الاحتلال يُوظف كل أجهزته الأمنية والمدنية وجمعياته التلمودية والتوراتية والاستيطانية في الحرب الشاملة التي يشنها على المقدسيين بلا توقف، وهذه الحروب تقوم على أساس إدخال المقدسيين في أزمات متلاحقة ومتوالية أو متزامنة، بهدف كسر إرادتهم وتحطيم معنوياتهم واضعاف مقاومتهم ومناعتهم الداخلية وتشتيت جهودهم ودفعهم إلى خانات الاستسلام والتسليم بشروطه وإملاءاته... حروب من أجل تهويد المقابر، حروب من أجل زيادة الاستيطان وتكثيف وتائره، حروب تشمل استهداف الحجر بالهدم والطرد والتشريد للسكان، وحروب من أجل الاقتلاع والتهجير القسري ضمن ما يعرف بسياسة التطهير العرقي... وحروب من أجل تهويد المسجد الأقصى وفرض تقسيم مكاني فيه يمهد لتأسيس ما يسمى بالهيكل المزعوم.
نبدأ بالحرب على المقابر، فالاحتلال لا يقيم وزناً ولا اعتباراً لمقابرنا ولا جثث ورفاة موتانا، حيث النبش والجرف والتجريف لعظام الموتى بما فيهم صحابة وعلماء وشهداء ومجاهدين، وخير دليل على ذلك، إزالة مقبرة "القسام" في حيفا ومقبرة "عنابة" في الرملة والاعتداء على مقبرة "الإسعاف" في يافا، والأخطر ما جرى ويجري بحق مقابر مدينة القدس ، فمقبرة "مأمن الله" ، أكبر المقابر الإسلامية، والتي كانت مساحتها تزيد عن 200 دونم، لم يتبق منها سوى 10 دونمات، وتعرضت قبورها للنبش وجثث موتاها للتجريف، حيث أقيم عليها مواقف للسيارات ومتحف "التسامح" وحدائق "وطنية" وحديقة "الاستقلال"، أما مقبرة باب الرحمة، فقد جرى مصادرة جزء منها في إطار مخطط السيطرة على مصلى باب الرحمة والقصور الأموية، وصولاً إلى ساحة حائط البراق، حيث الأرض المصادرة عدا عن كونها ستكون ضمن المسارات التلمودية، فهي مخصصة من أجل حفر قواعد خرسانية ل 13 عامودا، بارتفاع 26 متراً لكل عمود، أعلى من سور القدس، تطل على الأقصى وتراقب كل حركة فيه، ناهيك عن كونها ستشكل "حوامل" لمحطات القطار الطائر "التلفريك" الذي سيجلب المصلين من الجماعات التلمودية والتوراتية والزوار الأجانب إلى ساحة البراق.
في حين نجد بأن ما جرى في مقبرة "اليوسفية" التاريخية، هو الأخطر، ليس لجهة محاولة طمس كل معالم الوجود العربي – الإسلامي- المسيحي ولا إخفاء وتدمير كل ما له علاقة بالأثار والتراث العربي الإسلامي، فالجزء المسيطر عليه من المقبرة، والذي جرى فيه تسييج قطعة أرض مساحتها أربعة دونمات و 700 متر، بعد الاعتداء على القبور الموجودة فيها بالنبش والتجريف، فالهدف من السيطرة على هذا الجزء أبعد من إقامة حديقة ومسارات تلمودية توراتية، ومدرجات للإطلالة على جبل الطور، بل هناك مخطط استيطاني يجري التخطيط له على شكل هرم، يمتد من المتحف الفلسطيني مروراً ب "الحسبة" في طلعة واد الجوز، والسيطرة على الأراضي الوقفية الإسلامية – المسيحية هناك، وكذلك مصادرة قطعة الأرض التي تخص عائلات حمد وعطالله وعويس المعروفة بسوق الجمعة... وليشكل هذا المشروع الاستيطاني حزام استيطاني حول البلدة القديمة وطوق حول سور القدس، فهذا المشروع سيتجه نحو البلدة القديمة من جهة باب الرحمة للسيطرة على منطقة "برج اللقلق" التي فشل الاحتلال في السيطرة عليها عام 1996.
أما في إطار الطرد والتهجير والاقتلاع وضمن ما يعرف بسياسة التطهير العرقي، تواجه العديد من الأحياء المقدسية، خطر الاقتلاع والتهجير القسري، حيث هذا الخطر يتهدد ستة أحياء في سلوان "البستان" و"بطن الهوى" و" واد ياصول" و"واد الربابة" و"واد حلوة" و "عين اللوزة"، و"حي الأشقرية" في بيت حنينا، والمعركة المفتوحة الآن في منطقة حي الشيخ جراح، حيث تشتد الهجمة على سكان الحي، بعد رفضهم لمقترح " التسوية" المقدم من محكمة " العدل" العليا الإسرائيلية، والذي يحولهم إلى مستأجرين محميين عند شركة "نحلات شمعون" الإستيطانية، والتي حتى رغم كل شروط التسوية المقترحة المجفة رفضتها، حيث ترفض اعتبار عائلة اسكافي محمية، والحماية لعائلات الدجاني والقاسم والكرد، تكون باعتبار المحميين منهم، هم الجيل الثاني، وليس الأول، واعتراف السكان لهم بملكيتهم للأرض، ورفض أن تكون الحماية 15 عاماً.
من بعد اتخاذ القرار من قبل سكان حي الشيخ جراح برفض مقترح " التسوية" استعرت الحرب الإحتلالية عليهم، حيث جرى مصادرة قطعة أرض ملاصقة لمنازلهم، تخص عائلات عبيدات وعودة ومنصور وجار الله مساحتها 4700متر، تحت نفس الذرائع، تحويلها إلى حديقة "وطنية"، والصحيح تحويلها إلى موقف لسيارات وحافلات المستوطنين والمتطرفين القادمين الى حي الشيخ جراح، ولم يكتف المحتل بإرسال المستوطنين والمتطرفين لإزعاج سكان الحي وإطلاق وترديد الشعارات العنصرية بحقهم، بل في القسم الغربي من الحي، وبالتحديد في "كبانية أم هارون"، أبلغت محكمة "العدل" العليا الصهيونية سبع عائلات هناك ، عائلات غزاوي والخطيب والبشيتي وأبو دولة وشريتح، بضرورة اخلاء منازلهم، تحت ذريعة أنها مسجلة في " الطابو" باسم شركة استيطانية تدعى "فلبين اينك"... ومن ثم صدر قرار آخر بمصادرة قطعة أرض هناك بالقرب من مؤسسة التأمين "الوطني" الإسرائيلية وتحويلها لموقف للسيارات، وكذلك نشر موقع " كيباه" العبري، بأنه ردا على قرار سكان حي الشيخ جراح برفض مقترح التسوية، سيتم إقامة روضة للأطفال اليهود في تلك المنطقة.
أما فيما يخص الحرب على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس، وفي المقدمة منها المسجد الأقصى، حيث ترتفع وتيرة الاقتحامات اليومية وتزداد، ولم تعد تقتصر بشكلها الواسع فيما يعرف ب" ذكرى خراب الهيكل" ويوم " توحيد" القدس، وعيد الفصح اليهودي والأعياد اليهودية من رأس السنة ويوم" الغفران" وعيد العرش وغيرها، بل أصبحت تلك الاقتحامات تجري على مدار الساعة، بزيادة ساعات الاقتحام الصباحية والمسائية، ولتصل الأمور حد التحضير لما يعرف بتأسيس الهيكل، أي أداء صلوات تلمودية وتوراتية صامتة في ساحات الأقصى وما يرافقها من إقامة الشعائر والطقوس التلمودية معنوياً وعبادة مثل "النفخ في البوق" وما يعرف بالسجود الملحمي، انبطاح المستوطنين على وجوههم، وهذا أعلى درجات الطقوس التلمودية والتوراتية، وغيرها من الشعائر الأخرى.
هذا جزء بسيط من الحرب المستعرة على القدس والمقدسيين، هذه الحرب التي تحتاج مواجهتا إلى رسم معالم رؤيا واضحة واستراتيجية موحدة وإمكانيات مالية ضخمة، وكذلك موقف سياسي واضح ونافر وليس التلعثم ولغة الهروب إلى الأمام، كما حصل فيما يتعلق بالموقف من مقترح التسوية المطروح من قبل محكمة "العدل" العليا الإسرائيلية، حتى آخر لحظة "نقبل بما يقبل به" سكان حي الشيخ جراح، وليحسم الموقف في النهاية بالرفض لمقترح التسوية من قبل المستوى السياسي الفلسطيني.
المجابهة والمواجهة والتصدي وصولاً إلى إفشال كل المشاريع والمخططات الاحتلالية الاستيطانية الاقتلاعية والتهويدية، يحتاج إلى خوض معركة مع المحتل على كل الجبهات، شعبياً وسياسيا وحقوقياً ومؤسساتياً، والمجابهة يجب أن لا تقتصر على سكان القدس وأهلنا وشعبنا في الداخل الفلسطيني- 48 -،بل يجب أن تكون شاملة فلسطينية –عربية إسلامية، ويشارك فيها كل أحرار العالم ومناصري الشعوب المحتلة والمضطهدة.
مجابهة تحتاج الى توحد والى قيادة سياسية مالكة لقرارها وإرادتها، قيادة ترتقي الى مستوى التحديات والمخاطر، قيادة تعبر عن هموم ونبض الجماهير، وتتبنى قضاياها، لا قيادة تدير ظهرها للجماهير وترهن حقوق شعبها " للتجريب" وحسن النوايا، وتبدل الحكومات الإسرائيلية والإدارات الأمريكية.
نعم المرجل المقدسي يغلي... وكل ما يقوم به المحتل من قمع وتنكيل وعبث وعدوان سافر على كل الوجود الفلسطيني المقدسي وتجلياته.. يؤكد بأن الانفجار في القدس قادم، انفجار أشد وأوسع من الانفجار الذي حصل في نيسان الماضي وما تبع ذلك من معركة "سيف القدس"... انفجار قد تمتد نتائجه وتداعياته الى ما هو أبعد من فلسطين ليشمل المنطقة والإقليم.