نود بداية أن نجمل القول في معنى الثورة بعد أن شهد الوطن العربي "ثورات" متلاحقة في أكثر من قطر عربي في "الشرق الأوسط وشمال إفريقيا". وقد شهدت بعض الأقطار مثل مصر ثورات عدة أطاحت أولاها بمبارك، لتأتي بحكم انتقالي يؤدي إلى انتخابات ديمقراطية نزيهة وحرة تأتي بمرشح الإخوان محمد مرسي الذي أطاحت به ثورة أخرى تدخل الجيش مرة أخرى لإسنادها، وجاء إلى الحكم برجل الجيش عبد الفتاح السيسي الذي عانى من بعض التحديات والحراكات قبل أن يستتب له الأمر ويمدد حكمه إلى زمن يصعب أن يمتد إليه عمره البيولوجي المتوقع.
ينطبق على مصر المبدأ الشائع في السياسة المقارنة الذي يقول إنه "كلما بدا أن الأشياء تتغير كثيرا كلما كانت ثابتة جوهريا على نحو مذهل". من الواضح أن مصر لم تشهد أية ثورات، وإنما تم تغيير رأس النظام أو شخص الحاكم مثلما يحصل في الانتخابات الليبرالية في الولايات المتحدة حيث يتغير شخص الرئيس والحزب دوريا دون أن يتغير أي شيء يذكر في السياسة الأمريكية أو الطبقة السياسية/ الاقتصادية التي تتحكم بالبلاد. باختصار ما يحدث في أمريكا بفعل قواعد اللعبة السياسية المستقرة، يحصل عندنا بعد غليان اجتماعي واسع يوحي وكأننا في مواجهة لحظة تاريخية استثنائية تؤسس لعصر جديد مثلما فعلت الثورة الفرنسية أو الروسية أو الصينية عالمياً، أو الإيرانية في المستوى الإقليمي.
إذن ما حصل في مصر لم يكن ثورة، وإنما كان تمرداً "تائهاً" لم يتوافر له القيادة الكارزمية ولا الحزب الثوري ولا البرامج ولا النظريات ولا المثقفون ولا الفنانون… الخ. لذلك كان ذلك التمرد قادراً على تغيير رأس النظام دون المساس بالنخب المالية أو السياسية أو بنية المجتمع بأي شكل. وحتى ذلك الرأس لم يتعرض لأي سوء، وظل متمتعاً بالجاه والرفاه والثراء. الثورة لا تكتفي بتغيير قشرة النظام وإنما تعني تغييرا عميقا وجوهريا في الطبقة السياسية والنخب القيادية كلها. وقد يضع البعض شروطا من قبيل تلازم ذلك مع تغير عميق في البنية الاجتماعية والاقتصادية على السواء. وهذا يستدعي مثلما أوضحت ثيدا سكوكبول ثورات فرنسا القرن 18 وروسيا 1917 وإيران 1979. بالطبع يمكن لنا أن نعد ثورة ماو تسي تونغ ثورة اجتماعية كبرى، ولكنها تتخفى هناك في ظلال حرب التحرير التي خاضها الحزب الشيوعي ضد الاستعمار مما جعل الثورة الاجتماعية الشيوعية التي قادها الحزب تتماهى مع حرب التحرير.
إن أكثر ما يشبه الثورة الاجتماعية في البلاد العربية حتى اللحظة هو "ثورة" الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر في مصر سنة 1952 وثورة عبد الكريم قاسم في العراق سنة 1958. في هاتين الحالتين انتقلت السلطة سياسياً من يد شريحة نخبوية أو طبقية معينة إلى شريحة أخرى تختلف عنها جذرياً. كذلك وقعت إصلاحات اقتصادية "ثورية" طالت علاقات الإنتاج على نحو واضح. ومن الملاحظ أن هاتين "الثورتين" قد وقعتا ضد نظامين ملكيين فاشلين إلى حد كبير. لكن من واجبنا أن نسجل بدون تمويه أن الحالتين تشكلان تحركاً للجيش، وإن تكن بصمة الحزب الشيوعي واضحة في حالة العراق.
إذن حتى في هذه الحالات المضيئة لم تكن "الجماهير" التي تهتف باسم قناة "الجزيرة" ولا حزبها "نشطاء الفيس بوك" من أنجز الثورة، وكذلك لم يكن ما حصل نتاج نضال الحزب الشيوعي أو البعث أو القوميين العرب...الخ، ليس هناك من ثورة على طريقة الصين ولا إيران. ولم تنجح أية ثورة في البلدان العربية بالمعنى الدقيق لكلمة ثورة حتى اللحظة.
إن ما يجري في البلدان العربية يمثل حالة استعصاء "لا ثورية" من ناحية مبدئية، وسوف نحاول الآن أن نوضح بعضا من أهم السمات التي تشكل "رادعاً" للثورات في الوطن العربي.
1. الوطن العربي لم ينجز المواطنة بعد. وهذا في حد ذاته أمر خطير جدا على نحو لا يسعفنا الفكر السياسي في مواجهته. لهذا السبب ترتدي الصراعات الاجتماعية/ السياسية أشكالا لا تشبه ما يحدث في الدول القومية الحديثة التي يود الليبراليون العرب أن يفكروا أنهم يسيرون على هديها. سرعان ما تأخذ الصراعات عندنا طابعا مناطقيا/قبليا/دينيا/طائفيا/عشائريا/...الخ وحتى عندما ترفع شعارات من قبيل أن الوطن والشعب واحد (مثل سوريا في بدايات ربيعها المأساوي: واحد واحد واحد الشعب السوري واحد، أو شعار حراك لبنان: كلهن يعني كلهن)، فإننا نعلم أن ذلك الشعار إنما أتى ليفضح الحقيقة المرعبة القابعة وراء القشرة الرقيقة للصراخ: إن الشعب لا وجود له أبدا إلا في هذا الصراخ وسرعان ما سينكشف أن الناس موالية لدينها أو طائفتها أو منطقتها، وأن إمكانية تقسيم البلاد إلى دويلات جديدة أصغر من سايكس بيكو هي إمكانية حقيقية لا مراء فيها.
2. في هذا السياق تؤدي الانتخابات "النزيهة" في غالبية البلدان العربية إلى نتيجة غير ديمقراطية أبدا تتمثل في وصول حزب ديني سياسي (خصوصا الإخوان المسلمون) إلى السلطة علما أن هذه الأحزاب ترفض الديمقراطية بوصفها نظاما كافرا لا يتفق مع نظام الشورى أو الخلافة الإسلامي المعروف. وهذا يعني تناقضا مبدئيا في فكرة تطبيق الانتخابات الدورية طريقة للحكم. وعلى العموم اتضح من التجارب السابقة في مصر ومن قبلها الجزائر وكذلك في الأردن ومناطق السلطة الفلسطينية ...الخ أن النخبة الليبرالية الاقتصادية والسياسية التي نسميها مجازا "الطبقة البرجوازية" متحالفة مع الجيش لا تسمح لقوى الإسلام السياسي بالفوز في الانتخابات، وتنقلب على النتائج بأي شكل معرضة البلاد إلى حرب أهلية دموية مثل حالة الجزائر أو صراع أهلي عنيف ولكن أقل اتساعاً مثل حالة مصر ومناطق السلطة. يغيب بالطبع عن الليبراليين العرب أن الديمقراطية هي تداول السلطة في داخل طبقة سياسية متجانسة تقريباً بحيث أن الاختلافات بين ممثليها لا تؤدي إلى تقويض الأوضاع القائمة أو تهديدها جذرياً. وربما يجدر بنا أن نذكر هؤلاء بأن تهديد الحزب الشيوعي بالوصول إلى السلطة في ألمانيا قد جلب النازية فوراً وبدعم سخي من الصناعات الألمانية. أما تهديد الحزب الشيوعي بالوصول إلى السلطة في فرنسا فقد استدعى تدخل المال السعودي والخبرات الأمريكية والألمانية والإنجليزية من أجل منع ذلك. وفي الهند استدعى فوز الشيوعيين بالحكم في ولاية كاريلا تدخل "الجيش الفيدرالي" و"احتلاله" للولاية واعتقال الحكومة المنتخبة على غرار ما حصل في مناطق السلطة عندما فازت حماس بالانتخابات سنة 2006 فتم اعتقال نواب المجلس التشريعي من "جماعتها".
3. ليس من حل جاهز لتوليد المواطنة القومية العلمانية التي تشكل الشرط الضروري للديمقراطية الليبرالية المعروفة في غرب أوروبا وشمال أمريكا. ويبدو جليا أن الدولة القومية العلمانية في سوريا منذ العام 1965 وكذلك الدولة العراقية بقيادة قاسم ثم حزب البعث ذاته، وكذلك دولة مصر بقيادة ناصر وخلفائه قد فشلت جميعاً في تأسيس الهوية القومية العلمانية، وظل السكان منقسمين إلى انتماءات وولاءات فوق قومية (دينية) أو تحت قومية قبلية مناطقية وإثنية. وهذا ما أهدر جهود الدولة طوال الوقت في محاولات يائسة من أجل إثبات المشروعية في مواجهة التهديدات بدولة الدين التي تجعل عيون نصف الشعب تتطلع إلى استانبول من أجل إعادة حكم الخلافة، بينما النصف الآخر يتطلع إلى الانفصال وتكوين دول جديدة على أساس إثني أو طائفي مثلما حصل مع السودان في السنوات الأخيرة، ويكاد يحصل مع العراق وسوريا وشمال أفريقيا ...الخ. الدولة العربية الإقليمية كانت طوال الوقت تصارع وجوديا، وهذا ينطبق على لبنان الذي يبدو أشبه بسفينة تسير على غير هدى يكره ركابها بعضهم بعضا ولكنهم مضطرون أن يعيشوا حتى انتهاء الرحلة التي لا يعلم أحد متى تنتهي بسبب عدم وضوح الاتجاه وبعد المسافة عن اليابسة.
4. لكن الولايات المتحدة دولة فسيفسائية سكانها يمثلون الطيف البشري كله من حيث الأعراق والأجناس والألوان والديانات والمذاهب. ولكنها لا تعاني من نزعات انفصالية أو أية تهديدات لمشروعية الدولة. بل إن إسرائيل المصطنعة الصغيرة لا تعاني من أية مشاكل وجودية من ناحية تكوينها الداخلي. إذن لماذا كان العرب هم الذين "يتمتعون" بهذه القدرة الغريبة على عدم الولاء أو على الفشل في تحقيق الاستقرار السياسي لوجود الجماعة البشرية التي نسميها الأمة أو الشعب؟ تعرفون بالطبع أن عبارة من نوع:"إن قدم مسلم في أفغانستان أحب إلى من أحسن مسيحي في رام الله"، هي عبارة ممكنة تماماً في وسط جماعات الإسلام السياسي الفلسطينية، وهو ما يعني أن الولاء والانتماء ديني من ناحية أساسية. وإذا كان ذلك صحيحاً فإن المسيحي المصري هو شخص غريب مئة في المئة. بالطبع ليس لهذه الحالة من مثيل في أي بلاد من بلاد الدنيا الحداثية التي يحاول الليبراليون العرب عبثاً أن يتماهوا معها.
5. لعل تفسير النقطة أعلاه هو أن الرأسمالية الصناعية تنجح على ما يبدو في دمج السكان ومجانستهم وتحويلهم إلى أمة منتمية موحدة بما يجعل الانتماء للأمة والدولة الولاء الأهم بالنسبة للفرنسي أو الأمريكي او الإسرائيلي. ولا تنجح الرأسمالية الكمبرادورية في بلادنا في هذه المهمة أبداً. ويبدو أن التقسيمات الاجتماعية ما قبل العصر الحديث تظل قائمة بقوة وأحياناً بعنف جنوني يتجاوز الماضي القروسطي نفسه.
6. ارتباطاً بالنقطة السابقة يظل الاقتصاد نفسه هو المرجعية التي تفسر هذا التكلس الاجتماعي/السياسي/الحضاري. بمعنى إن فشل النخب في البلدان العربية في سياق تبعيتها لمركز النظام العالمي في اجتراح معجزة التصنيع والإقلاع العلمي قد أوجب على هذه النخب بالذات أن تحقق الثراء عن طريق غير منتج يتسم بالفساد بدون شك. كيف يمكن في بلاد ريعية مثل السعودية أو مناطق السلطة أو خالية من الإنتاج الصناعي والزراعي الجدي مثل مصر ولبنان أن يكون هناك طبقة من الأثرياء القادمين من حقل الإنتاج الصناعي أو الزراعي؟ لا بد من أن تتشكل الثروة للنخب عن طريق التلاعب بالدولة ومقدراتها والشعب وقوته ...الخ وهذا ما يحصل في بلاد العرب المختلفة.
خلاصة:
لا بد للقوى الثورية أو القوى الطامحة إلى التغيير إذن من إدراك أن فك الارتباط بالنظام العالمي والعمل الدؤوب من أجل بناء المواطنة العربية الخالصة والمتماسكة والنضال من أجل نهضة الإنتاج الزراعي والصناعي ومقاومة نزعات الاستهلاك الذي تقوده طبقات فاسدة مع نزعة صارمة لنقد السماء والأرض على حد سواء، هي خطوط أساسية لرسم خريطة المستقبل بدون أن تضيع الجماهير وسط الزعيق وتفقد اتجاه البوصلة الذي يحدد معالم الطريق.