لا شك أن قرار وزيرة داخلية بريطانيا تصنيف حركة حماس بالإرهابية، يحمل في ثناياه بصمات اسرائيلية، وجاء منسقًا مع حكومة الاحتلال، بعد جهود مكثفة بذلتها دوائر المؤسسة الأمنية الاسرائيلية. فرغم أن بريطانيا كانت شريكًا في التصنيف الأوروبي للحركة بالإرهاب عندما كانت عضوًا في الاتحاد الأوروبي، فإن القول بأن هذا القرار جاء ليسد فراغاً قانونيًا من هذه الزاوية، بعد "البريكست" أي الخروج البريطاني من الاتحاد قبل حوالي عامين، و بالتالي لا يحمل جديداً، إلا أن التوقيت يؤكد اليد وليس مجرد البصمة الاسرائيلية حول اعلان هذا القرار، وقد تداولت بعض وسائل الإعلام الاسرائيلية دور"رونين بار"رئيس الشاباك الجديد في بلورته وإعلانه.
ويأتي القرار البريطاني ، في خضم قرار حكومة الاحتلال بتصنيف ست مؤسسات من المجتمع المدني الفلسطيني بالإرهاب، في وقت أن بعض هذه المؤسسات يتمتع بمصداقية عالية ومكانة مرموقة في إطار المنظومة الدولية لمؤسسات الدفاع عن حقوق الإنسان، ودورها المميز في فضح الانتهاكات الاسرائيلية للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، واتضاح أن هدف هذا القرار تقويض قدرة المجتمع الفلسطيني على مقارعة اسرائيل وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب ضد المدنيين الفلسطينين.
ليس صدفة أن هذا القرار يترافق مع جهود تفاوضية حثيثة لبلورة ما يسمى بهدنة طويلة الأمد بين حركتيّ حماس وحكومة الاحتلال، تحمل في ثناياها محاولة اسرائيلية لفصل قطاع غزة عن باقي الكيانية الفلسطينية، وترسيخ حكم حماس فيه وفق المواصفات والشروط الاسرائيلية، ومن الواضح أن هذه الجهود تقترب من نهاياتها رغم بعض الملفات الصعبة التي ما زالت تؤخر إجمال هذه الصفقة.
إن حكومة الاحتلال التي تفاوض حركة حماس بصورة غير مباشرة، وربما شبه مباشرة، وفق توجهات "لبيد" التي تعتبر نسخة منقّحة من رؤية نتنياهو إزاء مستقبل قطاع غزة بسلخه خارج الكيانية الفلسطينية، وتحويل القضية الوطنية لمجرد احتياجات إنسانية؛ ليس فقط لتعزيز الانقسام، بل ودفعه خطوة إضافية كافية نحو حالة انفصال لمنع قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة، ويترافق ذلك مع استمرار محاولات تدجين الحركتين الرئيسيتين "فتح وحماس" لخدمة هذه الاستراتيجية الإسرائيلية، كلٌ بما يناسبه؛ أي تحويل السلطة في رام الله لمجرد وكيل أمني في إطار إدارة ذاتية منزوعة الصلاحيات، وحبيسة أزمة الثقة الشعبية بها، والتي تتعمق يومًا بعد يوم، وإدارة محلية في قطاع غزة تديرها حركة تصفها اسرائيل وحلفائها بالإرهاب، لإبقاء، بل وإحكام، السيطرة عليهما بحيث لا يستطيع أي منهما أن يكون قادرًا على إعادة بناء الكيانية الوطنية في كل الظروف.
هذه الخطة الاسرائيلية لتفتيت الوطنية الفلسطينية وإعادة إنتاج تصنيفها بالإرهاب، بالإضافة إلى رفض مجرد الاستعداد للحديث مع القيادة الفلسطينية، هي جزء من خطة مركبة تمارسها اسرائيل لتمزيق الشرعية الوطنية ومعها شرعية النضال الفلسطيني، وبما يساعدها في خطتها الرامية لمحاصرة الرأي العام الدولي المتنامي، ليس فقط في مساندة حق الشعب الفلسطيني لتقرير مصيره، بل، ولجهة اعتبار سياسات الاحتلال وممارساته بمثابة جرائم حرب تستدعي المساءلة، ووقف الدعم غير المشروط الذي تقدمه الولايات المتحدة وحلفائها لحكومة الاحتلال.
سؤال المليون! هل تدرك السلطة الوطنية وحركة حماس مدى الخطر الداهم الذي يتعرض له النضال الوطني والقضية الفلسطينية برمتها، والذي لا يمكن أن يواجَه بمجرد الاستمرار في اجترار الكلام الممجوج عن الوحدة الوطنية، أو عن إدانات لفظية للقرار البريطاني، أو الاسرائيلي الخاص بالمؤسسات الستة، دون استخلاص ما يكفي من العبر التي تُحتِّم ضرورة اتخاذ مواقف عملية وبلورة استراتيجيات عمل جدية لحماية شرعية النضال الوطني وتضحيات الفلسطينيين على مدار أكثر من قرن؟ وهل من سبيل لمحاصرة هذا الخطر غير استعادة الوحدة الفلسطينية وترسيخ مؤسساتها التمثيلية الجامعة عبر انتخابات ديمقراطية، قادرة على اجتثاث كل الأدران التي تفتك بالجسد الفلسطيني، واستعادة مكانة القضية الفلسطينية بتحويل التعاطف الدولي لإرادة سياسية في مواجهة الاحتلال والأبارتهايد.
هل سيكون على جدول أعمال الرئيس عباس، الذي يزور موسكو هذه الأيام، مسألة توحيد صفوف الفلسطينيين لإعادة بناء منظمة التحرير كبيت جامع للكل الفلسطيني،وصون شرعيتها الموحدة ومكانتها التمثيلية، سيّما أن العاصمة الروسية تتمتع بعلاقات متوازنة مع كافة الأطراف الفلسطينية والإقليمية، خاصة أن الإدارة الأمريكية، كما يبدو، لم تعد ترفع البطاقة الحمراء ضد الحاجة لتوحيد الفلسطينيين، كخطوة على طريق استعادة الديمقراطية، وربما لإبقاء ما تعتبره واشنطن الحل الوحيد الممكن "حل الدولتين" حيًا.
وهل، بعد كل هذا المخاض العسير، ستستخلص حماس العبر بأن حماية شرعيتها يتم فقط في إطار صون الشرعية الجامعة والحقوق الوطنية، وليس على أنقاضهما؟!