السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

حول "تقليص مساحة الصراع"| بقلم: خليل الشقاقي

خطاب الرئيس عباس في الأمم المتحدة والقدرة الفلسطينية على التأقلم مع الوضع الراهن

2021-10-21 10:23:42 AM
حول
الرئيس الفلسطيني محمود عباس

يشير خطاب الرئيس عباس أمام الأمم المتحدة في أيلول (سبتمبر) 2021 واللغة الحريصة التي استخدمها إلى أنه يدرك حجم المأزق الذي تجد السلطة الفلسطينية نفسها فيه اليوم وقلة الخيارات التي تمتلكها. فالأوضاع الداخلية تستمر في التراجع ولا يبدو أن هناك إمكانية حقيقية في ظل الوضع الراهن لإجراء انتخابات عامة أو مصالحة أو لإحداث انطلاقة اقتصادية. كما أن العلاقة مع إسرائيل ستبقى تراوح مكانها على المدى المنظور حتى بعد انتقال رئاسة الوزراء في الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الراهن ليائير لبيد. إن من المؤكد ان قدرة الائتلاف الراهن برئاسة نفتالي بينيت، أو أي ائتلاف آخر قد يأتي بعده، على الدخول في عملية تفاوضية جاده شبه منعدمة. كما إن المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، لا يمتلك الرؤيا ولا الإرادة السياسية للقيام بدور يتجاوز ما يفعله الآن من إدارة للأزمة بشكل يمنع حصول انفجار ويضمن عدم حدوث تغيير جوهري على العلاقة الفلسطينية-الإسرائيلية. ولعل الأوضاع الإقليمية العربية وانهيار الإجماع العربي الرسمي حول المسألة الفلسطينية أوضح دليل على ضيق الأفق المتاح أمام الطرف الفلسطيني.

هل يسمح هذا السياق المتشائم للطرف الفلسطيني بالبحث عن بدائل تتجاوز السعي للحفاظ على الوضع الراهن؟ وفي حالة الاعتقاد بوجود إمكانية لذلك، ما هي هذه البدائل؟ هل يمكن لما يسمى بمفهوم "تقليص مساحة الصراع"، وهو نهج ينادي به بعض قادة الائتلاف الراهن في إسرائيل، أن يشكل إطارا لتنظيم العلاقة الفلسطينية-الاسرائيلية على المدى القصير حتى في ظل استمرار التوقف في العملية السياسية؟ تهدف هذه الورقة للبحث في السياسة الفلسطينية الراهنة، وخاصة كما عبر عنها خطاب الرئيس عباس أمام الأمم المتحدة. تخلص الورقة للاستنتاج بأنه رغم وجود البدائل فإن السلطة الفلسطينية، نظرا للقرارات التي اتخذتها خلال السنوات القليلة الماضية وتلك التي اتخذتها خلال الأشهر الستة الماضية، ليست قادرة اليوم على تبني أي منها، وأن أفضل ما يمكن توقعه خلال السنة أو السنتين القادمتين هو أن تنجح هذه السلطة في التأقلم مع الوضع الراهن، رغم كل مساوئه. لكنها تشير أيضا لخطورة الانجراف الفلسطيني والدولي وراء مفهوم "تقليص مساحة الصراع" لما لذلك من أثر مدمر بعيد المدى على مستقبل حل الدولتين.

 

سياسة الرئيس عباس المعلنة:

أكد الرئيس عباس في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة قناعته أن "سياسات المجتمع الدولي وهيئات الأمم المتحدة قد فشلت جميعها حتى الآن" في حل الصراع أو إلزام إسرائيل بالقانون الدولي. لكن، وفي تناقض واضح مع هذه الحقيقة، التي هي محل إجماع فلسطيني داخلي، عاد الرئيس ليؤكد أن السلطة الفلسطينية ستتوجه لمحكمة العدل الدولية" لاتخاذ قرار حول شرعية وجود الاحتلال على أرض دولة فلسطين، والمسؤوليات المترتبة على الأمم المتحدة ودول العالم إزاء ذلك". وفي تناقض غير مفهوم أضاف الرئيس قناعته بأنه "سوف يتوجب على الجميع التقيد بنتائج ما سيصدر عن المحكمة بهذا الصدد، فالاستعمار والأبارتهايد محظوران في القانون الدولي، وهما جرائم يجب مواجهتها ومنظومة يجب تفكيكها". إن من المؤكد أن الرئيس يدرك هذا التناقض في سياسته المعلنة. لكن هذا التناقض سيختفي إذا أدركنا أن السياسة الفعلية للسلطة ليست الاعتماد على المجتمع الدولي والأمم المتحدة لإنهاء الاحتلال وانما الاعتماد عليهما لإدارة الصراع ومنع التدهور في الوضع الراهن. إن مما لا شك فيه أن الرئيس وبقية النخبة السياسية الفلسطينية للسلطة الفلسطينية يدركون أن أفضل ما يمكن توقعه من محكمة العدل الدولية هو انتصار معنوي يضاف لما تم تحقيقه سابقاً بخصوص جدار الفصل في عام 2004. وكان ذلك القرار الاستشاري الذي أصدرته المحكمة قد أكد آنذاك أن على إسرائيل التوقف عن بناء الجدار وأن وثيقة جنيف الرابعة تسري على المناطق الفلسطينية المحتلة. لم تتوقف إسرائيل عن بناء الجدار وعن تجاهل التزاماتها الواردة في وثيقة جنيف الرابعة. اما بالنسبة للشكوى الفلسطينية المقدمة للمحكمة ذاتها في أيلول (سبتمبر) 2018 ضد الولايات المتحدة بشأن نقل سفارتها للقدس، فإن المحكمة لم تقم حتى الآن بإصدار أي بيان أو توضيح بخصوص موقفها رغم مرور ثلاث سنوات على تلك الشكوى. يمكن بالطبع للمنظمات الدولية، بما في ذلك محكمة الجنايات الدولية التي تنظر هي الأخرى في شكاوى فلسطينية متعددة، أن تساهم في تعزيز الحرب الدبلوماسية التي تقودها السلطة الفلسطينية ضد إسرائيل، لكن من الخطأ قياس النجاح في هذه الحرب بأكثر من الحفاظ على الوضع الراهن. فهو لن يجبر إسرائيل على إنهاء احتلالها ولن يجبرها على وقف الاستيطان أو حتى وقف هدم البيوت. بل لن يجبرها على العودة لطاولة المفاوضات.

قام الرئيس عباس في خطابه أيضا بالعودة لموضوع كان قد تطرق له مراراً خلال السنوات العشر الماضية وهو تخيير إسرائيل بين حل الدولتين وحل الدولة الواحدة. لم يهدد الرئيس هذه المرة بالتخلي عن حل الدولتين، على العكس أكد التزامه بذلك الحل. لكنه في الوقت ذاته تقمص دور المحلل السياسي لينقل رسالته لإسرائيل بأن الوضع الراهن الحالي هو "تكريس واقع الدولة العنصرية الواحدة" وأن "شعبنا الفلسطيني والعالم بأسره لن يقبل بذلك، وستفرض المعطيات والتطورات على الأرض الحقوق السياسية الكاملة والمتساوية للجميع على أرض فلسطين التاريخية، في دولة واحدة". يدرك الرئيس أن التحليل السياسي ليس بديلاً عن صنع القرار وأن الاستمرار في تبني حل الدولتين من الطرف الفلسطيني في ظل تأكيده هو نفسه بأنه لا مستقبل لهذا الحل إنما هو تخلي عن دوره القيادي في صنع السياسة، إذ لا يجوز للطرف الفلسطيني الاستمرار في تبني حل الدولتين إلا إذا كان يرى في حل الدولة الواحدة تهديداً جوهرياً لمصالحه الحيوية. لكن الرئيس في تحليله السياسي عرض رأياً معاكساً إذ لمح إلى أن دولة واحدة بحقوق متساوية هي مصلحة فلسطينية عليا مثلما هو حل الدولتين. من الواضح إذاً هنا أن سياسة الرئيس عباس ليست سوى الحفاظ على الوضع الراهن، أي التمسك بحل الدولتين رغم استحالة تحقيقه والتلويح بحل الدولة الواحدة في استمرار للحرب الدبلوماسية ضد السياسة الإسرائيلية بهدف الإبطاء من عملية التسارع نحو "تكريس واقع الدولة العنصرية الواحدة".

أخيراً، لوح الرئيس بتغيير صيغة الاعتراف بإسرائيل عندما تساءل "لماذا يبقى الاعتراف بإسرائيل قائماً على أساس حدود العام 1967". وكان قبل ذلك قد أشار لإمكانية عودة الشعب الفلسطيني "لحل يستند إلى قرار التقسيم رقم 181 للعام 1947، الذي يعطي دولة فلسطين 44% من الأرض، وهي ضعف مساحة الأرض القائمة على حدود العام 1967". لا يوجد في 

هذه الصيغة التي طرحها الرئيس ما يشير لسحب الاعتراف بإسرائيل كدولة، وحتى لو قام الرئيس بإبلاغ إسرائيل رسمياً بقرار كهذا فإن ذلك لا يغير شيئاً من الوضع القانوني الراهن المتعلق بالاعتراف المتبادل بين منظمة التحرير واسرائيل. لكن بالطبع لو حصل هذا التغيير في صيغة الاعتراف، وهو أمر مستبعد تماما، فإن ذلك سيضيف لبنة جديدة في الحرب الدبلوماسية التي تديرها السلطة الفلسطينية ضد إسرائيل لكنه لن يؤثر في طبيعة العلاقات القائمة بين الطرفين بما في ذلك الاستمرار في التنسيق الأمني والمدني.

"تقليص مساحة الصراع": سياسة الائتلاف الحكومي الإسرائيلي الراهن

تشكل السياسة الإسرائيلية الراهنة تجاه المسألة الفلسطينية استمراراً للسياسة اليمينية السابقة مع قدر بسيط من التعديل. تنطوي هذه السياسة على عناصر ثلاث تشكل على ما يبدو الحد الأقصى من التوافق بين أطراف الائتلاف الحاكم الراهن، وتشمل الموقف من حل الدولتين ومسار المفاوضات السياسي، والتقدم في مجال الاستيطان، والبحث في مبادرات استعادة الثقة. أما بالنسبة لقطاع غزة بالذات فلا يبدو أن هناك تغييراً ذي مغزى في سياسة نتنياهو السابقة التي تعمل على استمرار الحصار والإغلاق، واستمرار الانقسام، مع منع حماس من الوصول لوضع تشكل فيه تهديداً عسكرياً حقيقياً لإسرائيل، ولكن بدون التهديد بحصول أزمة إنسانية أو التهديد بإسقاط سيطرة حماس أو قدرتها على ضبط الأمور الأمنية والمدنية في قطاع غزة.

تحت ضغط أمريكي شديد أعلن نتنياهو لفظياً قبوله حل الدولتين وذلك في خطاب جامعة بار إيلان في عام 2009. لكن رئيس الوزراء الحالي يرفض صراحة وعلنا هذا الحل مؤكدا لقاعدته وحلفائه في اليمين أنه أكثر تشددا من نتنياهو. كذلك، بالرغم من دخول حكومة نتنياهو سابقاً في مفاوضات برعاية أمريكية في عامي 2013-2014 للتوصل لتسوية دائمة للصراع فإن الحكومة الراهنة ترفض الجلوس على طاولة المفاوضات مع الطرف الفلسطيني.

أما بالنسبة للاستيطان فإن الائتلاف الحاكم قادر على ما يبدو على المشي بخطى بطيئة، في مشاريع استيطانية كبيرة لها القدرة عند اكتمالها على إلغاء المسار السياسي التفاوضي حول حل الدولتين. فمثلاً، بدأت الإدارة المدنية مطلع هذا الشهر الاستماع للاعتراضات على البناء في منطقة أي- 1)  E-1) الواقعة بين القدس وأريحا، وهي مرحلة هامة في المراحل الأخيرة من عملية التخطيط قبل إعطاء الموافقة النهائية على البناء وطرح العطاءات. تقسم هذه المستوطنة، إن قامت، الضفة الغربية إلى قسمين معزولين شمالي وجنوبي، وتعزل القدس عن الضفة الغربية، وتجعل من المستحيل جعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية.

كذلك بدأت إسرائيل خلال الشهرين الماضيين في التحضير للبدء بعملية التخطيط لبناء مستوطنة كبيرة شمالي القدس في موقع مطار قلنديا وحوله، بين رام الله والقدس، تحتوي على تسعة آلاف وحدة سكنية. وفي جنوب القدس أقرت لجنة تخطيط 

إسرائيلية في منتصف هذا الشهر خططاً للدفع بالبناء لآلاف الوحدات السكنية في مستوطنة جفعات همتوس، التي ستبنى على أراض مصادرة من شرافات وبيت صفافاً وتشكل موقعاً عازلاً بين القدس الشرقية وبيت لحم. وكانت الحكومة الإسرائيلية قد أقرت في تشرين ثاني (نوفمبر) 2020 البدء بالعطاءات للبناء في تلك المنطقة.

وفي القدس الشرقية تتقدم خطط البناء الاستيطاني فيما يعرف بمستوطنة "وادي السيلكون" التي ستقام على مساحة 250 ألف متر مربع في قلب وادي الجوز وسيؤدي بناؤها لهدم منشآت تجارية لا تقل عن مائتين يمتلكها سكان فلسطينيون من أبناء المدينة، وكان قد تم تسليمهم إخطارات بإخلاء المنطقة في منتصف عام 2020. كذلك، لا تزال قضية أصحاب البيوت الفلسطينيين المهددين بالطرد في الشيخ جراح عالقة في المحاكم بدون حسم بانتظار تسوية بين المستوطنين وأصحاب البيوت. ترغم هذه التسوية أصحاب البيوت بالاعتراف بأنهم لا يملكون هذ المنازل مقابل السماح لهم بالبقاء فيها حتى حين.  أخيراً يشكل قرار محكمة الصلح الإسرائيلية في السادس من هذا الشهر بالسماح لليهود بالصلاة الصامتة في الحرم الشريف تغيراً غير مسبوق في العلاقات الفلسطينية-الإسرائيلية منذ الاحتلال الإسرائيلي. وبالرغم من أن القرار اللاحق من المحكمة المركزية، بعد يومين من قرار محكمة الصلح، أبطل قرار محكمة الصلح هذا فإن صدور ذلك القرار يشير بوضوح إلى التآكل التدريجي الحاصل على الصيغة المعروفة "بالوضع الراهن" التي سمحت بدرجة من الاستقرار الهش في العلاقات الفلسطينية-اليهودية في منطقة الحرم الشريف، وقد يؤدي هذا التآكل إلى تشكيل بؤرة انفجار قادمة.

لكن في الوقت الذي لم يكن متاحاً للطرفين الفلسطيني والإسرائيلي البحث في قضايا حياتية هامة ذات مغزى تتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والحياة اليومية للفلسطينيين فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت أعلن أن لإسرائيل والسلطة الفلسطينية مصلحة مشتركة بتحسين أوضاع وظروف حياة الفلسطينيين. وقد اجتمع وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس مع الرئيس الفلسطيني في شهر آب (اغسطس) 2021 للبحث في إجراءات لبناء الثقة بين الطرفين بهدف تقوية الاقتصاد الفلسطيني، كما صرح الوزير الإسرائيلي، والبدء بحل قضايا "لم الشمل" العالقة لآلاف من الفلسطينيين، "وإقراض السلطة" الفلسطينية 

نصف مليار شيكل من أموال الضرائب التي تجمعها إسرائيل نيابة عن السلطة الفلسطينية. كما أن تقدماً قد يكون أحرز على صيغة الاتصالات الخلوية في موضوع الجيل الرابع، وذلك إضافة لزيادة أعداد العمال العاملين في إسرائيل، وفي مجال السماح بإصدار رخص للبناء في المنطقة المصنفة جيم في الضفة الغربية. تنبثق هذه الخطوات تجاه السلطة الفلسطينية مما تسميه إسرائيل سياسة أو نهج "تقليص مساحة الصراع"، وهي السياسة البديلة لمفهوم "حل الصراع" القائم على أساس التوصل لتسوية سياسية لإنهاء الاحتلال. وكان رئيس الوزراء الإسرائيلي قد عرض سياسة حكومته هذه على إدارة الرئيس الأمريكي بايدن رداً على محاولات الإدارة الأمريكية استكشاف حدود الخطوات السياسية الممكنة في ظل حكومة بينت.

 

معادلة جديدة:

نحن إذاً امام معادلة جديدة: استعداد فلسطيني للقبول المؤقت بالوضع الراهن، وحكومة إسرائيلية جديدة متسلحة بمفهوم يدعي "تقليص مساحة الصراع" فيظهر تشددا أكبر في العملية السياسية وانفتاحا أكثر في خطوات بناء الثقة. إن من الواضح بالطبع أن هذه السياسة لا ترضي الطرفين الفلسطيني أو الدولي، لكن أحداً لا يعترض عليها بحد ذاتها وإنما على كونها بديلاً عن عملية سياسية لحل الصراع. وبما أن الولايات المتحدة ومعظم اللاعبين الدوليين يعتقدون أن الظروف الراهنة غير ناضجة للعودة لمفاوضات سلام، فلا يوجد في الحقيقة أي معارضة حقيقية للسياسة الإسرائيلية. وقد تعاطت الإدارة الأمريكية بإيجابية تجاه خطوات بناء الثقة وشجعت الطرفين على المضي قدماً بها. كذلك تعاطى الطرف الفلسطيني معها بقدر من الإيجابية إذ رأى فيها فرصة لتعزيز مكانة السلطة المتراجعة. وفي الحقيقة، فإن الجمهور الفلسطيني نفسه كان قد أبدى في منتصف أيلول (سبتمبر) تأييداً من الأغلبية (56%) لخطوات بناء الثقة من خلال تحسين الظروف المعيشية في الضفة الغربية وقطاع غزة، مثل لم الشمل أو توفير أموال إضافية للسلطة الفلسطينية، ولم تزد نسبة من رأت في ذلك عملاً سلبياً عن 35%. 

فهل يتيح الإدراك الفلسطيني بأن الحفاظ على الوضع الراهن هو أقصى ما يمكن توقعه والاستعداد الإسرائيلي لتبني صيغة "تقليص مساحة الصراع" خلق مسار فلسطيني-إسرائيلي خال من الصدام وأكثر استقراراً خلال السنة أو السنتين القادمتين مما شهدنا خلال السنتين الماضيتين؟ وما مغزى الاستقرار قصير المدى على التطورات بعيدة المدى؟

إن الإجابة على هذا السؤال قصير المدى قد لا تكون بالضرورة سلبية رغم وجود عوائق واضحة أمام ذلك، إذ قد تشكل عوامل الشد الفلسطيني وضغوط الإئتلاف الاسرائيلي عناصر استقرار قصير المدى في ظل المعادلة الجديدة. فمن جهة، يشكل التنافس الحاد بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس عنصر توتر واستقطاب كبير في السياسة الفلسطينية وخاصة بعد الحرب الرابعة بين حماس وإسرائيل في أيار (مايو)2021. كما يشكل ضعف الشرعية والأداء الذي يعتري مكونات السلطة الفلسطينية دافعا لها للعمل على تقليص ذلك النقص عبر كسب النقاط مقابل حماس، إما من خلال تحقيق مكتسبات للجمهور الفلسطيني، حتى ولو كان ذلك فُتاتاً من الطرف الإسرائيلي، او من خلال إدارة حرب دبلوماسية واسعة النطاق ضد إسرائيل. لكن السلطة 

الفلسطينية ستجد نفسها على الأرجح مجبرة على العمل في المسارين معاً: الحرب الدبلوماسية وخطوات بناء الثقة. إن هذه النتيجة ستكون محصلة شبه مؤكده للجانبين الآخرين في السياسة الإسرائيلية: رفض المفاوضات وحل الدولتين والبدء بخطوات محسوبة في مشاريع استيطانية لها القدرة على حسم مستقبل حل الدولتين، كما أشرنا أعلاه.

بالنظر إلى سياستها الراهنة، لن تكون السلطة الفلسطينية قادرة على بلورة ردود أكثر فاعلية في مواجهة الحصانة التي يتمتع بها الوضع الراهن. فهي مثلاً لو أرادت استغلال مفهوم أو نهج "تقليص مساحة الصراع" وتعزيز خطوات الثقة لتنطلق نحو آفاق أكثر اتساعاً من خلال استغلال التطبيع العربي مع إسرائيل لخدمة المصالح الفلسطينية، فلن يكون لها القدرة أو الإرادة السياسية على استغلال اتفاقات التطبيع للدفع قدماً بخطط فلسطينية لتعزيز الوجود الفلسطيني في القدس أو الاستثمار في المنطقة جيم، أو حتى إقناع الحكومة الإسرائيلية بالتراجع عن أي من خططها الاستيطانية الحاسمة الراهنة. إن أي استعداد من السلطة الفلسطينية للتعامل بإيجابية مع التطبيع العربي سيفتح الباب أمام فيضان من التطبيع مع إسرائيل، تكون السعودية على رأسه، مما سيساهم في تحجيم القضية الفلسطينية عربياً ويزيد من العزلة الفلسطينية، كما سيزيد من عزلة السلطة الفلسطينية وقيادتها، ومن ضعف شرعيتها، وسيعطي حماس مدخلاً أكبرا لتعزيز مكانتها وقيادتها للشعب الفلسطيني كبديل عن الحركة الوطنية.

في المقابل، لو ارادت القيادة الفلسطينية تعزيز حربها الدبلوماسية من خلال بدائل سلمية لمقاومة الاحتلال، مثل استغلال الغضب الشعبي الكامن من أجل تصعيد المقاومة الشعبية وإشراك عشرات الآلاف من المدنيين الفلسطينيين فيها، فإنها ستجد نفسها عاجزة عن القيام بذلك نظراً للفجوة الهائلة الموجودة حالياً من انعدام الثقة بينها وبين الجمهور الفلسطيني. وفوق كل ذلك ستجد المؤسسة الأمنية الفلسطينية في مشاركة شعبية واسعة النطاق مقدمة لعسكرة المقاومة، وإيذاناً بفقدانها للسيطرة على مجريات الأمور، وقد تتخوف من تحول الغضب الشعبي ضد إسرائيل لتهديد داخلي ضد السلطة نفسها.

في الجانب الإسرائيلي ستكون القيادة اليمينية تحت ضغط كبير للرد بحزم على الخطوات الفلسطينية الدبلوماسية المعادية رغم أن خطاب الرئيس عباس قد أعطى الحكومة الإسرائيلية سنة كاملة بدون خطوات دبلوماسية ضارة لها. لكنها على الأرجح ستكون مدركة للضغوط التي ستعمل القيادة الفلسطينية في ظلها وقد تتركز ردودها على الخطوات الدبلوماسية الفلسطينية في تسريع وتيرة الاستيطان بدلاً من وقف خطوات بناء الثقة. وقد تتعامل إسرائيل بإيجابية مع أي تحول فلسطيني نحو العمل في مجال بناء الثقة من خلال عملية التطبيع العربي لما لذلك من تأثيرات إيجابية على القبول العربي بها وتطبيع العلاقات معها رغم تجميد العملية السلمية واستمرار تعميق الاحتلال.

 

الخلاصة: تقليص أم زيادة مساحة الصراع؟

غني عن القول أن المدخل الوحيد لتقليص مساحة الصراع هو تقليص مساحة الاحتلال والاستيطان. لكن المضمون الإسرائيلي لهذا المفهوم سيعمل على عكس ذلك، إذ ستتقدم خطط البناء الاستيطاني وسيتعمق على اثره الاحتلال ويتعزز. فهل تستطيع السلطة الفلسطينية في ظل هذا الواقع أن تكتفي بجهودها الدبلوماسية المتواضعة مع الانخراط في خطوات بناء الثقة وقبول ما تراه إسرائيل فتاتاً متاحاً في ظل أولوياتها في الحفاظ على وجودها وفي ظل أولويات الحكومة الإسرائيلية في الحفاظ على تماسك ائتلافها الحكومي الراهن.

إن من المرجح أن تكون هذه هي فعلاً سياسة السلطة الفلسطينية للفترة القادمة قصيرة المدى. فالسلطة غير قادرة على بلورة موقف فلسطيني موحد بدون مصالحة وانتخابات وتغيير جوهري في نظامها السياسي، مما يتركها سلطة ضعيفة وهشة ولا تحظي بالاحترام الدولي. في ظل وضع كهذا لن تبادر أي من القوى الدولية الفاعلة للضغط على الطرف الإسرائيلي لوقف عملياته الاستيطانية الراهنة أو لقبول حل الدولتين والدخول في مفاوضات سياسية لحل دائم. لكن هذا الرضوخ من الطرفين الفلسطيني والدولي للوضع الراهن سيعني حتماً وصول الأوضاع الفلسطينية-الإسرائيلية إلى مرحلة اللاعودة عندما تدرك كافة الأطراف أن حل الدولتين لم يعد قائما.

ليس هناك مفر من القبول بهذا الاستنتاج، إذ إن الاعتقاد بأن أمام القيادة الفلسطينية (التي قيدت نفسها بالمواقف المذكورة أعلاه) بدائل أخرى هو مجرد تمنيات فارغة. كذلك، فإن الاعتقاد بأن الجماهير الفلسطينية لن تقبل مرغمة بهذه النتيجة هو تقدير في غير محلة، إذ لا توجد قيادات أو حركات أو أحزاب سياسية قادرة، أو راغبة، في ظل الوضع السائد اليوم على التأثير على الجماهير الفلسطينية وكسب ثقتها وطرح بدائل للسياسة الراهنة للقيادة الفلسطينية. ينطبق هذا القول على من هو قادر منها، مثل حماس والقوى المؤيدة لمروان البرغوثي، وغير القادر، مثل قوى اليسار والقوائم الانتخابية الجديدة أو جماعة دحلان. أما المجتمع الدولي فلن يتحرك بحزم في أي اتجاه إذا اعتقد بغياب فرص النجاح. لكنه قد يتحرك في حالة حصول انفجار فلسطيني-إسرائيلي جديد، وهو أمر غير مرجح في الوقت الراهن، باستثناء قدرة حماس العالية على المخاطرة مما يعطيها المزيد من المكتسبات على حساب السلطة الفلسطينية.