الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

ما الذي يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تُقدِّمَه لتفسير الصراع في إسرائيل - فلسطين؟

مقال لـ : لورينزو فيراتشيني

2021-10-28 08:08:21 AM
ما الذي يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تُقدِّمَه لتفسير الصراع في إسرائيل - فلسطين؟
تعبيرية

ترجمة الحدث 

مقدمة المترجمة: رولا سرحان

نقوم في العدد 146 من الطبعة الورقية للحدث وبنسختها الإلكترونية، بترجمة مقال لورنزو فيراتشيني Lorenzo Veracini: "ما الذي يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تُقدِّمَه لتفسير الصراع في إسرائيل - فلسطين؟ What Can Settler Colonial Studies Offer to an Interpretation of the Conflict in Israel-Palestine”، والذي نشر في مجلة دراسات الاستعمار الاستيطاني Settler Colonial Studies، في عددها الثالث عام 2015. وليس الهدف من الترجمة هو الاطلاع فقط على بعض الأفكار المثيرة للجدل في مقال فيراتشيني، وخاصة تلك المتعلقة بتعريفه لمعنى الهزيمة والانتصار، أو بتعريفه لمعنى انتهاء العمل الاستيطاني في فلسطين عام 1948، واعتبار ما يحدث في فلسطين منذ ذلك الحين، وتحديداً ما بعد عام 1967، مجرد تحولٍ من نمط الاستعمار الاستيطاني إلى استعمار. وإنما الهدف بشكل أساسي يتمثل في نقد طرح فيراتشيني على المستوى التنظيري والفكري خاصةً فيما يتعلق باعترافه الضمني بوجود كيانين متساويين هما "إسرائيل- فلسطين"، واعترافه الضمني الآخر بضرورة التعايش.

أولاً: الكيانان المتصارعان

يُحيلُ فيراتشيني في عنوان المقال إلى وجود كيانين يتصارعان وهما في حالة من المواجهة، وهذه الإحالة بحد ذاتها تُلغي بداية وجود تراتبية القوة في العلاقة الاستعمارية وتؤسسها على أساس صراع ما بين طرفين، وتقدمهما على أساس أنهما متكافئان، ظاهريا على الأقل، في القوة المادية، بل ومتساويان في أحقية اكتساب تسمية "فلسطين" و "إسرائيل". وينسجمُ العنوان مع الطرح الفكري الذي ينظر له فيراتشيني، على مستوى استخدام الأفعال وأزمانها، أي متى يبدأ الصراع ومتى ينتهي. فإذا ما أخذنا بما يطرحه فيراتشيني في الفقرة الثالثة من مقاله، فإننا نراه يذهبُ إلى أبعد من ذلك حول تفسيره لزمانية الصراع ولشكله. فهو يرى أن الصراع إنما بدأ بعد أن ثبتَ الوجود الصهيوني في فلسطين التاريخية، ونتيجةً لهذا الوجود نشأت القومية الفلسطينية على إثر تجربتها ما بعد انتهاء الصراع على فلسطين. ويقع فيراتشيني هنا في تناقض مركزي، فإذا ما كان وصفه لما حدث عام 1948 باعتباره "انتصاراً" لطرف ومكابدةً لـ "الهزيمة" لطرف آخر، فإنه يضمن فكرته إحالةً إلى طرفٍ كان موجوداً ما قبل الوجود الاستعماري الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. إذ أن مفهومي "الانتصار والهزيمة" يُحيلان أساساً إلى وجود فاعلين تحقق لأحدهما الانتصار ولحقت الهزيمة بالآخر، إذ لا ينتصر في الصراعات طرفٌ على نفسه ولا يلحق الهزيمة بها. وليس هذا التنظيرُ بريئاً من الإرث المعرفي الغربي الذي تغلغلت فيه السردية الصهيونية، فهو أولاً: يعترفُ باليهودية كقومية صاحبة الامتياز الحصري في بقعة جغرافية سُميت إسرائيل؛ وثانياً، يتبنى فكرةَ الأرض الفارغة، فالفلسطينيون إنما خُلقوا وتشكلوا بسبب بدء صراعهم مع "القومية اليهودية"، إذ نلحظُ هنا كيف يتبنى فيراتشيني أن الفلسطيني ما قبل 1948 هو غير موجود فعلياً.

ثانياً: التعايش لحل الصراع على أساس الأصلنة

من خلال طرحه لمفهوم "أصلنة المستوطن"، يُحاولُ فيراتشيني أن يجد حلاً للصراع، فليس الهدف هو إنهاء الاستعمار الاستيطاني أو طرد المستوطنين، بل حل مشكلة أصلانية المستعمِر في المكان المستعْمَر. وبغيةِ تحقيق هذه الغاية تبدو فكرة التعايش فكرة مناسبةً تماماً بحسب فيراتشيني، أما طريقة تحققها فتبدأ من التخلي عن السرديات الكبرى، بما فيها التخلي عن فكرة رفضِ وجود الفلسطيني، وهي واحدة من السرديات التأسيسية في الفكر الصهيوني. فأصلنة المستوطن إنما تتم بالاعتراف بوجود الأصلاني وبوجود كيانية سياسية تمثله، من هنا تنشأ فلسطين، التي لم تكن موجودةً في الزمن الماضي، بنيةٍ من المستعمِر على خلقها في الحاضر أو في المستقبل لتكون عاملاً مساعداً على أصلنةِ المستعمر الصهيوني. وهذا يتماشى مع طرحِ فيراتشيني فيما يتعلق بالفصل الزماني والجغرافي ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة من جهة وما بين فلسطين 1948 من جهة ثانية، والتي تتساوق على المستوى التطبيقي مع السياسة الإسرائيلية تجاه البقعة الجغرافية المخترعة ما بعد 1967 التي تحاول تحديد معنى الفلسطيني وشكل كينونته السياسية، وتتماشى على المستوى النظري مع العقيدة الصهيونية الاستعمارية التي ترفضُ رفع يدها عن كل فلسطين التاريخية. ففلسطين المتخلقة في عام 1967 ضرورة لترسيخ المقولة الصهيونية حول الهوية القومية بما هي أصيلة وأصلانية قائمة في بقعة جغرافية مستقلةٍ تماماً عن الفلسطيني الذي يتصارعُ معها على منطقة 1967، إذ يُصبحُ التخلي الصهيوني عن تلك البقعة الجغرافية تنازلاً يُثنى عليه لحل الصراع.

رغم كل الإشكاليات الأخرى التي يثيرها فيراتشيني في مقاله، إلا أن تجاهله للنكبة كحدث تأسيسي في السردية الفلسطينية، وتجاهله لاستمراريتها منذ بدئها مع الهجرة الصهيونية الأولى لفلسطين وحتى الإعلان الأخير لدولة الاستعمار الاستيطاني عن إنشاء 1355 وحدة استيطانية جديدة في الضفة الغربية، وتصنيفه لست منظمات حقوقية فلسطينية بأنها إرهابية، ما هو إلى نقد منطلق من الواقع ضد التنظير الذي يقدمه فيراتشيني، وما هو إلا تدليلٌ على أن الاستعمار الاستيطاني لفلسطين لم ينته عام 1948، بل إنه بنية مستدامة ما دامت ديمومة النكبة حاضرة.

وفيما يلي ترجمة المقال:

عادة ما يُشار في الخاتمةِ إلى عمل المحرِّرين الشاق: عقد اللقاءات، وتنظيم المؤتمرات وحضورها، وإلى ما فيه من صبر الانتظار وتنسيق عمل المؤلفين المساهمين. ولا أستطيع الادعاء بالقيام بأي من ذلك. فهذا العدد الخاص [من دراسات الاستعمار الاستيطاني] قد قام عملياً بتحرير نفسه. منذ تأسيس [مجلة] دراسات الاستعمار الاستيطاني في عام 2010، عالج تدفق مطرد من التقديمات قضية الاستعمار الاستيطاني كنمط محدد من الهيمنة في إسرائيل / فلسطين المعاصرة. كما وأصدرت المجلة أيضًا عددًا خاصًا عام 2012 حول السبل التي تسهم دراسة الاستعمار الاستيطاني من خلالها في تحليل إسرائيل- فلسطين المعاصرة والتاريخية.1 وفي مرحلة مبكرة نسبياً، كانت مقبولية دراسات الاستعمار الاستيطاني كإطار تفسيري في هذا السياق موضعًا للنقاش. ومذئذٍ، تسارعت بشأنها المداولات الأكاديمية. وتوضح ذلك الأعمال التي تم جمعها في هذا العدد الخاص. ومع ذلك، وبينما تُرسِّمُ هذه الافتتاحية المقتضبةُ مبدئيًا بعض الاتجاهات التي يمكن أن تُسهم دراسات الاستعمار الاستيطاني من خلالها في العمل كأداة توجيهية لتحليل المأزق التاريخي والمعاصر لإسرائيل - فلسطين، فهي في الأساس دعوة لمناقشة علمية؛ وعلى عكس مشاريع الاستعمار الاستيطاني التي تضعها موضع الدراسة، لا تهدف دراسات الاستعمار الاستيطاني كمسعى مقارن إلى الإزاحة.

أولاً، وللأهمية، قد تُتِيحُ لنا دراسات الاستعمار الاستيطاني فهم صيغ الأفعال (tenses) بتصريفها الصحيح. إذ نستخدم فعل المضارع بصورة اعتيادية للإشارة إلى "الصراع". ولعلنا نفهم صيغ الأفعال بصيغتها المغلوطة عندما يتعلق الأمر بهذا الموضوع المثقل. فما هو بادٍ أمامنا ليس حالة صراع، بل في الواقع حالة ما بعد الصراع   “Postconflict”(ونادرا ما تكون [حالات] ما بعد الصراع سلمية). فقد تم حل الصراع على فلسطين التاريخية في عام 1948 وأقفل في عام 1967. وكما هي حال المستوطنين في بقاع أخرى، جاء الصهاينة للبقاء، وكما في المجتمعات الاستيطانية الأخرى، حقق أحفاد المستوطنين نصراً حاسماً. وهنا يكمنُ السبب في أن إسرائيل لم تعد تنتصرُ في الصراعات بالطريقة الحاسمة التي اعتادت عليها: فبما أن الفوز يمكن تعريفه بأنه لم يعد بحاجة إلى أن يُفاز به، فإنه يواجه حتما عوائد متناقصة. وما المأزق الحالي إلا نتيجة تَحقُّقِ الانتصار، في مقابل، مكابدةِ الهزيمة.

من المهم جدا فهم صيغة الفعل الصحيحة لأن النماذج تُعْلِمُ الإدراك. إذ يتمثلُ التفسيرُ المُستَقْبَل هنا في أن الصراع ناجمٌ عن صراع عرقي-قومي؛ وبكلمات أخرى هنالك صراع قومي بسبب وجود الفلسطينيين. وللأسف، فالأمر فعليا عكس ذلك: فقد نشأت القومية الفلسطينية الجمعية على شاكلتها الحالية نتيجة إنتهاء الصراع. وتشكلت التجربة الفلسطينية على نحو أساسي بسبب التهجير والاحتلال. وتُتيحُ لنا دراسات الاستعمار الاستيطاني اعتبار سياسة الفصل العنصري الاستعمارية والتي طُبقت إثر نجاح قمع الانتفاضة الأولى بأنها كانت منقطعة تماماً عن السياسة الاستعمارية الاستيطانية التي انتهجتها إسرائيل سابقاً في سبيل دمج المضطهدين (subordinate integration). وإذا كان برينوس Brennus قد قال عندما كان راغباً في تحصيل الذهب من الرومان ومتجاوزاً شروط استسلامهم: ويل للمهزومين الماثلين تحت رحمة المنتصرين، إلا أنه في سياق الديالكتيك ما بعد الاستعماري يجدرُ الالتفاتُ إلى [مقولة] ويلٌ للمنتصرين.

ثانيًا، يمكن الاستعانةُ بدراسات الاستعمار الاستيطاني كما طُبِّقت على [مرحلة] ما بعد الصراع الإسرائيلي -الفلسطيني للنظر إلى ما بعد المواجهة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فعند التدقيق في تفاصيل الموقف المناهض للاستعمار وللاستعمار الاستيطاني بوصفهما نَمطين مميزين للهيمنة تُتاحُ مقاربة تتفكر فيما بعد المعادلة الصفرية "zero sum game" التي تنطوي على وجود متنافسَين عرقيين-قوميين. ويمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تُفسِّر لماذا، نسبيًا، هي من الناحية البرامجية مسعى مقارن، وبالمحصلة، تُفسِّر كيف أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني، وعلى الرغم من تمتعه بقوة هائلة وغير مسبوقة فعلياً، هو مشروعٌ غير قادر على إكمال [عملية] الغزو الاستعماري الاستيطاني لفلسطين ليصبح مثل المجتمعات الاستيطانية الأخرى. وأنا لا أقول ذلك كما لو أني أتمنى لو أن (ـه) [الاستعمار الاستيطاني] قد حذا نهجاً أفضل في محو الفلسطينيين، مثلما فعل المستوطنون الآخرون في أماكن أخرى. ورغم كون القومية الجمعية الفلسطينية، كما هي موزعة على مجموعة متنوعة من الأنظمة والتكوينات المنفصلة، إلا أنها "حقيقة على الأرض" لا رادَّ لها وكانت نتيجة الاحتلال الاستعماري للأراضي المحتلة والذي يزيد في نهاية المطاف من فرصها في التناتج الاجتماعي. إذ لا يوجد شيء يُعزز من أواصر الجماعات الوطنية أفضل من الإنكار المستمر للحقوق الوطنية. واسألوا البولنديين أو الأيرلنديين؛ واسألوا الفلسطينيين. في المقابل، لا يوجد شيء يمحو الإمكانات السيادية المستقلة للأصلانيين مثل البسط القسري لحقوق المواطنة المستمدة من المستوطنين. واسألوا الهنود الأمريكيين بعد قانون توزيع الحصص العام “allotment”. وعلى عكس الاستعمار، فإن الاستعمار الاستيطاني كنمط هيمنة متمايز يقوم بمحو الأصلانية من خلال توسيع حقوق المستوطنين بشكل غير متساو.

ثالثًا، تمكّننا دراسات الاستعمار الاستيطاني من فهم الصهيونية بطريقة لا يمكن للسرديات القائمة على الاستثناء فهمها. فالاستيطان كان رد هرتزل على معاداة السامية. فقد اعتقد أن اليهود سيكونون مستوطنين ممتازين؛ بل وأفضل من المستوطنين الآخرين في أي بقعة أخرى، وأنهم بقيامهم بذلك سيدحضون الافتراءات المنهجية المتعلقة بمسألة الوجود. في هذا الصدد، كان منهج هرتزل مشابهًا لمنهج ماركس. إذ حاجَّ ماركس بوصول "المسألة اليهودية" إلى نهايتها عبر الاندماج الكامل. وكان ذلك سيتطلب (أو سيصل حد أن يتطلب) ثورة. ولم يُرِد هرتزل حدوث ثورة، إذ كان يعتقد، على النقيض من ذلك، أن الاندماج بدون ثورة لا يمكن تحقيقه إلا خارج أوروبا، حيث سيقوم اليهود بما يقوم به الأوروبيون عادة خارج أوروبا، وبالتالي سيصبحون أوروبيين. كان التهجير والاستيطان بديلا هرتزل عن الثورة. وبهذا، كان حقا غير أصلي، وكان واحدًا من بين كثيرين ممن يفكرون بهذه الشروط بينما يواجهون آفاقًا ثورية. وهكذا، لم يكن الاستيطان وسيلة لتحقيق غاية، ولم تكن الصهيونية مسألة تتعلق بالدولة في المقام الأول. كان الأمر متعلقا بالأساس بالاستيطان. لتأتي النهايةُ في سياق ممارسة استباقية. بحيث يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني الإسهام في استبعاد مركزية الدولة من التحليل عند تفسير الصراع.

كان الاستيطان، ولا شيء آخر، هو الجوهر الصرف للممارسات الصهيونية. وكانت العلاقة مشحونة فعليا بين التقاليد السياسية للاستعمار الاستيطاني بشكل عام وبين الدولة. إذ غالبًا ما تأسست دول قوية كنتيجة لإنشاء المستعمرات الاستيطانية، لكن لم يكن هذا هو هدفها الأساسي في الغالب. فقد كان المستوطنون الذين نزحوا من مكان آخر خلال عصر "ثورة المستوطنين" وأدركوا أن حركتهم تتمتع بإمكانات سيادية ملازمة لهم يفرُّون في كثير من الأحيان من قوى الإدماج. وبإمكان أي شخص مطلع، على سبيل المثال، على الخلافات بين الفدراليين والمناهضين للفيدرالية وخلفائهم خلال حقبة الجمهورية المبكرة في الولايات المتحدة أن يتعرف على اتجاه الطرد المركزي هذا. إذ دائمًا ما يكون ولاء المستوطنين لحكامهم مشروطًا في نهاية المطاف بكونهم وببقائهم بعيدين [عن المركز] (باستثناء عندما تكون هناك حاجة إليهم [أي الحكام] لدرء التحديات الجيوسياسية التي تفرضها مقاومة الشعوب الأصلانية). إذا لا يتصف الولاء بالثبات -بينما الاستيطان هو كذلك- وعليه، يمكن بسهولة التخلي عن (ـه) الولاء.

إذ يمكن للدول أن تُرسِّخ الاستيطان خدمة لأغراضها الخاصة، لكن الدول تسعى إلى ترسيخ نفسها في نهاية المطاف؛ ذلك هو همها الرئيسي. وتسعى الدول للسيطرة على السكان، جميع السكان، حتى وإن كانوا في حالات نادرة جدا يسيطرون عليهم عبر اتباع نهج يساوي فيما بينهم. ومع ذلك، فإن الاستعمار يتعلق بالتناتج الانتقائي. إن الفهم الصهيوني للتاريخ على أنه يتجه بحتميةٍ نحو إقامة الدولة يسيء بشكل أساسي فهم الصهيونية على أنها استيطان. فالاستيطان هو تكوين اجتماعي خاص يهدف إلى أن يحل محل نفسه، بينما تسعى الدول إلى استمراريتها. وتُتيح لنا دراسات الاستعمار الاستيطاني أيضًا التفكر في أصل هذا التناقض وفي "الاحتلال''، وهو نمط خاص جدا من الاستعمار طورته الولايات المتحدة بعد الحرب المكسيكية وجرى إتقانه عبر قرن ونصف من التدخلات الخارجية، والذي يهدف، مثل الاستعمار الاستيطاني وعلى عكس أنماط الاستعمار الأخرى، إلى التغلب على ذاته (ولكن في حالة الاحتلال الاستعماري لـ "الأراضي" الفلسطينية فإنه لا يهدف إلى ذلك).

رابعًا، تمكننا دراسات الاستعمار الاستيطاني من تفسير الادعاءات الصهيونية حول الأصلانية. وهي ادعاءات مشحونة، إذ يدعي جميع المستوطنين أنهم "أصلانيون". لقد تطرَّق برادلي بورستون Bradley Burston، الصحفي في جريدة هآرتس، مؤخرًا لهذه المسألة بطرحه سؤالاً بلاغيا: "إذا لم يكن اليهود من السكان الأصلانيين هنا [أي إسرائيل]، فهل يعني ذلك أنه لا يمكن لليهود أبدًا أن يكونوا أصلانيين في أي مكان؟".4 بتجاوز بورستون Burston، وبغض النظر عن البلاغة، فلهذا السؤال إجابة مباشرة. إذ يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن توضح هذه النقطة: فبغض النظر عما إذا كانت مجموعات سكانية محددة في عصور تاريخية منفصلة مرتبطة بيولوجيًا (وقد لا تكون كذلك)، فإن فكرة "أرض الميعاد" تجعلها مترابطة. 5 فالأشخاص الموعودون بأرض في مكان آخر يشكلون لجهة التعريف جماعة اجتماعية - سياسية تم تنظيمها قبل وصولها، وكونها خارجية هو تعريف جيد كأي تعريف آخر. إذ لا يمكن للمرء الاحتفاء بتوجهه نحو الأرض وأن يَنظُرَ إلى ذاته باعتبار أنه كان دائمًا موجودا هناك. لا يتعلق الأمر بكونك معادٍ للسامية أو غير منطقي. يتعلق الأمر باتباع المنطق المتأصل في قصص معينة تُعرِّف جماعة اجتماعية- سياسية استيطانية محددة (وحتى في نسخها غير الدينية، فلدى الصهيونية، مثل جميع أنماط الاستعمار الاستيطاني، أرض ميعاد، وترى نفسها أنها تعيد تجسيد قصة توراتية). إن الصهاينة ليسوا سكانا أصلانيين؛ إنهم يَتَحلَّون بعلاقة تاريخية، وهي علاقة لا وجودية [غير أنطولوجية] بالأرض. إنها علاقة ذات مغزى، لكنها ليست علاقة جماعة أصلانية.

بالطبع، ونظرًا لكون المستوطنين ليسوا من السكان الأصلانيين، فهم يَتَأصْلَنون باستمرار (دون أن يصبحوا "أصلانيين" بالطبع). ويفعلُ معظم المستوطنين ذلك، على عكس المستعمرين الآخرين الذين يحلمون بالعودة إلى "الوطن". وليس كون المرء مادةً لعمليات الأصلنة هي بمثابة أن يكون أصلانياً، فأحد أشكال الوجود يلغي شكل الوجود الآخر؛ لهذا السبب لا يمكن للمستوطنين أن يصبحوا "مواطنين أصلانيين". إذاً، فالسؤال هو كيف يكون [المستوطن] متأصلناً ذاتيًا بطريقة فعالة. بشكل أساسي، يجب أن تتغير القصص التأسيسية: إذ بالإمكان اكتساب درجة من الأصلانية، حتى وإن لم تكن أصلانية غير مؤهلة. ولنَسَل السير والتر سكوت Sir Walter Scott، الذي كان يعرف شيئًا أو شيئين عن القصص التأسيسية وكان على دراية بأن أحفاد حكام بريطانيا ليسوا من السكان الأصلانيين. وتُعتبر السرديات التي تدعم فكرة الإقامة السياسية مع كيان سياسي أصلاني ضرورية للغاية لتوطين المستوطنين. إذ يمكن بذلك الحفاظ على استمرارية مشاريع استعمارية استيطانية قوية جدا. لكن لا يمكن أن يكون هناك أصلنة للمستوطنين دون الاعتراف بالوجود الجماعي للأصلانيين. وهذا هو السبب، ولغايات أصلنة الصهيونية، وكما هو الحال عند توسيع حقوق [المواطنة]، فإن الاعتراف بالسيادة الفلسطينية وليس منعها سيكون نهجًا أكثر فاعلية من الاعتماد الحالي على تفشي القمع. يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني أن تفسر الديناميكية التي تقوم عليها هذه المفارقة. وبالمثل، وكما يستوجب الأمر سرد قصص جديدة، فيجب التخلي عن بعض القصص. يستندُ "قانون العودة"، على سبيل المثال، على سردية معينة تمنع أصلنة المستوطنين على وجه التحديد لأنه يعلن أن المكوَّن الخارجي هو مكوِّنٌ أصلاني مثل المكوِّن الذي تمت أصلنته بالفعل. كما أن فكرة "دولة اليهود" تمنع أيضًا أصلنة المستوطنين من خلال الإعلان بشكل استباقي أن جميع الجهود الصهيونية للأصلنة هي في نهاية المطاف دون جدوى. وللمفارقة، لكنها مفارقة تدل على جاهزية القيادة الإسرائيلية الحالية، طلب رئيس الوزراء نتنياهو مرارًا وتكرارًا من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ومن الجميع الاعتراف بإسرائيل "دولة لليهود" وكان الأخير [عباس] يرفض، ليكون بذلك هو من يقوم بأهم عمل صهيوني.

حاشية: يمكن لدراسات الاستعمار الاستيطاني المساهمة أيضًا في فهم الانتخابات الإسرائيلية لعام 2015. فبينما يتغذى بنيامين نتنياهو على الخوف، إلا أنه في الأشهر الأولى من عام 2015، لم تكن عملية تعميمه للمخاوف التقليدية - القنبلة الإيرانية، والشرق الأوسط الفوضوي - ناجحةً. كما وتوقعت استطلاعات الرأي قبل الانتخابات وباستمرار المتاعب له. إذ أنه لم يتمكن من العثور على الدواعي المناسبة المثيرة للخوف وبدا الأمر بعيد المنال. ومع ذلك، وفي اللحظة الأخيرة، عثر على إحدى الذرائع. وكتب على صفحته على الفيسبوك: "سطوةُ الحق في خطر. يتقدم الناخبون العرب بأعداد كبيرة نحو أماكن الاقتراع. وتقلهم الأحزاب اليسارية في الحافلات." 6 والصورة التي يستحضرها [نتنياهو] في رسالته مهمة. إذ كان لها وقعٌ قوي عند الناخبين، ولعل نتنياهو حصل على تسعة مقاعد برلمانية في غضون ساعات قليلة [بسببها].  فالأمر كما توضحه هذه الصيغة لم يكن بعيد المنال. ولا يبدو "العرب" وفق هذه الصيغة فاعلين مستقلين؛ فهنالك من يُحرّكهم. والقول إن العرب كانوا "يتقدمون" (وهو مصطلح عسكري بيِّن) لن يكون قولاً ذا مصداقية. لكن "تقدم" العرب (وإن كان سلبيا) من أجل ممارسة حق سيادي (أي التصويت) قد لامس وترا حساسا. ومرة أخرى، فإن نقل "العرب" في حافلات إلى مكان آخر هو إشارة أكيدة إلى النكبة، وتم تمثيل تصويت العرب على أنه نكبة عكسية: فبدلاً من رميهم خارج الحدود، فإنه في هذه المرة تتم إزاحتهم افتراضياً نحو ممارسة الصفة السيادية. النكبة مهمة للفلسطينيين، لكن يظل ترحيل المشروع الاستعماري الاستيطاني أمراً أساسياً.