الحدث- سوار عبد ربه
عرفت مدينة القدس على مر تاريخها تحت الاحتلال بأنها مشعلة الهبات الشعبية في المنطقة، إذ كانت ولا زالت مركزا للصراع والاشتباك مع قوات الاحتلال، بفعل مساعي الاحتلال المستمرة للسيطرة على المدينة، وتهويدها وتغيير الواقع الديمغرافي فيها، من خلال خططها الساعية لانتزاع الطابع الفلسطيني العربي عن المدينة، لإحلال واقع جديد من شأنه أن يزيد عدد المستوطنين وأن ينشئ حدائق توراتية وتلمودية على امتداد المدينة، بالإضافة إلى مشاركة المقدسيين مقدساتهم خاصة المسجد الأقصى الذي يدعون أحقيتهم فيه.
وفي الأسابيع القليلة الماضية، شهدت العاصمة عودة ملحوظة للمواجهات بين الشبان المقدسيين، وقوات الاحتلال ومستوطنيه، إذ اعتقل العشرات، واعتديَ بالضرب على البعض منهم، ناهيك عن عمليات التفتيش المستمرة، واستفزازات المستوطنين، بالإضافة إلى استمرار اقتحام قوات الاحتلال لأحياء بلدة سلوان وإجراء عمليات هدم فيها، هذا كله بالتزامن مع أعمال الحفر التي تشهدها المقبرة اليوسفية وارتفاع وتيرة اقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى، هذه المشاهد، تعيدنا إلى الهبة المقدسية الأخيرة، التي بدأت مطلع شهر رمضان الماضي، وتصاعدت وتيرتها لتشمل كافة مناطق فلسطين، ما يدفعنا للتساؤل حول إمكانية حدوث هبة جديدة في الأيام المقبلة.
وحول ذلك قال الباحث في جمعية الدراسات العربية مازن الجعبري لـ"صحيفة الحدث" إن الأجواء في مدينة القدس مهيئة لحدوث هبة جديدة، وذلك لأن الاحتلال يحاول فرض السيادة عليها، خاصة المسجد الأقصى ومنطقة باب العامود، وكل ما حدث في الفترات السابقة هو امتداد وتواصل لهبة رمضان، كما أن موجات العنف الإسرائيلية مقابل الصمود الفلسطيني ستؤدي إلى اشتعال القدس وفلسطين مرة أخرى بسببها.
وأضاف الجعبري: "في القدس توجد نقاط مشتعلة بشكل مستمر، كالمسجد الأقصى وبلدة سلوان وحي الشيخ جراح الذي سيعود ليتصدر الأخبار في الشهر القادم بسبب قرار محكمة "العدل العليا الإسرائيلية"، إلى جانب ما يحدث في باب العامود وغيره من استخدام للوسائل القمعية كالمياه العادمة التي يعتدون من خلالها على الناس وعلى التجار كما حدث في ذكرى المولد النبوي، الأمر الذي أدى إلى تراكم غضب كبير عند الفلسطينيين تجاه الاحتلال وقواته واختزال طاقة كبيرة يمكن أن تنفجر في أي وقت قد تؤدي إلى موجة وهبة جديدة في القدس".
وفي محاولة لفهم ما يقوم به الاحتلال في الآونة الأخيرة في مدينة القدس من إجراءات استباقية لقمع المقدسيين ومنع اشتعالهم من جديد، رأى الجعبري أن الاحتلال يعتدي على الفلسطينيين في القدس بشكل دائم، لكن بعد هبة رمضان، تحاول سلطات الاحتلال أن تمنع أي هبة واسعة، لذلك تقوم بقمع الأحداث بشكل مشدد في مكانها من خلال إغلاق باب العامود بشكل مستمر، ومهاجمة الشبان لذات الأسباب التي حدثت من أجلها الهبة الأخيرة، حتى لا تمتد إلى مناطق أخرى.
وبحسب الجعبري هذا كله يعود إلى أمرين؛ الأول بسبب طبيعة الاحتلال، والثاني لأنهم يريدون "معاقبة" الفلسطينيين في القدس بسبب الهبة الأخيرة التي فرضت معادلات جديدة وإنجازات جديدة، ما أفقدهم السيطرة فيها، وتسبب بمشكلة لديهم، لأنهم يعتبرون القدس عاصمة لهم، الأمر الذي شكل هاجسا لهم فيما يتعلق بموضوعي السيادة والسيطرة.
وحول العنوان الذي من الممكن أن تحمله الهبة القادمة في القدس، اعتبر الجعبري أن العنوان سيكون المسجد الأقصى لأن العناوين الأخرى كلها تجري حول المسجد الأقصى، وكله ينصب في محاولة للسيطرة عليه، وتهويد هذا المحيط، وموضوع الأقصى والقدس مرتبطان ببعضهما البعض وهما العنوان الذي سيجمع كل الفلسطينيين.
بدوره، قال الباحث والمختص في شؤون القدس ناصر الهدمي لـ"صحيفة الحدث"، أن الاعتداءات والمواجهات العنيفة ترفع وتيرة التوتر في المدينة المقدسة، وهذه الأمور يجب النظر إليها بشكل تراكمي بحيث أن الشارع المقدسي يفقد يوما بعد يوم أسباب الحياة، وأسباب وجوده في هذه المدينة، لذلك نرى الهبات تأتي فجأة كأنها تنتظر القشة التي تقسم ظهر البعير.
بحسب الهدمي، فإنه لاحظ خلال الأيام الأخيرة سواء من جانب اعتداء سلطات الاحتلال والتي أصبحت أكثر عنفا من السابق، وأكثر ظلما للمقدسيين، مقابل ردة فعل المقدسيين التي أصبحت أكثر جرأة وأكثر قدرة على كسر هيبة جنود الاحتلال، أنها أحداث تذكر في نهاية نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، موضحا أن النظام في جنوب إفريقيا أصبح يتعامل مع أصحاب البشرة السوداء بطريقة عنيفة جدا، مقابل اختلاف ردة فعلهم التي أصبحت أكثر جرأة ولم تعد الدماء تمنعهم من الخروج لمواجهة هذا النظام الظالم، نفس القضية بدأت تظهر في مدينة القدس، فالاحتلال لا يلتزم حتى بقوانينه العنصرية، ويجرم بحق المقدسيين بشكل واضح جدا.
وعليه، رأى الباحث أنه نتيجة للجبهات الكثيرة التي تفتح في وجه المقدسيين والتي تبعث إلى اليأس وفقدان الأمل بأي حل للواقع الصعب الذي يعيشه المقدسيون، الانفجار قادم، وسلطات الاحتلال ستفقد سيطرتها، كما أن القضية لم تقف عند مدينة القدس فقط.
ودلل الهدمي على ذلك بالظروف الصعبة التي تعيشها الضفة الغربية نتيجة فقدان السلطة لهيبتها واحترام الناس لها، بعد تقارير الفساد الأخيرة، واغتيال نزار بنات، وقمع المتظاهرين، والتي تمثلت في الوقفات الجديدة التي فقدناها كثيرا، وعادت للظهور لتعبر عن اليأس والإحباط وعن النية نحو التغيير.
أما عن السبب الذي دفع قوات الاحتلال لاستباق الأحداث ومضاعفة قمعها للمقدسيين فرأى الهدمي أنه "على مر تاريخ الاحتلال لفلسطين، آمن الاحتلال بسياسة القبضة الحديدية وأن الحل دائما بالتنكيل، وإن لم ينفع التنكيل فمزيد منه، لذلك نرى أن الاحتلال يمعن في جرائمه بحق الفلسطينيين والمقدسيين وأنه ماض في هذه السياسة، وهذا ما ولد حالة من التحدي لدى الشارع المقدسي بحيث أنه أصبح غير قادر على التراجع لأن كرامته أصبحت على المحك"، وفي الوقت ذاته، شهدنا أحداثا معينة كسرت فيها هيبة جنود الاحتلال وبعضها أحداث فكاهية مثل سقوط جندي عن ظهر حصانه، هذه كلها كانت عوامل مشجعة، رأى من خلالها الشارع المقدسي جنود الاحتلال أضحكومة يتمتعون في إهانتهم.
وحقق المقدسيون في هبة القدس الأخيرة، والفلسطينون عامة في معركة سيف القدس التي نتجت عنها، نتائج وإنجازات جديدة، كان لا بد من السؤال حول طرق استثمار نتائجها والمحافظة عليها.
وشكل تصدي المقدسيين لسياسة الاحتلال وتهجيرهم من بيوتهم، رافعة لانطلاق هبة مقدسية فلسطينية، استطاعت أن تفرض نفسها على أجندة الجميع وتعيد قضية القدس إلى الواجهة، سيما بعد تدخل المقاومة في غزة.
وفي هذا الجانب قال الباحث ناصر الهدمي إن معركة سيف القدس كانت عاملا مهما وحدثا مركزيا في القضية الفلسطينية بالذات في الفترة الأخيرة، بالنسبة للمقدسيين الذين اعتبروا أن دخول المقاومة في معادلة الصراع مع الاحتلال وبالذات أن القدس أصبحت جزءا من مطالب المقاومة، وأصبحت المقاومة، مقاومة الشعب الفلسطيني بشكل عام ولم تعد مقاومة قطاع غزة أو مطالبها هي مطالبة رفع الحصار عن قطاع غزة فقط، وخروج المقاومة بهذا الشكل غير موازين القوى وغير حتى أسلوب التفكير لدى الكثيرين من أهل فلسطين، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية.
ففي الضفة الغربية شكلت معركة سيف القدس دافعا لنبذ كل طريق ومسار المفاوضات، وفي الداخل المحتل، أحسوا بأن هناك قوة تحمي ظهرهم وتدافع عنهم، وتتدخل في جرائم الاحتلال بحقهم، ويمكن أن تقف في وجه الاحتلال، وهذه المعركة استطاعت أن تثبت أن المقاومة عندها المقدرة على أن تملي شروطها على الاحتلال، الأمر الذي يحتاج إلى تعزيز، وفقا للهدمي.
واعتبر الباحث أنه على المقدسيين والفلسطينيين في كل مكان أن يعلموا أن دورهم الشعبي في مدينة القدس هو المحرك الأساس في مواجهة الاحتلال في الوقت الحاضر، كونهم في أرض المعركة، وهذا الدور أهم بكثير من دور المقاومة، فالمقاومة تأتي في النهاية، كون الثمن الذي يمكن أن يدفعهم إياه الاحتلال، قليل نسبيا إذا قيس مع الثمن الذي دفعه ويدفعه أهالي قطاع غزة في حال تدخل المقاومة للمواجهة، لذلك على المقدسيين ألا يتراخوا في دورهم الشعبي.
أما عن دور مدينة القدس في إطلاق الهبات والاحتجاجات في أنحاء فلسطين خلال السنوات الأخيرة فقد تبلور بعد عام 2014 بعد حادثة اختطاف الطفل محمد أبو خضير وإحراقه على أيدي مستوطنين، الأمر الذي دفع باتجاه اندلاع هبة شعبية في القدس انتهت بحرب إسرائيلية على قطاع غزة، وهو ما شكل مرحلة مفصلية في شكل الاستهداف الإسرائيلي لمدينة القدس.
ويرى مازن الجعبري أن السبب في ذلك يعود للرمزية والمكانة التي تشكلها مدينة القدس التي يتوسطها المسجد الأقصى، في وجدان الشعب الفلسطيني ما يجعلهما مؤشرا مهما ومركزيا في كل قضايا الشعب الفلسطيني الذي ينظر لهذا المكان بشكل مقدس، والذين يرتبطون بشكل كبير في هذا المكان. بالإضافة إلى شعورهم أن قضية فلسطين يمثلها المسجد الأقصى، والاعتداء عليه هو آخر القلاع التي يدافع عنها الفلسطينيون طوال الوقت، فهذا الخط المستقيم من ثورة البراق عام 1929 وتسلسل كل الأحداث كلها كانت بسبب القدس، وفقا للجعبري.
ويتفق الباحث ناصر الهدمي مع الجعبري على أن المسجد الأقصى هو أهم عنصر في عناصر المواجهة، لأن أهل مدينة القدس بشكل خاص وفلسطين بشكل عام لا يروا معنى لوجودهم دون المسجد الأقصى، كما أنه جزء مهم من هوية أهل فلسطين بشكل عام وهوية المقدسيين بشكل خاص، وأعلى وسام يتمنى أن يحصل عليه المقدسي هو الرباط في المسجد الأقصى، والأعلى منه هو شهيد في الأقصى، لكن فكرة الرباط فيه والدفاع عنه وأن يصاب الرجل أو المرأة في المسجد وهو يدافع عنه، هي أوسمة ينظر إليها أهل مدينة القدس على أنها أهم شيء في الحياة.
وقال الهدمي: "المسجد الأقصى شكل لدى المقدسيين جزء كبير مهم من هويتهم الوطنية والدينية والإنسانية، فهم يسيرون عن مكان مقدس يتم تدنيسه من قبل الاحتلال المجرم، يدعي أحقيته في المكان، وهم يعلمون تماما أن لا حق للاحتلال بذرة تراب من هذا المكان، لذلك فإن المسجد الأقصى المبارك محرك أساس ومفجر للأوضاع إذا تم الاعتداء عليه من قبل سلطات الاحتلال".
وإلى جانب الأهمية الدينية للمدينة، اعتبر الهدمي أن تعافي المقدسيين من وجود "سلطة حركة فتح"، كما أسماها، والتي قامت وتقوم بدور سيء في الضفة الغربية، ما أوصل وضع الضفة الغربية إلى هذا الحال، ولأنه لم تتم ممارسة كل أساليب التجهيل من قبلها، تبقى مشتعلة في وجه الاحتلال، مضيفا أنه بسبب عدم وجود قيادة لديها حسابات سياسية ومصالح سياسية، تشدهم إلى الأرض وتمنعهم من الثورة في وجه الاحتلال، ما أنشأ في القدس حالة من التمرد وحالة من الاعتماد على النفس، والتحدي مع الاحتلال المضطر إلى التعامل معهم، بكينونتهم لا أن يبحث عن قيادة تمثله.
يذكر أنه إلى جانب هبة رمضان الأخيرة، شكلت كل من البوابات الإلكترونية، وباب الرحمة، والفجر العظيم لحظات تاريخية فارقة لدى المقدسيين والشعب الفلسطيني.