الحدث- سوار عبد ربه
أقام مركز خليل السكاكيني بالشراكة مع دائرة الدراسات الثقافية والفلسفية في جامعة بيرزيت أمس الإثنين، ندوة لإطلاق كتاب "من الحضارة العربية إلى الحضارة العربية الإسلامية" للكاتب والباحث جمال ضاهر، والذي صدر مؤخرا عن دار الفارابي في بيروت.
ويعتبر الكتاب نتاج قلق فكري وهاجس معرفي عند مؤلفه، منذ 14 عاما تقريبا، وهو أيضا تتويج لمجموعة من الأبحاث التي كتبها ونشرها بالشراكة مع د. عبد الكريم البرغوثي ونديم مسيس، عن العرب ما قبل الدعوة الإسلامية، كما جاء في تقديم مسيرة الندوة الباحثة والأكاديمية سهيلة عبد اللطيف.
وأوضحت عبد اللطيف أن الكاتب بحث حول قدم الكتابة عند العرب في شمال الجزيرة العربية، وعن خصائص اللغة والفكر عند عرب ما قبل الدعوة.
وبحسب عبد اللطيف: "صدر الكتاب اليوم في ظل حالة عداء عامة وعدم إعطاء قيمة لأنفسنا كعرب، إلى جانب الميل إلى التشكيك حول إمكانية إنتاج العرب وإنجازاتهم والتقليل من شأنهم، الأمر الذي لا تقتصر ممارسته تجاه أنفسنا في حياتنا اليومية فقط، إنما أيضا في ميول ممنهجة في الأكاديميا العربية قبل الغربية، من قبل مفكرين عرب للتقليل من شأن الفكر العربي والحضارة العربية، ليس فقط في سياق الفكر العربي المعاصر وكل ما يكتب اليوم عن أسباب تخلف العرب أو رجعيتهم، وإنما أيضا في مثل هذه الميول تجاه العرب ما قبل الإسلام، في محاولة مستمرة وجادة في إثبات أن العرب ما قبل الإسلام لم يمتلكوا أي معرفة أو أي فكر حقيقي خاص فيهم، خاصة في ظل الادعاء السائد بأن الانفتاح على اليونان مع بدء عصر الترجمة، هو ما خلق عندهم معرفة ما، ليأتي كتاب جمال ضاهر ويفند كل هذه الادعاءات يدحضها".
أما عن الخصوصية والفرادة التي يتمتع بها كتاب الباحث فتنبع من محاولته لكسر الصورة النمطية عن العرب ما قبل الدعوة الإسلامية، -أي أنهم كانوا "بدو رحل" جهلة لا يفقهون شيئا- وفقا للباحثة، التي أوضحت أن الكتاب يحاول البرهنة على نقطتين أساسيتين: أولا: الانشغال الفكري عند العرب في الحضارة العربية الإسلامية لم يبدأ مع حركة الترجمات في القرن الثاني تقريبا، كما هو سائد، وثانيا: الحضارة العربية الإسلامية لم تشهد وجود فلسفة وفلاسفة فقط مع القرن الثالث أي مع مجيء الكندي، إنما الحركة الفكرية الفلسفية العربية كانت موجودة عند العرب قبل الإسلام. وما شهدته الحضارة العربية الإسلامية من فكر وفلسفة ما هو إلا استمرار لما كان موجودا عند العرب سابقا في حضارتهم العربية.
وحاول ضاهر البرهنة على ذلك من خلال أربعة مركبات أساسية وهي: اللغة، العلم وتحديدا الطب، التفكير المنطقي وأخيرا التفكير الفلسفي.
ويبدأ جمال ضاهر في التعامل مع مركب اللغة عند عرب ما قبل الدعوة في مقدمة الكتاب، ويتحدث فيها عن البلاغة عند العرب والإعجاز في البيان واشتغالهم في التسمية، والمقصود هنا اهتمامهم وحرصهم على وضع اسم لكل حالة من حالات الأشياء، أي أسماء تحمل معان مختلفة للشيء بحسب الحالة التي يكون فيها، وكل هذا هو مشروع عربي منذ القدم، يدلل على أن العرب كانوا معتدين بلغتهم وأنهم كانوا على مستوى عال من المعرفة.
وفي الفصل الأول يتعرض جمال ضاهر للطب عند عرب ما قبل الدعوة الإسلامية ويقف على طبيعة ما أنتجه من معارف طبية، كيف كانوا يستخدمون الأدوية ويقومون بعمل جراحات طبية دقيقة، وكانوا يعالجون الكثير من الأمراض عن دراية بتشريح جسم الإنسان، كما أنهم فصلوا في أسماء الأمراض وأعطوا اسما لكل مرض.
ويرى ضاهر في كتابه أن كل هذا التفصيل في الأشياء لا يمكن أن يكون ناتجا عن رحل جاهلين لا يمتلكون المعرفة، كما أنه يحتاج إلى الملاحظة والدقة والمعرفة والمنهجية كي يستطيعوا التمييز بين حالة مرضية عن أخرى، وإعطاء اسم لهذه الحالة مختلف عن الاسم المعطى للحالة الأخرى.
أما في الفصل الثاني يركز ضاهر على البنية المنطقية الموجودة في القرآن ويجادل الباحث بأن مجرد وجود البنى المنطقية والحجج المنطقية في القرآن هو دليل بحد ذاته أن المنطق والفلسفة لم تكن حكرا على اليونان، وإلا الله لم يكن ليستعمل البنى المنطقية في تنزيله، لولا أن العرب امتلكوا القدرة على التعامل مع هذه الحجج والبنى المنطقية.
وفي الفصول الثالث والرابعة والخامس يركز الكتاب على التفكير الفلسفي الموجود عند العرب وكيف أن الفلسفة التي ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية هي امتداد لما كان موجودا في الحضارة العربية نفسها سواء الآراء في العقائد أو الفلسفة في الدين وهنا يقوم جمال ضاهر في تفصيل الصراعات العقائدية وما ترتب عن هذه الصراعات من نشوء فرق تبنى كل منها توجهات فكرية وفلسفية مختلفة خاصة في قضايا متعلقة بالذات الإلهية أو القضاء والقدر وغيرها.
وفي نهاية الكتاب يخلص ضاهر إلى مجموعة استنتاجات مفادها أن العرب كانوا قد تعمقوا في المقالات ولهم رأي في العقائد، وكانت عندهم فلسفة في الدين، وتعاملوا مع المنطق كآلة معرفية، كما أنهم فهموا البنى المنطقية وفصلوا في معرفتهم في الطب، ما يشير إلى أنهم امتلكوا إنتاجا معرفيا واعيا، وبالتالي ما جاء بعد الدعوة الإسلامية من حيث مواضيع الاهتمام هو غير منفصل عما كان عند العرب قبل الإسلام.
وقدم كل من الأكاديميين وسيم أبو فاشة، وعبد الكريم البرغوثي مداخلاتهما وتعليقهما وبعضا من النقد للكتاب والكاتب.
ووصف أبو فاشة الكتاب بأنه عميق ومكثف لطروحات يصل بعضها إلى حد المفاجأة، فالكتاب الذي بين أيدينا يفصح عن هاجس رئيس لدى الكاتب يشكل أساس أطروحته، أي صيرورة الحضارة العربية واستمراريتها وتحولاتها.
أما عن تسمية الكاتب "عرب ما قبل الدعوة" ليس كما التسميات الشائعة كعرب الجاهلية أو عرب ما قبل الإسلام على معنى الازدراء أو القطيعة مبررة تماما فالدعوة هنا مثلت نقطة التحول المرجعية كما أطلق عليها الكاتب، والتي تضمنت في ثناياها ما سبقها متجاوزة إياها إلى آفاق أرحب وأكثر انفتاحا وقدرة على الاستيعاب، بحسب الأكاديمي أبو فاشة.
واعتبر د. وسيم أن الكاتب اختار أن يشق سبيلا وعرا في محاولة منه لتطوير مفاهيمه ومنهجيته الخاصة المطبقة على موضوع الكتاب، كما ركز على موضوعات دون غيرها كموضوع الطب عند عرب ما قبل الدعوة، ميدانا لتناول مفردات الجسد والداء والدواء بمفاهيمها ودلالاتها المختلفة المجرد منها والمفصل.
كما اعتبر أن الفرادة فيما قدمه ضاهر في كتابه أنه استطاع التعبير عن جدلية العلاقة بين اللغة والفكر، حيث لا ينظر للأولى كمجرد حامل والثانية مجرد محول لها، ففي مرحلة سابقة للتدوين، حفظ لنا جزءا هاما من ملامح الفكر العربي بل حتى ومنهاجه، وتلك إحدى العتبات التي رصها الكاتب بإتقان تاركا لنفسه أو لنا إمكانية البحث الموسع فيها، خاصة أنه في مقال سابق بعنوان خصائص اللغة والفكر عند عرب ما قبل الدعوة كان قد أسس لذلك بوضوح عبر تناوله للعلاقة بين البين والضمني في المعرفة، وجوهرية اللغة بالنسبة للهوية، وعلاقة المعرفة بالنظام الاجتماعي.
وأردف: "هذه العناصر المنهجية مجتمعة والتي تضاف لحقل المنطق المطبق لديه في موضوع آخر في الكتاب، لا نبالغ إن قلنا إنها تضعنا أمام تحد جديد في قراءة الموروث وربما تفتح أبوابا لطالما أغلقت أمام الفهم".
وبحسب أبو فاشة، فإن أكثر ما يمكن الالتفات إليه بمعايير الفرادة، هو الخوض في العلاقة المنطقية التي يشتملها المنطق القرآني أو التنزيل، والذي كان على درجة من الأهمية، إذ لا يوجد في الأقدمين من خاض في مثل ذلك غير الغزالي ومن المحدثين إلا محاولات قليلة غالبيتها من غير المتخصصين في حل المنطق، إلا أن ما قدمه ضاهر يشكل هو الآخر عتبة هامة لمعرفة جديدة حول القرآن ونسق ترتيلة المنطقي والحجاجي على حد سواء.
ووفقا لأبو فاشة: نجح الكاتب في الانعتاق من مركزيات (اليونانية والغربية الاستشراقية وحتى الإسلامية منها) لطالما هيمنت على دراسة التاريخ والفكر العربي والعربي الإسلامي، لكن ذلك النجاح مشوب بتوتر الوقوع في حبائل التأسيس لمركزية عربية، كونه لم يفصح تماما عن دوائر التقاطع والتأثر والتماثل بين السابق العربي واللاحق العربي الإسلامي من ناحية وبين هذا الأخير وكل المصادر التي استوعبها لاحقا، ضمن سياقاته التاريخية الحضارية.
كما بين أبو فاشة أن الكاتب عكس بقدر كبير منظومة فكرية متكاملة نتجت عن انشغال الفرق الإسلامية بقضايا الذات الإلهية والقدر، والذي لم يكن انشغالا لاهوتيا صرف، كالطوائف المسيحية السابقة للإسلام حتى القديس أوجاستين.
بدوره، قال الأكاديمي عبد الكريم البرغوثي في مداخلته التي أسماها "مناقب ومثالب"، إن الخيط الناظم والمتصل في هذا الكتاب وفي كل المشروع البحثي الذي يعمل عليه منذ حين الكاتب جمال ضاهر هو في تفنيد رأي أو خطاب سائد، يستل من القدماء سواء المؤيدين أو فقه اللغويين وغيرهم، والذي ينفي عن العرب التفكير المجرد، وإمكانية التفكير والاستقلال الفكري، وجل جهد جمال هو هدم هذا الخطاب السائد ومحاولة للبرهنة على أصالة في موقف العرب.
وأردف البرغوثي: ليتمكن د. جمال من هذا الفعل، أقر مسألة في غاية الأهمية وهي: "انعدام الدلائل على وجود الفكر الفلسفي أو التفكير عند العرب لا يعني عدم وجود هذا الفكر"، متابعا: "استدل جمال على وجود تفكير مجرد عند العرب بانعدام وجود أدلة، من خلال أن الدعوة الإسلامية والنص القرآني خاطب العرب بلغتهم، ما يعني أن هذه اللغة ناجزة، ناضجة، وقابلة لاستقبال هذا الوحي، فاللغة هي طريقة في الاستدلال على أن النص القرآني كان يخاطب من يملكون لسانا ناضجا لاستقباله.
أما الدليل الثاني بحسب البرغوثي هو "ما هي هذه اللغة القادرة على استقبال الوحي، لذا انتقل البحث لـ ماهية اللغة العربية، وهنا استخدم جمال كتبا أعدت في فترة لاحقة للربط المحكم بين اللغة والفكر، وخصائصهما عند العرب، لتغدو اللغة نفسها ليست فقط أداة لنقل المعرفة وإنما هي الأداة لإنتاج المعرفة والفكر، وبالتالي قيمة العرب وتتمثل في قدرة هذه اللغة".
ورأى د. عبد الكريم البرغوثي أنه نتيجة هذا البحث والجهد الاستدلالي هناك خصائص للقول العربي واللسان والفكر العربي، ثابتة، جوهرية، وملازمة وجوديا للإنتاج العربي.
أما الدليل الثالث بحسب ما أوضحه البرغوثي فكان النص القرآني، والذي استخدمه جمال ضاهر للبرهنة على وجود معرفة عند العرب قبل القرآن، وذلك بالتعامل مع النص القرآني على أنه يحتوي على منطق، شبيه ومخالف ومغاير للمنطق الأرسطي أو اليوناني.
أما الأمر الذي اعتبره عبد الكريم البرغوثي "مثلبة"، فتمثل في أنه لا يمكن أن ينشأ شيء من لا شيء، وهذه مقولة يونانية، والعقل اليوناني من يفهم الأمور هكذا، وعندما نقول إنه يوجد منطق في النص القرآني، فهذا منطق أرسطو، ما يعني إمكانية ولادة طرائق خاصة في المعرفة مغايرة لما هو في اليونان أو سابقة عن التأثر في اليونان تجبرنا على أن نقيسها بنموذج اليونان، مخاطبا ضاهر: "حتى وأنت تنفي تأثير اليونان في كتابك أنت مضطر للتعامل معهم".
وادعى البرغوثي بوجود معضلتين أساسيتين متعلقتان بالمنهج، الأولى: أننا مضطرون للعودة إلى عصر التدوين وجلب المصادر منه، حتى نبرهن أنه في عصر ما قبل التدوين كان عندنا كعرب معرفة، والثانية: القول بعدم التأثر خطر للغاية لأنه يعني عدم القابلية للتأثر أو أن الأثر سلبي علينا، ما يعني أننا غير قابلين للتأثير على ما نتأثر به.
ورد الباحث جمال ضاهر على ادعاءات البرغوثي بأن موضوع كتابه ليس التأثير والتأثر، وإنما تسليط الضوء على العرب، لذا لم تشغله العلاقات والتأثير المتبادل ما بين عرب ما قبل الدعوة وغيرهم، ولا أحد يستطيع القول إنه لا توجد تأثيرات متبادلة.
وقال ضاهر في مداخلته إن المصادر التي استند عليها في بحثه تمثلت في مصادر كتبت ما بعد الدعوة، ضاربا مثالا عن كيفية التعامل معها، بالنقد الذي وجه للثعالبي بأن بعض الأسماء المتضمنة في كتابه "فقه اللغة"، موجودة عنده فقط أي أنه من وضعها، موضحا ضاهر أن ما مكن الثعالبي من وضع هذه الأسماء هو وجود الأسماء ولولا وجودها لما استطاع أن يضع أسماء، بالتالي إضافته للأسماء هو تأكيد على صحة وجود أسماء عند العرب وهكذا يتم التعامل مع المصادر.
بالإضافة إلى النقوش وما يمكن الاستفادة منه بخصوص قدم الكتابة عندهم كمظومة، وفي البحث هذا تناول ضاهر في بعض الأمثلة النقوش، لأنها تتضمن معلومات عن المنظومة الكتابية عند العرب ما قبل الدعوة، وقدمها وانتشارها وما قد تشير إليه من حيث الاستخدام في للكتابة.
وجمال ضاهر هو كاتب وروائي فلسطيني، ورئيس قسم الفلسفة والدراسات الثقافية ومدير برنامج ماجستير دراسات عربية في جامعة بيرزيت، كما أنه باحث في مجال المنطق وعرب ما قبل الدعوة الإسلامية.
وصدرت له عدد من الكتب والروايات منها: "وأضحى الليل أقصى" كما صدرت له كتب بحثيّة على غِرار "مدخل إلى علم المنطق" الذي أتبعه بكتاب "حدود المعرفة" ثم أكمل هذه السلسلة بكتاب ثالث هو "قواعد في المنطق أسس ومفاهيم" ثم رواية "عند حضور المكان" ثم رواية "العدم"، ويعتبر أشهر أعماله كتاب "الخليل بن جلجل".