عندما تحضر ذكرى إدوارد سعيد في هذا الشهر من كل عام، أحاولُ الهروب من عينين خضراوين زجاجيتين ومن ابتسامةٍ صفراء تلحقُ بي لرجلٍ طويل القامة مكتمل البنية أشقر الشعر، هو نموذج نمطي للأمريكي الذي نُشاهده في أفلام هوليوود. فكما تصنعُ تلك الأفلام صورة لـ "الشرق" في أعين "الغرب"، فهي بالمثل تفعلُ في الاتجاه المعاكس. في رأسي تحضرُ صورة ذلك الأمريكي المتغطرس، وفي أذني يرن صوتهُ فرحا وهو يُبلِغني أمام أصدقاء آخرين، كنا معاً في نيويورك نستعد لدخول أحد مطاعمها، بأن إدوارد سعيد قد مات. لم أفهم حينها لماذا يُنقلُ خبر موت سعيد بهذا الكم من الابتهاج من شخص يُفترض أنه يعمل بتكليف في وزارة الخارجية الأمريكية على استضافة صحفيين عرب لتحسين صورة الولايات المتحدة في أعين "الشرق" بعد هجمات 11 سبتمبر والغزو الأمريكي للعراق.
كنتُ حينها ما أزالُ في الخامسة والعشرين، حاولتُ قبلها قراءة كتابَي إدوارد سعيد الأكثر شهرة: "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية"، فاستعصت علي بسبب الجِّدةِ الفكرية التي تطرحها والتي لم أتمكن من مجاراتها لكثرة الإحالات الأدبية فيها رغم دراساتي للأدب الإنجليزي، فقررتُ أن أبقي سعيد على رف الكتبِ ماكثاً هناك دون محاولة جريئة أخرى لفهمه. بعد عودتي من الولايات المتحدة، ظل صوت الأمريكي الشامت كالطبلِ في رأسي، يضربُ سؤالاً بآخر، وأحاول أن أفهمَ ولا أفهم سر الفرحِ بالخسارة. لكن شيئا ما تغير أمام خوفي من محاولةٍ ثانية مع كتب سعيد، فعندما كنتُ أقفُ أمامها كنتُ أستذكرُ كيف أن الأمريكي اختارني أنا دون الآخرين ليبلغني بوفاةِ سعيد، أنا الفلسطينية الوحيدةُ على طاولةِ من الصحفيين العرب المصريين واللبنانيين والمغاربة واليمنيين، وكأن سعيد يخُصّني وحدي بما أنا هي الفلسطينيةُ الوحيدةُ المتاحةُ أمامه لإلحاقِ مزيدٍ من الخسارات بها، وبما هو سعيد فلسطيني مثلي يخرُج من صفي فيتعزز ضعفي.
يصبحُ شعوري بفلسطينيتي أكثر خصوصيةً، مرتبطاً بحجم الخسارات، الخسارات التي تُعانقُ الفلسطيني فتُصبح جزءا تكوينياً يُحقِّقُ هويته ويمنحُه معنى وجودهِ، فالفلسطيني خاسر دائماً، خسر أرضه، وبيته، وتلحقُ به الخساراتُ كأنها عاشقة وملهمة له. فما معنى الفلسطيني دون خسارة، وما معنى أن تكون فلسطينياً دون أن تكون خاسراً. يختلِفُ الخاسرُ عن الضحية، أو عن ضحية الضحية كما وصَّفها سعيد. الفلسطيني خاسرٌ بما هو مدركٌ أو غير مدرك لكينونته كفاعلٍ وكقادرٍ على الفعل، وليس بما يُرسمُ له ككينونةٍ سلبيةٍ واقعةٍ تحت تأثير الفعلِ، يُضحى به فيُصبح مجرد مفعول به مصلوبٍ على سردية ترى التاريخ لاهوتياً متحققاً بين مضَحٍ ومضحاً به.
الفلسطيني خاسرٌ، لأنه ما زال يعيشُ في كنف المعارك التي لم يتمكن بعدُ من الفوز بها، لكنه ما زال فلسطينياً يُحاولُ أن يخرُج منتصراً، هكذا نفهم المطاردة والاستشهاد والسجن والمخيم والمقبرة أماكن انتصارات أولى، لا لضحايا، بل لمنتصرين يفهمون معنى الخسارة.