق الأمني أو حل السلطة الذي ارتفعت وتيرته بعد فشل مفاوضات كيري قبل عام.
ومن الممكن اعتبار الأطراف الفلسطينية خرجت من الاتفاقية واكتسبت نقاطاً لصالحها، فلم تضطر الحكومة المصادقة على الاتفاقية مع الشركتين الإسرائيلية والأمريكية، متفاديةً بذلك الدخول في الجدالات الشعبية والأهلية لحركات المقاطعة، ووجدت الشركة الفلسطينية من جهتها مخرجاً قانونياً تنسحب من خلاله من الاتفاقية، وتضمن مصالح مساهميها في حقل غزة على حد سواء.
لكن، وعلى الرغم من ذلك كلّه، تبقى صورة الاقتصاد الفلسطيني اليوم أوضح من أي وقت مضى، اقتصاد صغير مكبّل بقيود اقتصاد إسرائيلي أكبر وأقوى لا يتيح له إلا بعض الخيارات القليلة التي تتلاءم مع مساهمين مشتركين بين الطرفين أحياناً، وتجميد بعض المشاريع أحياناً أخرى.