بعد طول غياب عادت مفاهيم ومصطلحات الخطاب القومي العربي إلى الخطاب السياسي الرسمي ، وخصوصا في خطابات القادة العرب في قمة شرم الشيخ يومي السابع والعشرين والثامن والعشرين من مارس الجاري 2015، حيث تكررت على لسان القادة العرب مفردات تتحدث عن الأمة العربية والأمن القومي والمصير العربي والثقافة والهوية العربية ، وما يتعرض له العالم العربي من مخاطر . هذا الخطاب بدأ يزيح خطاب أمتد وهيمن خلال العقود الثلاثة الأخيرة ، وكان خطابا مدججا بمفاهيم ومصطلحات وثقافة دينية وبمفردات مشروع الإسلام السياسي ، المدعوم من الغرب وخصوصا من واشنطن ، ومن أصحاب مشاريع قومية و إقليمية متخاصمة مع المشروع القومي العربي إن لم تكن معادية له .
من الجيد بعد تجربة مريرة مع جماعات متطرفة عديدة تشتغل تحت عنوان (المشروع الإسلامي) ، جماعات دمرت وخربت خلال ثلاثة عقود ما لا يقل عما دمره وخربه الاستعمار من ثروات ونهضة فكرية وبشر ، ومن تفكيك لوحدة المجتمع ، من الجيد إذن أن تتحرك مصر في محاولة أن تستنهض و تقود هذا المشروع القومي العربي المتجدد حتى وإن كان المدخل لذلك التدخل العسكري الاضطراري في ليبيا للدفاع عن أمن مصر القومي ، وجيد أن تتكلم المملكة العربية السعودية بنفس اللغة وتتدخل مع أشقاء عرب لضرب ما تراه دول (عاصفة الحزم) أدوات ايران في اليمن بعد أن أصبحت السعودية محاطة بدول تسيطر فيها جماعات معادية لها مدعومة من ايران : العراق وسوريا واليمن .
لكن هناك ثغرة استراتيجية ، غائبة أو مغيَّبة عن قصد ، عن القادة العرب المجتمعين في شرم الشيخ ، وهي أن الخطر الذي يهدد الدول العربية والناتج عن أعمال الجماعات التي تمارس العنف وتهدد الأمة العربية والمشروع العربي كما تهدد الدولة الوطنية في كل مجتمع عربي ، هذا الخطر مصدره جماعات صنعتها بشكل مباشر أو غير مباشر واشنطن وتل أبيب لخلق (الفوضى الخلاقة) التي سموها زورا (الربيع العربي) بهدف تدمير وتفتيت الأمة العربية والمشروع القومي العربي ، وللأسف تم الحديث في القمة عن الفروع والأدوات وتم تجاهل الأصل وهو التحالف الأمريكي الإسرائيلي .
بالتأكيد ، لم نكن ننتظر من القمة العربية إعلان الحرب على واشنطن وتل أبيب أو كشف كل خيوط المؤامرة التي يعرفها كل القادة العرب ، كما يعرفون أن البعض منهم متواطئ ومشارك في المؤامرة بالرغم من الخطاب الوحدوي الظاهر على السطح والمجاملات البروتوكولية، ويعلمون أنه تجري عملية تدمير نصف الدول العربية بأموال نصفها الآخر ، كما نتفهم حرج الموقف وشدة الخطر بالنسبة لدول كالسعودية ومصر واليمن وغيرها ،حيث لا يمكن لهذه الدول تجاهل الخطر الذي يدق أبوابها بل ويتغلل في ربوعها ، وتفتح جبهة مع واشنطن وتل أبيب . لكن كنا ننتظر مزيدا من الاهتمام بالقضية الفلسطينية حيث كان التطرق لها في خطابات القادة سطحيا وجاء في آخر اهتماماتهم ، وكان اقصى ما توصلوا إليه هو التأكيد على المبادرة العربية للسلام ورفض إسرائيل لها ، مع انهم يدركون أن هذه المبادرة وبعد ثلاثة عشر عاما من قيامها باتت مُتَجاوزة ، ليس فقط لأن إسرائيل رفضتها ، بل لان تطورات الأمور في سوريا ولبنان يعطي إسرائيل مبررا لعدم تطبيقها رزمة واحدة ، ولأن العرب أصحاب المبادرة لم يفعلوا شيئا من أجل تطبيقها ، وبعضهم قفز على المبادرة ونسج علاقات قوية مع إسرائيل بحيث لم يعد الاعتراف والتطبيع العربي ورقة إغراء لإسرائيل لتنسحب من الأراضي العربية المحتلة .
إن أية محاولة لإحياء المشروع القومي العربي سيكون مآلها الفشل ، إن توقفت عند الاهتمامات والهواجس الأمنية لكل دولة عربية ، وتم تجاهل الخطر الصهيوني في فلسطين وفي المنطقة وكذلك السياسة الأمريكية التي إن لم تكن وراء كل ما يجري في العالم العربي فهي تغذي الحالة وتزيدها اشتعالا، والدولتان هما المستفيد الأول مما يجري ، حيث تعيش إسرائيل عصرها الذهبي بعد تدمير دول عربية كان من الممكن أن تشكل تهديدا استراتيجيا لها كالعراق وسوريا ، ومحاولة تدمير وإضعاف دول كبيرة أخرى كمصر والعربية السعودية ، أيضا واشنطن كرست هيمنتها على المنطقة العربية نتيجة هذه الحروب الأهلية ، وتوظف هذه الهيمنة وخصوصا على النفط لمقارعة ومحاربة خصومها السياسيين كروسيا الاتحادية ، دون أن تخسر واشنطن شيئا في هذه الحروب حيث يتم تدمير العرب بأموال عربية ، أو كما يقول المثل العربي ( من ذقن عبيد نفتل له قيد ) .
من المؤكد أن العرب بحاجة لأن يستعيدوا مشروعهم القومي النهضوي الذي تمت مصادرته ومحاولات تدميره وتخريبه من أطراف متعددة سواء من دول الجوار أو من واشنطن وتل أبيب ، ولا أحد اليوم ينازع مصر في القيام بهذه المهمة ، إلا أن استنهاض المشروع القومي العربي يتطلب بالإضافة إلى مواجهة التهديدات الأمنية وخصوصا من دول الجوار وأدواتهم في العالم العربي ، إلى استراتيجية عربية جديدة للتعامل مع القضية الفلسطينية ومع دولة الكيان الصهيوني ، وعدم الاكتفاء بالمبادرة العربية للسلام ، وإلى مقاربة جديدة للعلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية . في هذه النقطة يختلف الخطاب القومي الجديد مع الخطاب والمشروع القومي العربي الأول الذي كان يضع فلسطين في سلم اهتماماته لإدراك القائمين عليه ما تمثله إسرائيل من خطر على الأمة العربية ، ما زال قائما .
إن تباينا ، نرجو أن يكون مؤقتا ، في الأولويات أصبح واقعا ما بين الأنظمة العربية من جانب والفلسطينيين من جانب ثان ، ومع تفهمنا لموقف الدول العربية التي تضع الخطر المُهَدِد لوجودها وأمنها ومصالحها الوطنية على راس سلم اهتماماتها ، إلا أن علينا كفلسطينيين أن لا نحرف اتجاه البوصلة ونحافظ على أولوياتنا النضالية ، فعدونا الرئيس وهو الكيان الصهيوني . وفي هذا السياق نعبر عن رفضنا لما تفوهت به بعض الشخصيات الفلسطينية من دعوة لامتداد عمل (عاصفة الحزم) إلى فلسطين وتحديدا إلى غزة ، تحت مبرر ضرب كل جماعة تخرج عن الشرعية في العالم العربي ، لأن هذا القول خاطئ ويعبر عن قصر نظر ، لان مفهوم الشرعية في العالم العربي مفهوم ملتبس ، وفي الحالة الفلسطينية ومع تمسكنا بالشرعية الفلسطينية التي على رأسها الرئيس أبو مازن ومنظمة التحرير ، إلا أن مَن يخرج عن الشرعية الفلسطينية ويشكل خطرا وتهديدا لها ولكل الشعب الفلسطيني هو الكيان الصهيوني وليس حركة حماس ، بالرغم من كل خلافاتنا معها وتلمسنا لتهديدها للمشروع الوطني الفلسطيني وخصوصا إن استكملت مشروع دولة غزة الإسلامية.
إن مدخل جمهورية مصر العربية أو أية دولة عربية تزمع قيادة الأمة العربية يجب أن يكون القضية الفلسطينية ، ووجود الانقسام الفلسطيني ليس مبررا للتهرب من المسؤولية العربية عن القضية الفلسطينية ، لأن الانقسام بحد ذاته جرى ويتم تغذيته بأدوات عربية . كما يتطلب مشروع النهضة العربية نهضة اقتصادية ومشروع نهضة ثقافية وفكرية ، وأن يكون كل ذلك في إطار ممارسة ديمقراطية داخلية في كل قطر عربي ، وممارسة ديمقراطية داخل الجامعة العربية التي يجب أن تتحرر من بيروقراطيتها ، ومن هيمنة المال السياسي لبعض الدول العربية ، وهيمنة دولة المقر، وأن يتم إعادة النظر بميثاق الجامعة