نقوم في العدد 146 من الطبعة الورقية للحدث وبنسختها الإلكترونية، بترجمة مقال لورنزو فيراتشينيLorenzo Veracini : "ما الذي يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تُقدِّمَه لتفسير الصراع في إسرائيل - فلسطين؟ What Can Settler Colonial Studies Offer to an Interpretation of the Conflict in Israel-Palestine”، والذي نشر في مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني Settler Colonial Studies، في عددها الثالث عام 2015. وليس الهدف من الترجمة هو الاطلاع فقط على بعض الأفكار المثيرة للجدل في مقال فيراتشيني، وخاصة تلك المتعلقة بتعريفه لمعنى الهزيمة والانتصار، أو لتعريفه لمعنى انتهاء العمل الاستيطاني في فلسطين عام 1948، واعتبار ما يحدث في فلسطين منذ ذلك الحين، وتحديداً ما بعد عام 1967، مجرد تحولٍ من نمط الاستعمار الاستيطاني إلى استعمار. وإنما الهدف بشكل أساسي يتمثل في نقد طرح فيراتشيني على المستوى التنظيري والفكري خاصةً فيما يتعلق باعترافه الضمني بوجود كيانين متساويين هما "إسرائيل- فلسطين"، واعترافه الضمني الآخر بضرورة التعايش.
أولاً: الكيانان المتصارعان
يُحيلُ فيراتشيني في عنوان المقال إلى وجود كيانين يتصارعان وهما في حالة من المواجهة، وهذه الإحالة بحد ذاتها تُلغي بداية وجود تراتبية القوة في العلاقة الاستعمارية وتؤسسها على أساس صراع ما بين طرفين، وتقدمهما على أساس أنهما متكافئان، ظاهريا على الأقل، في القوة المادية، بل ومتساويان في أحقية اكتساب تسمية "فلسطين" و "إسرائيل". وينسجمُ العنوان مع الطرح الفكري الذي ينظر له فيراتشيني، على مستوى استخدام الأفعال وأزمانها، أي متى يبدأ الصراع ومتى ينتهي. فإذا ما أخذنا بما يطرحه فيراتشيني في الفقرة الثالثة من مقاله، فإننا نراه يذهبُ إلى أبعد من ذلك حول تفسيره لزمانية الصراع ولشكله. فهو يرى أن الصراع إنما بدأ بعد أن ثبتَ الوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية، ونتيجةً لهذا الوجود نشأت القومية الفلسطينية على إثر تجربتها ما بعد انتهاء الصراع على فلسطين. ويقع فيراتشيني هنا في تناقض مركزي، فإذا ما كان وصفه لما حدث عام 1948 باعتباره "انتصاراً" لطرف ومكابدةً لـ "الهزيمة" لطرف آخر، فإنه يضمن فكرته إحالةً إلى طرفٍ كان موجوداً ما قبل الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. إذ أن مفهومي "الانتصار والهزيمة" يُحيلان أساساً إلى وجود فاعلين تحقق لأحدهما الانتصار ولحقت الهزيمة بالآخر، إذ لا ينتصر في الصراعات طرفٌ على نفسه ولا يلحق الهزيمة بها. وليس هذا التنظيرُ بريئاً من الإرث المعرفي الغربي الذي تغلغلت فيه السردية الصهيونية، فهو أولاً: يعترفُ باليهودية كقومية صاحبة الامتياز الحصري في بقعة جغرافية سُميت إسرائيل؛ وثانياً، يتبنى فكرةَ الأرض الفارغة، فالفلسطينيون إنما خُلقوا وتشكلوا بسبب بدء صراعهم مع "القومية اليهودية"، إذ نلحظُ هنا كيف يتبنى فيراتشيني أن الفلسطيني ما قبل 1948 هو غير موجود فعلياً.
ثانياً: التعايش لحل الصراع على أساس الأصلنة
من خلال طرحه لمفهوم "أصلنة المستوطن"، يُحاولُ فيراتشيني أن يجد حلاً للصراع، فليس الهدف هو إنهاء الاستعمار الاستيطاني أو طرد المستوطنين، بل حل مشكلة أصلانية المستعمِر في المكان المستعْمَر. وبغيةِ تحقيق هذه الغاية تبدو فكرة التعايش فكرة مناسبةً تماماً بحسب فيراتشيني، أما طريقة تحققها فتبدأ من التخلي عن السرديات الكبرى، بما فيها التخلي عن فكرة رفضِ وجود الفلسطيني، وهي واحدة من السرديات التأسيسية في الفكر الصهيوني. فأصلنة المستوطن إنما تتم بالاعتراف بوجود الأصلاني وبوجود كيانية سياسية تمثله، من هنا تنشأ فلسطين، التي لم تكن موجودةً في الزمن الماضي، بنيةٍ من المستعمِر على خلقها في الحاضر أو في المستقبل لتكون عاملاً مساعداً على أصلنةِ المستعمر الصهيوني. وهذا يتماشى مع طرحِ فيراتشيني فيما يتعلق بالفصل الزماني والجغرافي ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة وما بين فلسطين 1948 من جهة ثانية، والتي تتساوق على المستوى التطبيقي مع السياسة الإسرائيلية تجاه البقعة الجغرافية المخترعة ما بعد 1967 التي تحاول تحديد معنى الفلسطيني وشكل كينونته السياسية، وتتماشى على المستوى النظري مع العقيدة الصهيونية الاستعمارية التي ترفضُ رفع يدها عن كل فلسطين التاريخية. ففلسطين المتخلقة في عام 1967 ضرورة لترسيخ المقولة الصهيونية حول الهوية القومية بما هي أصيلة وأصلانية قائمة في بقعة جغرافية مستقلةٍ تماماً عن الفلسطيني الذي يتصارعُ معها على منطقة 1967، إذ يُصبحُ التخلي الصهيوني عن تلك البقعة الجغرافية تنازلاً يُثنى عليه لحل الصراع.
رغم كل الإشكاليات الأخرى التي يثيرها فيراتشيني في مقاله، إلا أن تجاهله للنكبة كحدث تأسيسي في السردية الفلسطينية، وتجاهله لاستمراريتها منذ بدئها مع الهجرة الصهيونية الأولى لفلسطين وحتى الإعلان الأخير لدولة الاستعمار الاستيطاني عن إنشاء 1355 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وتصنيفه لست منظمات حقوقية فلسطينية بأنها إرهابية، ما هو إلى نقد منطلق من الواقع ضد التنظير الذي يقدمه فيراتشيني، وما هو إلا تدليلٌ على أن الاستعمار الاستيطاني لفلسطين لم ينته عام 1948، بل إنه بنية مستدامة ما دامت ديمومة النكبة حاضرة.
وفيما يلي رابط ترجمة مقال لونزو فيراتشيني: اضغط هنا