يميل الكثير من الباحثين إلى أن المعلمين محافظين جدا في تقبل مهارات التفكير في عملية التعليم او تبنيها، ولكن من الملاحظ أن المعلمات والمعلمين على الرغم من ذلك، استطاعوا ان يتلمسوا تحسنا واضحا في مقدرتهم على التعاطي مع جو التفكير عندما تلقوا تدريبا مناسبا. وقد بينت بعض الدراسات ان الجو في غرفة الصف قد تغير باتجاه المزيد من النقاش، كما ان المدرس قد اصبح اكثر قدرة على طرح الاسئلة المفتوحة، والاسئلة المركزة، التي تتطلب ان يتوقف الطالب ويتريث قبل ان يجيب. وقد وصل تطور بعض المدرسين حدا توقفوا معه عن توقع اجابة محددة للسوال المطروح، وذلك يعني انهم قد استدخلوا بالفعل انه لا يوجد اجابة مضمونة للكثير من الاسئلة. وقد انعكس ذلك بطبيعة الحال ثقة لدى الطلبة في البحث عن الاجابات بسبب غياب التوقع ان المعلم يمتلك في النهاية الحل السحري للاسئلة كلها . وقد وجد المعلم نفسه في وضع جديد صعب ومعقد يتطلب منه "ان يفكر قبل طرح اي سؤال عن الهدف منه". فقد اصبح المطلوب ان يتوجه السؤال ناحية بناء مفهوم معين او استثارة عملية فكرية ما، وتوقف المدرس عن طرح الاسئلة التي تستدعي اجابة واحدة محفوظة. وفي هذا السياق ابدى الكثير من مدرسي الاطفال الدهشة من الاستماع الى اجابات الاطفال الغريبة وغير متوقعة. ومن المدهش ان التعليم في سياق عمليات التفكير قد زاد بشكل غريب من تقدير المعلم لنفسه، وفي الوقت نفسه من تقديره للتلاميذ، وما يمكن ان يكون لديهم من قدرات مستترة على التفكير. وقد اصبح المعلم اكثر قدرة على "التعلم " من تلاميذه وعنهم مثلما اصبح جو الحصة اكثر حماسة ومتعة ومشاركة من الجميع .
وقد واجه الباحثون ظاهرة ليست بالمحدودة تتمثل في عدم قدرة قطاع واسع من المعلمين على التحول نحو تعليم مهارات التفكير . ولعل مثل هذه النقطة ان تضيء لنا صعوبة تتصل بمعلمي بلادنا الذين تم تدريبهم على مهارات الحفظ الصم مع قليل من الفهم او دون فهم معظم الوقت تقريبا . وهو ما يعني ان عبئا ضخما سيقع على الجهات التي تنوي النهوض بواقع تعليم التفكير والتعليم المعتمد على التفكير في سياق يفتقر فيه المدرس والتربوي الى الخبرة والتجربة والمراس المتصل بها . ان تعليما استقصائيا يوظف مهارات التفكير البحثية والمنطقية معا هو امر صعب بالفعل عندما يدور الكلام عن تطبيق جدي لهذا المنحى . وقد وجدت الدراسات ان هناك حاجة فعلية الى التعاون بين الباحث والمدرس من اجل تذليل العقبات الكاداء التي تواجه المعلم في سياق تعليم التفكير وتعلمه وتطبيقه في السياقات المختلفة بما في ذلك سياق تدريس محتوى معين.
يمكن القول ان المعلمين في نهاية المطاف هم الجهة التي ستغير عالم المدرسة عن طريق فهمه . ولا مناص من الاقرار بانه بدون معلم باحث مستدخل لمهارات التفكير العليا يغدو اي امل في تعديل اوضاع المدارس وهم لا اكثر . ولا بد من اجل اغناء دور المدرس من ادخال عملية التفكير في المنهج كله . ومن اجل المعلم والطالب لا بد من منهج يثير النزعة الاستقصائية لدى المدرس مثلما الطالب، وبهذا المعنى يصبح الطرفان شريكين في عملية التقصي وما يلزمها من مهارات تفكير عالية ومتداخلة من اجل البحث عن اجابات للاسئلة المطروحة . والواقع ان باحثا مشرقيا من ايران اسمه طيبي فاني يوضح ان تعليم التفكير الناقد مثلا هو امر ليس باليسير، ويشير الى عدد من الصعوبات التي تكتنف ذلك، والمتصلة بصعوبة مهارات التفكير الناقد الذي يعرفه صاحب الدراسة انطلاقا من تركيب مجموعة من التقاليد بانه مهارات المنطق مضافا اليها مجموعة من الممارسات الاخرى. وبايجاز يقول المولف ان التفكير الناقد هو "سيرورة من تقييم الادلة فيما يخص اطروحة ما، بغرض تقرير ما اذا كانت النتائج المقترحة لزمت لزوماً فعليا عن الادلة، مع اقتراح تفسيرات بديلة. ويتمتع المفكر الناقد بذهن متفتح، واتجاه للتسامح مع الغموض، مع نزعة عميقة للشك والتساؤل. ويجمع الباحثون على ان الغاية الاساس من التفكير الناقد هي تحضير المواطن لفهم الحجج المعقدة التي تكتنف القضايا الراهنة وتقييمها. ومن هنا جاء تعريف روبرت انس للتفكير الناقد بانه تفكير متعقل ومتامل يركز على ما يجب عمله او ما يمكن الاعتقاد بصحته. وفي موتمر دلفي في العام 1990 قرر ثلاثون خبيرا مجموعة مهارات اساس تشكل في رايهم جوهر التفكير الناقد، ويسود اتجاه عام يميل الى تبنيها حتى اللحظة. وهذه المهارات تتلخص كما يلي :
التفسير : وهو القدرة على فهم المعلومات .
التحليل :وهو القدرة على تحديد الحجج والبراهين الرئيسة .
التقييم : وهو القدرة على الحكم فيما اذا كانت الحجج صحيحة انطلاقا من المنطق والادلة المعطاة .
الاستدلال : وهو القدرة على التوصل الى الاحكام والقناعات انطلاقا من قواعد المنطق مع فهم السياقات المختلفة للقرار .
التوضيح : وهو القدرة على ايصال عناصر عملية الاستدلال الى الاخرين.
التنظيم الذاتي : وهو القدرة على مراقبة تفكير الشخص ذاته وتصويب هفواته وعيوبه المنطقية .
حب الاستطلاع : اهتمام الشخص بان يظل دائما على اطلاع عما يدور حوله .
طلب الحقيقة : مع التركيز على مواجهة اهواء الشخص وميوله عندما تجافي واقع الادلة.
الثقة العلمية بالذات: وتتلخص في ثقة الشخص بقدرته على التفكير والمحاجاة والاستدلال .
التفتح الذهني : ويتمثل في المرونة في التعاطي مع وجهات النظر البديلة والمختلفة والمناقضة .
النسقية : ويتمثل في التفكير النظامي الذي يتبع اتجاها خطيا .
النضج المعرفي : ويتمثل في كون الشخص مثابرا على طلب المعرفة والحقيقة .
ويضيف البعض اليها البعد الاخلاقي الذي اغفله لقاء دلفي .
ومن اهم الامور التي يسجلها المؤلف الإيراني بوصفها عقبات في طريق تملك مهارات التفكير الناقد تلك المتصلة بان التفكير الناقد يهدد امان الفرد والمجتمع المنبثق من اعتياد مسلمات وممارسات معينة نابعة من تقاليد المجتمع واعرافه ومعتقداته وممارساته الشائعة. والواقع ان الاشخاص الجاهزين لتعريض افكارهم ومتعقادتهم وطريقة تفكيرهم للتساؤلات النقدية هم نادرون بالفعل في المجتمعات كلها . وربما ينطبق ذلك على المجتمع العربي بعامة والفلسطيني بخاصة اكثر من المجتمعات الحداثية في شمال العالم . كذلك يسجل الباحث عقبة قد تكون في بلادنا اكبر بكثير مما هي عندهم، وان كان ينظر اليها باستهانة في سياقنا المجتمعي. تلكم هي نقص المعلمين والمدربين على مهارات التفكير الناقد. وفي سياقنا الاجتماعي بوسع المرء القول دون خشية الوقوع في اغلوطة المبالغة او التعميم ان جميع المعلمين لم على وجه التقريب لم يتلقوا التدريب على مهارات التفكير ايا كان شكلها. بل ان المعلم في المتوسط يعاني من الاحباط ونقص المحفزات بدرجة تضعف لديه الرغبة الاساسية في المعرفة. وفي هذا السياق اذكر انني منذ اشهر قليلة كنت اقرا اسم احدى المدارس فوجدت انه يعاني من خطا نحوي كونه يفصل المضاف عن المضاف اليه "روضة ومدرسة ع" وعندما سالت مداعبا عن سبب وجود خطا في اسم المدرسة، نادت مديرة المدرسة معلمات اللغة العربية الثلاث، ولكن ايا منهن لم تنجح في فك اللغز. وفي اليوم التالي لم يكن لديهن اجابة، وفي الاسابيع التالية دأبت بين الفينة والاخرى على اثارة الموضوع دون جدوى. لقد بدا ان المعلمات يفتقرن الى اي دافع للاطلاع والمعرفة حتى عندما يرافق الموقف الضغط والتخجيل النابع من احد اولياء الامور يمكن ان ياخذ انطباعا فحواه ان المدرسة ضعيفة اكاديميا، وهو ما قد يؤدي الى خسارة المدرسة الخاصة ماديا ومعنويا. ومن الواضح اننا في مثل هذه المدرسة لا يمكن ان نطمح الى اي من ممارسات التفكير.
هناك أيضاً أكوام من الصعوبات التي لا يستهان بها وتتصل بقصور المحتوى والمنهج والامتحانات التي تعجز تماما عم ملامسة طرق قياس مهارات التفكير عبر الاسئلة المباشرة واسئلة المعلومات من قبيل ضع دائرة وما اشبه. ولذلك لا بد من تطوير ذلك النظام ليسمح باستجابات من قبل الطلبة تقيس استجاباتهم التلقائية التي تكشف عن تمثلهم لمهارات التفكير في سياق تقدمهم نحو صياغة اجابة للتساؤل او القضية المطروحة عليهم في الامتحان. ويتحفظ الباحث فاني على المبالغة في توقع الكثير من المعلمين مبينا ان الأمر يتطلب معرفة المعلمين جميعا بمهارات التفكير، وهو ما يتطلب اعداد مساقات عديدة ومكلفة بغرض تدريب المعلمين اثناء الخدمة مع النهوض بواقع التعليم الجامعي. ونستطيع ان نوكد في هذا السياق ان البناء في بلادنا يحتاج الى ما يشبة المعجزة لانه يتطلب تعاضد جهات تعليمية متعددة من قبيل السلطة ووكالة الغوث والمدارس الخاصة باداراتها واشكالها المختلفة، ناهيك عن الجامعات ومؤسسات المجمتع المدني التي تنصب نفسها عن حق او من غير حق وصية على التفكير وتدريباته في سياق تلقيها الاموال من الخارج بغرض القيام بتدريب هنا واخر هناك، دون ان يبدو ان لدى اي منها تصورا عما يفعله على وجه الدقة، أو مدى انسجامه أو تكامله مع جهود الآخرين.
ويلاحظ الباحث الإيراني فاني ان هناك ميزة رائعة لتدريب الصغار على مهارات التفكير الناقد، وتلكم هي ان الطفل اذا تمكن بالفعل من الأساسيات النقدية، فانها تغدو جزءا تلقائيا من نشاطه الذهني والفكري بحيث تصبح هي نمط تفكيره العادي وليس شيئا يستدعيه من الخارج من اجل مناسبة معينة. وهناك بالطبع مستويات متعددة لممارسة التفكير الناقد وغيره تبدا من الوصف الاحادي الدقيق، الى مستوى طرح البدائل والحجج البسيطة ثم تحليل الاساس، ثم الاستدلال النظري واخيرا الاستدلال التجريبي مع ادماج القيم مع التحليل . ولعل من المهم ان يتم توجيه المعلمين الى استعداد الاطفال الواقعي لاكتساب مهارات التفكير. بل انهم احيانا يمتلكون ما يمكن وصفه مع بعض التجوز بمهارات فطرية. اذكر انني كنت اقوم بتنظيف سيارتي امام المنزل عندما مر احد لجيران وطرح علي التحية الصباح، فسالني ابني البالغ من العمر اربع سنوات "لماذا قلت له صباح النور" فاجبت بعد بعض التفكير "لانه جارنا"، فرد علي بجدية بالغة "لا لانه قال لك صباح الخير". وقد اسقط في يدي بسبب دقة تفسيره ونقديته ومنطقيته معا. ولعل في حياة كل منا العديد من الوقائع من عالم الاطفال التي تدهش المرء من ناحية تدليلها على قدرة الاطفال المبدئية على التفكير بشكل ناقد ومنطقي مما يثبت استعدادهم لتعلم مهارات التفكير المتقدمة في حال توافر السياق والفرصة الملائمة لذلك.