د/ إبراهيم أبراش
ما يجري في العالم العربي تحت مسمى (الربيع العربي) هو موجة من تقلبات الـثـروة والســلطــــــة وتـغــيـيـر مـوئـلهـما، فـهنـــــاك طــبـقــات وفئات جديدة تصعد للســــــــطح وطـبـقـات وفئات قديمة تتآكل واستنفذت أغراضها أو باتت عاجزة عن القيام بدورها الوظيفي لخدمة القوى الرأسمالية النافذة في العالم. موجة تُعيد طرح، لكن بوسائل عنيفة، إشكالية العلاقة بين الثروة والسلطة، وهي إشكالية تشكل آفة سياسية قديمة قِدم وجود السلطة والدولة، من منطلق أن الثروة تُحيل للخاص والشخصي بينما السلطة تُحيل للعام ،وفي كثير من الحالات تميل نخبة السلطة لتغليب الخاص على العام وتمرر مصالحها من خلال الزعم بأنها المصلحة العامة، موظفة في ذلك الايدولوجيا بكل تلاوينها، وحتى الدين تمت أدلجته ليخدم نخب المصالح الجديدة. بالرغم من تعاقب الأزمان والأنظمة السياسية فإن الواقع اليوم يؤكد خطورة الجمع بين الثروة والسلطة في المجتمعات المستقلة، وخطورة الجمع بين الثروة والثورة والسلطة بالنسبة للشعوب التي تمر بمرحلة التحرر الوطني.
هذه المشكلة تختلف من بلد لآخر، ففي دول المؤسسات والقانون والديمقراطية لا مانع أن يكون رجل السلطة ثريا وينتمي للطبقة الرأسمالية ما دام تبوأ موقعه عن طريق الانتخابات النزيهة أو بطرق قانونية ، ولان القانون الذي يسمح له انطلاقا من حق المواطنة أن يكون مسؤولا وحتى رئيسا هو نفسه القانون الذي يقف عائقا أمام توظيفه لموقعه لتعظيم ثروته أو ليمزج الخاص بالعام، وإن حدث هذا فيكون محدودا لأن القانون ووعي الشعب والتداول السريع على السلطة يعملوا على وقف التجاوزات عند حدها ومحاسبة المسؤول، وقد رأينا رؤساء ورؤساء وزارات ووزراء يقَدَمون للمحاكمات بتهمة الفساد وبعضهم دخل السجون.
ولكن خطورة المسالة تتجلى في الأنظمة الدكتاتورية وفي دول العالم الثالث، حيث الزعيم أهم من المؤسسة بل ومن الوطن، فهذا الأخير تتعامل معه الأنظمة كمجرد حالة افتراضية أو إيديولوجيا يتم توظيفها حسب مشيئة الحاكم ومصالح النخبة المسيطرة ،ويتم تكييف وتقييف المصلحة الوطنية لتتماها مع مصلحة الحاكم وحزبه وعشيرته. عندما تغيب الحِكامة والمحاسبة والقانون الذي يعلو على الجميع تصبح ثروة الشعب ملكا مباحا للحاكم وعائلته والنخبة المحيطة به، ومع مرور الوقت تتعاظم ثروة النخبة ويتعاظم الفساد مع مزيد من تفقير الشعب ورهن المصالح الوطنية بمصالح النخبة التي بدورها تُرهن مصالحها بمصالح الدول الاستعمارية وبالرأسمال الخارجي، مما يؤدي في النهاية لإضعاف الدولة الوطنية وإثارة النزعات الطائفية والعرقية والحرب الأهلية أو الانقلابات والثورات، حيث تسعى نخب مصالح جديدة لتوظيف نقمة الفئات الشعبية الفقيرة ليس لإقامة نظام ديمقراطي بل للانتقام من النخبة الحاكمة كهدف أساس، وهذا ما جرى في كثير من دول العالم الثالث ويجري اليوم في دول ما يسمى بالربيع العربي حيث الصراع على الثروة والسلطة وليس من أجل الديمقراطية ولا من أجل تطبيق شرع الله فحتى المقدس أو الرب يتم تكييفه وتوظيفه حسب مصالح المتصارعين على السلطة.
يوما بعد يوم تتكشف حقائق عما يجري في بعض دول العالم العربي، حيث بدأ الأمر بحراك شعبي واسع كان عفويا في تونس، ثم انتقل لمصر وليبيا واليمن وسوريا، حراك تم توصيفه حينا بالربيع العربي وحينا آخر بالثورات العربية. مع مرور الأيام تتبدد الآمال بأن ما جرى منذ يناير 2011 كان ربيعا عربيا وثورات عربية، وكتبنا وتحدثنا كثيرا مؤملين النفس بأن العالم العربي مُقبل على حدث تاريخي سيُعيد إدخال العرب للتاريخ ويُعيد المكانة للمشروع القومي العربي متضمخا وموشيا بالديمقراطية والحداثة، وكيف لا نأمل بذلك وقد سقط أكثر من زعيم دكتاتوري بما تبدى بأنه تحت ضغط الشعب واستجابة لإرادة الأمة.
كثيرة وكبيرة الآمال والمراهنات التي بنتها الشعوب العربية ، حتى من خارج دول الربيع العربي، على التحركات الشعبية الأولى في تونس ومصر، كانت الآمال كبيرة بكبر حالة البؤس التي تعيشها الشعوب العربية تحت نير أنظمة أذلتها وأفقرتها، وكثيرة كانت التضحيات التي كانت الشعوب مستعدة لتقديمها للتخلص من واقعها البائس، وبقدر كبِر وضخامة الآمال كانت الصدمة عندما كشفت الشعوب أنه يتم توظيفها لصالح نخب ودول تتصارع على السلطة والثروة، وفي صراعها المُفتقر لكل قواعد الأخلاق والوطنية والدين يتم توظيف أرواح البشر ومصير الأوطان كأدوات أو وقود لتحقيق مصالحها.
كان الانكشاف الأول لوهم الربيع العربي عندما بان التحالف بين واشنطن وجماعات الإسلام السياسي وخصوصا الإخوان في تونس ومصر، وإن كانت بعض جماعات الإسلام السياسي وبعض المنتسبين لجماعة الإخوان المسلمين صادقين في نواياهم ورغبتهم في الثورة والتوجه نحو الديمقراطية، إلا أن قيادات نافذة في هذه الجماعات كانت تخطط منذ سنوات مع الغرب وخصوصا واشنطن لخلق (الفوضى الخلاقة) في المنطقة لإعادة توزيع ثروات المنطقة ومراكز ومغانم السلطة فيها لمصلحة نخب الإسلام السياسي الصاعدة ومصالح واشنطن والغرب، ولو كان ذلك على حساب وحدة الدول الوطنية القائمة وعلى حساب القضية الوطنية الفلسطينية حيث كانت القضية الفلسطينية أولى (ضحايا الربيع العربي الموهوم).
وكان الانكشاف الثاني عندما تدخلت واشنطن وحلف الأطلسي بشكل مباشر وفج لإسقاط نظم القذافي في ليبيا واغتياله لتختفي معه كل أسرار العلاقات التي كانت تربط القذافي بدول الغرب،وتساءلنا حينها: أية ثورة شعبية هذه التي تتحالف مع واشنطن وحلف الناتو؟ وجاءت الأيام لتكشف حقيقة أن الصراع كان وما زال على الثروة والسلطة ،حيث ليبيا اليوم بدون سلطة وحكومة تفرض سيطرتها على البلاد، وحيث القبلية والجهوية تقوم بدورها التفكيكي والتدميري للدولة والمجتمع.
وأخيرا انكشفت وسقطت نهائيا ورقة التوت عندما انسحب الشعب من (الثورة) وأخليت الساحة للجماعات الإسلاموية المسلحة لتتصارع على النفوذ والسلطة مثيرة الخراب والدمار والفتنة وموظفة بشكل فج الدين من جانب، وسلاح ومال الغرب من جانب آخر، وهو ما يجري اليوم في سوريا وبقية دول الربيع العربي