ضجت مواقع التواصل الاجتماعي في فلسطين على مدار أيامٍ خلت بموضوع غلاء الأسعار، وأضحى موضوع الأسعار وارتفاعها الشغل الشاغل للشارع الفلسطيني، وبلغ الأمر تدخل المستوى السياسي، فأصدر الرئيس "أبو مازن" تعليماته لكل من وزارة الاقتصاد الوطني وجمعية حماية المستهلك وكافة الجهات ذات الصلة بضرورة ضبط الأسعار وسبل معالجتها.
وكعادة مواقع التواصل الاجتماعي في فلسطين اختلطت الحقيقة مع الإشاعة، مع المبالغة، مع الفكاهة، في تناول قضية غلاء الأسعار، وتحّول الأمر إلى متتالية رياضية، وتفاعل متسلسل، فأضحت كل جهة تعلن عن أسعارها الجديدة، بمعزل عن طبيعة منتجاتها أو خدماتها، أو حتى بمدى تأثرها برفع الأسعار عالميا أو محليا. وفي خضم "فوضى غلاء الأسعار"، وتسابق مقدمي الخدمات والتجار في الإعلان عن رفع الأسعار أو نيتهم رفع الأسعار، وفي ظل تباطؤ عمل الجهات ذات الصلة في تبيان الحقيقة للمواطن، يطفو على السطح السؤال الرئيس التالي: هل غلاء الأسعار حقيقي؟ أم هو نتاج جشع رؤوس الأموال؟
وللإجابة العلمية على هذا السؤال، والمبنية على حقائق وبيانات موثقة، لا بدّ من مراجعة سريعة للاقتصاد العالمي في ظل جائحة كورونا وبعدها، فمن المعلوم أن الجائحة صدمت العالم مطلع العام 2020، واتخذت معظم دول العالم إجراءات مشددة تضمنت حالات اغلاق مشددة وطويلة للمرافق كافّة، وشلل للحياة العامة، الأمر الذي خلّف تباطؤ في عمليات الإنتاج، وانخفاض الطلب على المنتجات بأشكالها كافّة، وشلل في عمليات الاستيراد والتصدير.
ومع انقشاع غيوم جائحة كورونا السوداء، وتراجع أعداد الإصابات والوفيات، وعودة عجلة الاقتصاد للدوران، وإطلاق دول العالم لرزم التحفيز الاقتصادي، أضحى الطلب على المنتجات مرتفع، وأكبر من الطاقة الإنتاجية لمؤسسات الإنتاج، كما عانت "سلاسل التوريد العالمية" من اختناقات، إن كان على صعيد النقل البحري أو حتى الجوي، ومن المعلوم أنه في حال ارتفع الطلب عن العرض، فإن الأسعار ترتفع، كما أن تكاليف الشحن ارتفعت وبشكل كبير خاصة من الدول المصدرة للمنتجات كالصين، بسبب "اختناقات سلاسل التوريد"، كما ارتفع سعر البترول لأعلى مستوياته منذ 7 سنوات لذات الأسباب، وخاصة الطلب المرتفع على مصادر الطاقة في ظل الانتعاش الاقتصادي العالمي، ورزم التحفيز الاقتصادية.
وبالتالي فإنه من المنطقي والطبيعي ارتقاع الأسعار لبعض السلع والمنتجات، وخاصة ارتفاع بعض السلع عالميا مثل البترول ومشتقاته، وفرض بعض الدول لرسوم إضافية على منتجاتها، وارتفاع تكلفة الشحن، عدا عن آثار الحرب الاقتصادية الناعمة ما بين الولايات المتحدة الامريكية والصين.
ولكن كل ما سبق لا يبرر الارتفاع "غير المنطقي" في أسعار المنتجات في فلسطين، بل الأدهى من ذلك "تهافت" و"تسابق" بعض مقدمي الخدمات على رفع أسعار "خدماتهم" رغم انهم يقدمون "خدمات لا سلع ومنتجات مستوردة"، ومثال ذلك "محاولة" شركات التأمين لرفع رسوم التأمين تماهيا مع حالة "فوضى غلاء الأسعار"، وغيرها من القطاعات، وعلى الرغم من كون المصفوفة الاقتصادية مترابطة، ولكن ليس بالشكل الذي يؤثر بشكل جوهري على مقدي الخدمات لرفع الأسعار بنسب مرتفعة. كذلك فإن ارتفاع أسعار بعض المنتجات عالميا قابله انخفاض حاد لسعر صرف الدولار مقابل الشيكل والذي بلغ أدنى مستوياته على مدار سنوات طويلة، وكسر حاجز 3.15، وكذا الامر لليورو الأوروبي مقابل الشيكل، ومن المعلوم أن تكاليف الاستيراد والشحن تكون بشكل رئيس بعملة الدولار، وبيع تلك السلع بعملة الشيكل، الأمر الذي يحقق أرباحا إضافية لرؤوس الأموال، ويردم من فجوة ارتفاع الأسعار عالميا، ويخفف من وطأتها.
وخلاصة ما سبق، إن غلاء الأـسعار غير مبني على ارتفاع حقيقي لأسعار "كافّة المنتجات" عالميا، ولا يتناسب مع نسب ارتفاع اسعار تلك المنتجات عالميا، وإنما جزء كبير منه مبني على جشع رؤوس الأموال، ومحاولاتهم تعويض حالة الركود الاقتصادي في ظل جائحة كورونا على حساب المستهلك.
ومن أجل كبح جماح كرة ثلج غلاء الأسعار المتدحرجة في فلسطين، يوجد واجب رئيس مُلقى على كاهل الحكومة وجهات الاختصاص فيها مثل: وزارة الاقتصاد الوطني، وحتى الأجهزة الأمنية ذات الصلة، والتي تتضمن مهامها الحفاظ على الأمن الاقتصادي، أن تعمل على مراقبة وضبط الأسعار في فلسطين، فصحيح أن القانون الأساسي الفلسطيني نص في المادة رقم (21) على أن النظام الاقتصادي في فلسطين يقوم على أساس مبادئ الاقتصاد الحر، ولكن هذا لا يمنع من تدخل حكومي على أكثر من مستوى لحماية المنظومة الاقتصادية الاجتماعية في فلسطين، خاصّة وأننا ما زلنا تحت نعيش في ظل حالة الطوارئ، بحيث تتضمن تلك الإجراءات محاسبة ومعاقبة جشع رؤوس الأموال بلا هوادة، وفي ذات الوقت إقرار سياسات لدعم السلع الأساسية التي ارتفعت أسعارها عالميا، من خلال تخفيض الضرائب عليها، وإعفاء جزء منها من ضريبة القيمة المضافة، خاصّة وانه لا يوجد قانون في فلسطين لضريبة القيمة المضافة وانما تعليمات من زمن الحكم العسكري الإسرائيلي، وبقايا برتوكول باريس الاقتصادي. وربما في قرار وزارة المالية بعدم رفع أسعار مشتقات البترول في شهر تشرين ثاني/ نوفمبر الحالي، رغم ارتفاع الأسعار عالميا، سابقة إيجابية يمكن البناء عليها، في دعم السلع الأساسية من أجل توفيرها بأسعار معقولة خاصة للفئات الفقيرة والمهمشة، وتوفير الأمن الغذائي للفقراء، وتعزيز لمنظومة العدالة الاجتماعية في فلسطين.